الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل هناك خلق أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الحديد؟ قال: نعم النار، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من النار؟ قال: نعم الماء، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الماء؟ قال: نعم الريح، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله (1)»، وهذا من الأمانة التي يزداد أجرها، كلما أديت بخفية.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، حديث رقم (11805)، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة المعوذتين، حديث رقم (3291).
مداخل الأمانة:
والأمانة ليست أمانة المال المستودع، ولا العرض الذي يتعامل به الناس: بيعا وشراء، ومداينة واستيداعا، ولا أخلاقا يتحصل عليها الفرد، ليكسب بها محمدة، أو ثناء عند الآخرين، أو تكون بدافع شخصي، ينال به أرباحا مادية أو معنوية.
بل هي أوسع دائرة، وأعظم أثرا.
فمن ذلك الأمانة السرية في جميع الأعمال: فإن من أعمال بني آدم، الذين يريدون بها وجه الله، استجابة وأجرا، هذه الأمانة التي لا تبرز أمام الآخرين، إلا عرضا
…
مطلب صاحبها رضى ربه حتى
ترتفع مكانته عنده سبحانه، لأنه بادر بإخفائها، وأداء حقها في وقتها، مراقبة لأمر الله سبحانه، وخوفا من عقابه، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما ذلك إلا أن الأمانة كلما استقرت في الوجدان، ظهر أثر العمل، وحسن الأداء، بالدافع من القلب، لأداء الجوارح: تعظيما لله في حق الأمانة عند الأداء.
أما إذا خف ميزان الأمانة، عند بعض الناس وعدم المبالاة بحقها، جحودا لمكانتها، متجاهلا أو متهاونا بعقاب الله، فإن هذا دليل على ضعف الوازع الإيماني، الذي إن لم يتدارك المرء نفسه، قبل فوات الأوان، فإنه يخشى عليه، من العاقبة السيئة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد وثق رابطة الأمانة بالدين، الذي هو مهمة الإنسان في هذه الحياة، والسر الذي خلق من أجله، وهو عبادة الله سبحانه، والمحافظة على الأمانة، جزء من عبادة الله في نفسه، وفيما حوله، وما تحت يده؛ امتثالا لأمر الله، ومحافظة في الأداء.
وما جاء في شرع الله، قد بثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته: قدوة في العمل، وإيضاحا للأمة، وحثا على حسن الأداء.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم في الحج: «خذوا عني مناسككم (1)» .
وفي الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي (2)» .
وفي التبليغ: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب (3)» .
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062)، مسند أحمد (3/ 318).
(2)
صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246)، سنن الدارمي الصلاة (1253).
(3)
سنن ابن ماجه المقدمة (233)، مسند أحمد (5/ 37)، سنن الدارمي المناسك (1916).
وفي الدعوة: «بلغوا عني ولو آية. فرب مبلغ أوعى من سامع (1)» .
والمنطلق في ذلك ما بينه رب العزة والجلال، في سورة الذاريات، عن المهمة من خلق الله سبحانه: الجن والإنس، حيث قال جل وعلا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2){مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3){إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4).
ومن هذه المهمة: أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكانة الأمانة من الدين الحق: وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من الثقلين دينا غيره، وهو من خصوصية أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأكرمهم الله به ورفع منزلتهم به بين الأمم، فصاروا كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (5).
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ليست مقتصرة على العرب وحدهم، ولكن كل من انقاد للإسلام، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، فهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
…
ويستحق مكانته بالخيرية، بحسب نيته وعمله.
والمتمعن في التاريخ الإسلامي ورجاله، يدرك الدور الذي أداه الأعاجم، والأمانة التي تفانوا في الاهتمام بها: في العلوم وحفظ السنة، والدفاع عن دين الله، والصدق والأمانة في الحفاظ على
(1) صحيح البخاري الحج (1741)، مسند أحمد (5/ 49).
(2)
سورة الذاريات الآية 56
(3)
سورة الذاريات الآية 57
(4)
سورة الذاريات الآية 58
(5)
سورة آل عمران الآية 110
مكتسبات الإسلام، وصيانتها.
وفي هذا الحديث، الذي جاء بطرق متعددة، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، جاء هذا النص:«أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة - وفي رواية - وآخره الصلاة» . يعني: بأن آخر ما تفقدون من الدين الصلاة " (1).
وهذا إنذار لكل مسلم، عن أهمية وعظم الأمانة، ومكانتها من عقيدة المسلم، وعدم التساهل فيها، لأن شيئا فقد أوله، حري بالتهاون أن يفقد آخره تدريجيا، وبذلك يضيع الدين من الإنسان، ويهلك بضياع الأمانة: اعتقادا وعملا.
وهذا ما يحرص عدو الله، إبليس عليه في تثبيط الناس عنه: كسلا ثم تهاونا فاستمراء، ثم الترك بالكلية، ويعاونه على ذلك، أعوانه من الإنس والجن: الإنس بالتسويف والأماني والتهوين بمكانة الأمانة، والجن من المردة والأبالسة، بالوسوسة والآمال، والعاقل يدرك: أن من ضل وغوى، لا يتهنى إلا بجر الآخرين إلى المنحدر الذي أوصلتهم إليه: الاستهانة بالأمانة، والتمادي في إهمال دورها.
والصلاة من الأمانات المستحفظ عليها الإنسان، بالنية الصادقة،
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني برقم: 1739 نشر دار المعارف بالرياض.
وإسباغ الوضوء، والطمأنينة في الركوع والسجود، وسائر الأركان، والواجبات والشروط، المرتبطة بهذه العبادة، التي مدح الله الخاشعين فيها، فقال سبحانه:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1){الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2){وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (3).
ولم يقتصر الأمر بالثناء على الرجال الخاشعين، بل حتى النساء شريكات، في حسن أداء هذه الأمانة، والإثابة عليها، عندما ذكر سبحانه عشر صفات، من حرص عليها محافظة وأداء، كسب ما أعد الله لهم من مغفرة وأجر عظيم، فقال تعالى:{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} (4) الآية.
ذلك أن الأمانات المتعددة، التي حمل الإنسان نفسه ثقلها، يجب عليه الحرص بمراعاتها، ووضعها أمام عينيه، ماثلة في كل لحظة، ليراعيها ويحوطها بالاهتمام والعناية، كما يهتم بما يتعلق به، أو أكثر من مراعاة أمانة الأمور الثمينة عنده: من نقد ومتاع ونفائس، وعروض وأمور أثيرة عند أصحابها، كما يقولون:" بأن المال وزين الروح ".
فإذا كانت هذه الأمور النفيسة، والغالية في ثمنها، لا يضيعها في مفهوم البشر إلا السفهاء، وشرار الخلق، ومن يحكم بجنونهم،
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2)
سورة المؤمنون الآية 2
(3)
سورة المؤمنون الآية 3
(4)
سورة الأحزاب الآية 35
حيث يحجر عليهم.
فكيف يهون على هذا الإنسان أن يقصر في الأمانات مع الآخرين، حقوقا وودائع، ومع الله سبحانه، شرائع وعبادات فلا يؤدي حقها، ولا يصون أمانتها وثقلها.
إن حق الله أولى بالأداء، وأهم في الرعاية والمحافظة .. .
ولا مبرر لذلك إلا غلبة الهوى، وتسليم النفس الأمارة بالسوء القيادة .. فقادت صاحبها إلى الاستهانة بالحرمات، التي عظمها الله، وفي مقدمتها: الأمانة أيا كان نوعها .. والشاعر يقول:
من يهن يسهل الهوان عليه
…
ما لجرح بميت إيلام
ومن هانت عنده شرائع الله، واستخف بالحرمات، فمن باب أولى أن تهون عنده الأمانة، بمفهومها العام، لأنها مرتبطة بتقوى الله سبحانه، ومراقبته في السر والعلن، ولا يتساهل في الأمانة إلا من قدم شهوات نفسه، على أمر الله وأمر رسوله، فالنفس في حاجة للمجاهدة، وكبح جماحها، حتى لا تستسلم لما تميل إليه من ربح عاجل، نتج عن أكل حقوق الآخرين: ضعفاء لا يستطيعون المدافعة، وأيتام لا يدركون حقوقهم، ونساء يستغل ضعفهن، وعدم قدرتهن. فتضيع الأمانة مع أثرة النفوس، وغلبة الهوى، وحب الاستعلاء والشهوات، وغير ذلك من أمور تدخل تحت سقف الشهوات،
المقدمة على أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
والنفس بطبيعتها تميل للأمور العاجلة، ولا يكبح جماحها، إلا الانقياد لأمر الله، وحمايتها بالوازع الإيماني، الذي هو حصن قوي، يردعها عن الاستسلام للشهوات، التي في مقدمتها ضياع الأمانة، والانقياد للهوى، وعاجل المتاع من الدنيا، يقول سبحانه:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1).
وهذه الأصناف بعد العبادات، جزء مما يدخل تحت سقف ضياع الأمانة، والتهاون فيها: طمعا أو تعديا، وفي عرض شرع الله للأمانة، يقول تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (2).
وهذا أمر جازم، بأهمية المحافظة على الأمانة لثقلها، والدور الواجب رعايته بشأنها، سواء لنفسه بالظلم والانصراف عن طريق الحق، الذي أمره الله به، أو مع الآخرين كبرت الأمانة، أو صغرت بحسب الإنسان، ومن يتعامل معه، والشاعر يقول:
والظلم من شيم النفوس وإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2)
سورة الأحزاب الآية 72
فالمسلم العارف ما له وما عليه، هو الذي يرعى هذه الأمانة، في علاقته بغيره، سواء في داخل بيته: مع أهله وولده، أو من يرتبط بهم في العمل، لأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما حتى لا يتظالموا.
وعن هذا الدور، في المكانة للأمانة ورعايتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عن أمين السر، حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا «أن الأمانة نزلت، في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها المجل كحجر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما
أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم قال: ولقد أتى علي زمان، وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا، ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا (1)»
ومن الأمانة: المحافظة على عصمة دماء المستأمنين، والمعاهدين، وأهل الذمة: في أموالهم وتحريم الاعتداء عليهم، استجابة لأمر الله سبحانه:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2).
وعدم الوفاء لهم ما داموا على العهد، مستقيمين يتنافى مع مكانة الأمانة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأحاديث:
1 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما (3)» أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة،
(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، حديث رقم (6497)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة من بعض القلوب. . حديث رقم (143)، وينظر في هذا الحديث كاملا: جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط الطبعة الأولى عام 1392 هـ - 1972 م، 11: 3 - 5.
(2)
سورة التوبة الآية 4
(3)
صحيح البخاري الجزية (3166)، سنن النسائي القسامة (4750)، سنن ابن ماجه الديات (2686)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 186).
باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (1).
كما جاء أيضا في باب الديات: باب من قتل ذميا بغير جرم (2).
2 -
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل معاهدا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة (3)» .. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته (4).
3 -
وفي رواية النسائي كتاب القسامة، باب تعظيم قتل المعاهد، جاءت بنص:«من قتل رجلا من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما (5)»
4 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من قتل نفسا معاهدة، له ذمة الله، وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا»
…
أخرجه الترمذي في كتاب الديات، باب من يقتل نفسا معاهدة، وقال: حديث صحيح (6).
5 -
وعن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء الصحابة، عن
(1) رقم: 3166.
(2)
برقم: 6914.
(3)
سنن النسائي القسامة (4747)، سنن أبي داود الجهاد (2760)، سنن الدارمي السير (2504).
(4)
رواية أبي داود برقم: 2760.
(5)
سنن النسائي ب 8: 24 - 25.
(6)
برقم: 1403.
آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة (1)»
…
أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والفيء، باب في تفسير أهل الذمة (2).
6 -
وأخرج أبو داود أيضا، في كتاب الخراج عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يحل لكم، أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب، إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم (3)»
وغير هذا من النصوص الشرعية، وأقوال العلماء، ما داموا لم يرفعوا راية ضد الإسلام وأهله، ولم ينقضوا عهدا مبرما معهم، أو يعلنوا العداء للإسلام ونبيه، قولا أو فعلا.
فإذا كان هذا لأهل الكتاب، فما بالك بأصحاب الفكر الضال، والآراء المنحرفة، وقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، وترويع الآمنين، والتسلط على العلماء: إيذاء وتهديدا، وحفاظ الأمن، والقيادات في الدولة
…
وتكفيرهم .. إن ذلك من خيانة الأمانة، ومن إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا .. فهذا زيادة عن كونه بعيدا عن الأمانة،
(1) سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (3052).
(2)
برقم: 3058.
(3)
المصدر السابق.
ففيه خروج على ولي الأمر، وإيذاء لجماعة المسلمين، يقول سبحانه:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1).
وقد عرف العلماء الأمانة، تعريفا دقيقا: بأنها كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله، ومن المكلف كذلك وألزم، ويرى ابن عباس: بأن الأمانة هي الفرائض التي أمروا بها، ونهوا عنها، وقال أبو بكر بن العربي: المراد بالأمانة في هذا الحديث: الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها: أن الأعمال السيئة، لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف، لم يبق أثر للإيمان، وهو التلفظ باللسان، والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكنى عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب له مثلا، لزهوق الإيمان عن القلب، حالا بزهوق الحجر عن الرجل، حتى يقع في الأرض.
والأمانة أماكنها كثيرة جدا، ومنافعها واسعة وذات أثر، إذا أديت على وجهها، وعديدة حيث تأتي في كل شأن من شؤون الحياة، ويتعدى نفعها إذا أحسن أداؤها، ويستشري ضررها وينتشر بالعدوى،
(1) سورة الأحزاب الآية 58
إذا استهين بها، وخف ميزانها لدى بعض الناس، فهي مرتبطة بالإنسان ومصالحه، وبدينه الذي هو عصمة أمره وعقيدته، وإن اهتمام الإنسان بها، وحرصه على الوفاء بها: رغبة فيما عند الله، واستجابة لأمره سبحانه، واتباعا لتبليغ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم لهو أمر بالغ الأهمية، لأن مادتها ودلالتها، تكررت في كتاب الله الكريم، وفي سنة رسول الله، مرات عديدة، مؤكدة، وغير مؤكدة، والبلاغيون يقولون: زيادة المبنى، زيادة في تمكين المعنى.
- فمن أمانة جوارح الإنسان: اللسان بعدم إفشاء الأسرار، التي اؤتمن صاحبه عليها، كما جاء في حديث روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كف عليك هذا (1)» . فقال: يا رسول الله أنحن مؤاخذون بما نقول؟ فأجابه الصادق الأمين بقوله: «ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم (2)»
وأمانة الأعمال الدنيوية، منها الشخصي والتجاري، ومنها الأعمال الرسمية، التي فيها أسرار جهة العمل، سواء كانت الدولة: عسكريا وأمنيا وعلميا، أو الشركات والأفراد، وما يقع تحت السمع
(1) أخرجه الترمذي برقم: 2616، وابن ماجه برقم 3973، وأحمد في مسند الأنصار برقم:21511.
(2)
أخرجه الترمذي برقم: 2616، وابن ماجه برقم 3973، وأحمد في مسند الأنصار برقم:21511.
واليد، أو البصر وغير ذلك
…
مما يتعلق بالأمن والمجتمع والأسر، وخصوصيات الأفراد والبيوت .. وكل ما له رابطة بالدولة وأمنها، وسلامتها، أو الجهة التي اؤتمن الشخص عليها.
فالإنسان يجب أن يكون أمينا على أسرار عمله: أهليا أو حكوميا، وأن يتعهد بعدم إفشاء ما تحت نظره، وما تناله يده، عن أي شيء يلتقطه الآخرون منه، فيعتبر الإفشاء به، ولو كان في نظره بسيطا، فإن له أثرا بالغا بولاة الأمر، وبالعاملين لمصالح البلاد والعباد.
وفي العمل الأهلي الخاص، فقد يضر به، في مجالات متعددة: حسدا ومنافسة ومبالغة في الإضرار، وما ذلك إلا أن كلمة تتفوه بها، أو معلومات يتحدث عنها العامل، ولو رأى ذلك الأمر بسيطا، لا يعبأ به في عفويته
…
.
هذا الأمر من التهاون بالأمانة، وعدم كتمانها سرا، قد يعتبر ضررا كبيرا، على صاحب العمل، وقد يبنى عليها أمور بالغة الخطورة، مما دفع الجهات كثيرة الحساسية في عملها الدقيق، أن تجعل شعار موظفيها ثلاث كلمات تبرز أمام الجميع، لتأكيد خطورة ما قل من الأمانة، وهي: ما رأيت، وما سمعت، وما علمت. وهذا الرمز في غاية الكتمان، والمحافظة على الأمانة.
ويجب ألا يستهان بهذا، ولا يستصغرن الإنسان، في الأمانة،
أمرا مهما تضاءل في ذهنه، فإن الطفيف عنده، لقطة عند الطرف الآخر، ثمينة، يبنون عليها جسورا عديدة، هذا من أهم الأمانات الأمنية، وهو من طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة ولي الأمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فقد تنفصم عرى الحياة الزوجية، في أمر أفضى به رجل لامرأته، أو امرأة لزوجها لأنه لم يكتم، وقد تفلس شركة، أو يغلق متجر، بنفس السبب، وقد تتضرر دول، بمعرفة العدو هذا السر
…
.
فقد قالت بنت نبي الله شعيب عليه السلام، عن موسى عليه السلام، كلمة، رغبته في أن يستأجره، ويزوجه ابنته، وهي ما لاحظته عليه من أمانة غض النظر فقالت:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (1)(2).
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا عبيدة بن الجراح: أمين هذه الأمة، بقوله الكريم برواية سالم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح (3)»
وممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمانة أبي عبيدة: أبو بكر
(1) سورة القصص الآية 26
(2)
سورة القصص الآية: 26، ويراجع تفسير ابن كثير، وما جاء في هذه الآية.
(3)
أخرجه البخاري برقم: 3744 في مناقبه. ومسلم برقم: 2419 في فضائل الصحابة.
الصديق، وابن مسعود وحذيفة، وخالد بن الوليد، وأنس وعائشة، ولعل أمانته جاءت من ورعه، وزهده وقوة إيمانه، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لأصحابه: أتمنى أن هذه الدار، مملوءة مثل أبي عبيدة بن الجراح.
فقد دخل عليه في بيته بالشام، رضي الله عنهما: فلم يجد فيه إلا سيفه وترسه ورحله، وهو مضجع على طنفسة رحله، متوسدا الحقيبة، فقال له: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل (1).
وأمانة المجالس وما يدور فيها، من أحاديث ولو كانت عابرة: في إفشائها ضياع للمصالح، وفتح لباب الحزازات التي قد تسبب الكراهية، وفتح باب القيل والقال، والغيبة، والنميمة التي هي الحالقة، والحسد، والبغضاء، الذي يأكل الحسنات، مع الآثار السيئة التي لا تخفى على العقلاء، ولذا كانت تقال هذه الكلمة: المجالس بالأمانات.
أما أمانة العبادات، فهي أمور بين الخالق والمخلوق، ودقيقة وذات حساسية، ولا يقويها ويمكنها، إلا الإيمان الراسخ، وتقوى الله: التي هي مراقبته سبحانه في السر والعلن، فإذا قوي الإيمان، اهتم
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني في نشر دار أم القرى بالقاهرة ج 1 ص 101 - 102.
صاحبه بالأمانة: طاعة لله، ووفاء بحقها: محافظة وتطبيقا.
ومع الخلل الذي يطرأ على الإيمان، ومكانته من قلب صاحبه، فإنها تهون عليه الأمانة، فيضيعها: سواء في الصلاة والمحافظة عليها، أو في الوضوء والخشوع في الصلاة، أو الزكاة وأداء حق الله لأهلها المستحقين، أو الصوم في شهر رمضان: وفاء وعقيدة وتمسكا سرا وجهرا، فقد اختصه الله سبحانه له:«فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (1)»
كما أن المرتبة الثالثة، من مراتب العقيدة: الإحسان وقد عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جبريل المشهور: «قال أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (2)» وهذا من المنازل الكبيرة في أمانة العقيدة، وعبادة الله، على الوجه الذي يرضيه جل وعلا.
ولذا يستشهد طلبة العلم، على الإنسان، وهو يؤدي عباداته التي فرضها الله عليه، حتى تكون الأمانة، مراقبا الله في أدائها، بقول الشاعر
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
…
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله عنك بغافل
…
ولا أن ما يخفى عليه يغيب
(1) رواه البخاري ومسلم، في فضل الصوم.
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، حديث رقم (9).
فقد يقوم في الصف للصلاة رفيقان، حرصا على الحضور والمبادرة، فأحدهما يرجع ظافرا مقبولة عبادته، لأنه أداها بأمانة وصدق، بعد أن اهتم بالأمانة، في جميع أموره
…
وقمن أن يستجاب له. أما الآخر فأنى يستجاب لدعائه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذكر فيه:«الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك (1)»
وأما أمانة العهود والمواثيق، سواء كانت بين الأفراد في التعامل والمعاملات والمداينات، حتى تستقيم الحياة بين الناس، وتحفظ الحقوق: هانئة هادئة، مع الوفاء والمراعاة، لهذه العهود والمواثيق، فإنه لا بد من الاهتمام بأمانتها: بيعا وشراء، وتعاملا ووفاء، بشروط ما تم الاتفاق عليه، بدقة وأمانة، وتوثق كتابة وشهودا، خوفا من النسيان، وعدم الكتمان أو إخفاء العيوب، الذي يدخل في الغش.
أو كانت في الحرف المتنوعة، والاستصناع، ومراعاة لحدود البيع والشراء، وحسن التعامل، بلا غش ولا خيانة، ولا ضرر ولا ضرار، ولا احتكار للأقوات والأرزاق، ولا غير ذلك مما يدور في فلك المجتمع، بحسب ما تمليه تلك المواثيق على الإنسان ومعاشه،
(1) أخرجه مسلم في الزكاة: برقم: 1015، والترمذي في تفسير القرآن برقم:2989.
وعلى ما يتعامل به حيوانات وزراعات، وغير هذا مما يدخل تحت الوفاء بما تم الاتفاق عليه، دون اعتلاء أو اعتداء
…
حفظا للمواثيق المبرمة، وانتظاما في التعامل، وفقا لما يحدد من التزامات على كل طرف: بين الدول والجماعات، أو الأفراد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«المسلمون على شروطهم (1)» ، «ويسعى بذمتهم أدناهم (2)»
هذا فضلا عن أمانة المال، والنفائس المتنوعة المحببة للنفوس، التي جعلها الله زينة للإنسان، لأن النفوس تميل وتشتهي ذلك، ومع الشح والطمع، تهون الأمانة، لدى بعض النفوس الضعيفة، باتباع الشهوات، وحب الأثرة، مما يطغى على الأحاسيس، ويضعف الوازع الإيماني لتتحرك النفس الأمارة بالسوء، وتنقاد للرغبات، التي يتعاون فيها: الشيطان والهوى والنفس، فتتم السيطرة على إرادة الإنسان، ومن ثم تضيع الأمانة، بعد التساهل في أدائها تدريجا وتسويفا، ليقع في إثم الاستهانة بالأمانة، لأن من يهن يسهل الهوان عليه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالسا مع أصحابه يحدثهم، كما روى البخاري رحمه الله بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله في
(1) جزء من حديثين الأول: المسلمون على شروطهم. أخرجه الترمذي في الصلح برقم: 152، وأبو داود برقم: 3594، والثاني: ويسعى بذمتهم أدناهم. أخرجه النسائي في القاسمة برقم: 4734، وأبو داود في الديات برقم:4530.
(2)
جزء من حديثين الأول: المسلمون على شروطهم. أخرجه الترمذي في الصلح برقم: 152، وأبو داود برقم: 3594، والثاني: ويسعى بذمتهم أدناهم. أخرجه النسائي في القاسمة برقم: 4734، وأبو داود في الديات برقم:4530.
مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله. قال: إذا ضيعت الأمانة، فانتظروا الساعة. قال السائل كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أوسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة (1)»
وما ذلك إلا أن الساعة، التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، من علامات اقتراب وقوعها: أن يضيع المجتمع بأسره الأمانة، ولا يزال في هذه الأمة، مجال للخير واسعا، ما دامت الأمانة تجد رعاية واهتماما، ومحافظة ودعوة إلى التعاون في سبيل الوفاء بالأمانات، والإنكار على من يتهاون بها.
وما ذلك إلا أن الأمانة من الإيمان، الذي مر بنا تعريفه بأنه: تصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، وقول باللسان، ولا بد من تلازم هذه الأمور الثلاثة، حيث يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فإذا أضيعت الأمانة، فسدت الأمم، وتعدى القوي على الضعيف، وكثر الاستهانة بحقوق الآخرين عامة وخاصة، وبذلك تنعدم الثقة بين
(1) ينظر جامع الأصول لابن الأثير تحقيق الأرناؤوط عام 1392 هـ - 1972 الطبعة الأولى 1: 321.
الناس، ويقل عمل الخير والإحسان.
ومتى قوي الإيمان في القلب بقوة الوازع السلطاني، الذي يحرك الله به العلماء والدعاة، لإنكار المنكرات، وتقوية القلوب بالإيمان، فإن صاحبه يحرص على جذب الجوارح للأعمال الصالحة، المحببة عند الله، وعند الناس، فيغير الله بالنية الصادقة، المجتمع من حال إلى حال، كما جاء في الحديث الصحيح:«ألا وإن في الجسد، مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1)»
فالنفوس الخيرة، مع صلاح المضغة، تندفع إلى ما يفيد ويسعد به المجتمع، ليعف بعضهم عما بأيدي الآخرين: رجالا ونساء، ويحمدون الله على ما هيأ لهم، بعد مجاهدتهم النفوس، وكبح جماحها عن الطمع، وتنمية جانب الخير، وبذا تكبر مكانة الأمانة، ليحف الأمن جوانب المجتمع، الذي يزدهر، وينمو في المال، وتنتشر الألفة بين أبنائه في تعاملهم، لأن الاقتصاديين يقولون: رأس
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه حديث رقم (52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم (1599)، وأورده ابن ماجه في سننه عن النعمان بن بشير تحقيق محمد مصطفى الأعظمي الطبعة الثانية 1404 هـ - 1974 م 2: 375 برقم 4032.
المال جبان لا ينمو إلا مع توفر الأمن، ثم الأمانة، التي بصدقها في التعامل، يحوطهم الله بعنايته ورحمته
…
ينزل في أعمالهم وأموالهم البركة والنماء، ويصبح المال آمنا يستفيد منه طبقات الأمة لأن الله حذر من الاحتكار بقوله الكريم:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1).
ولأن كل فرد متى حاسب نفسه، ووازن فيها المكاسب بين عامل الخير، والانحراف إلى الشر، فإنه يرعى حق الأمانة: بين العبد وربه: مراقبة وتقوى، وذلك بأداء ما افترض الله عليه، والاتجاه لما يحبه الله، واجتناب ما عنه نهى، وبذا مع هذا المؤشر، نرى حق الأمانة، فيما بينه وبين من يتعامل معهم: من أهل وولد، وجار وصاحب، أو من تربطه مسؤولية العمل، أو الصداقة أو مع الآخرين، أيا كانوا، ستقوى بلا شك رابطة الأمانة معهم: تأثرا وتأثيرا، ويعظم شأنها: أداء وحفظا واهتماما، لأن عامل الخير مع الناس، من عوامل الوفاء بالأمانة.
بل سوف تمتد مسؤولية الأمانة، مع الحيوانات والطيور، بحسن الولاية، والإحسان إليهن لأن الله محسن يحب المحسنين، ولا يرضى الإساءة في التعامل، مع كل نفس رطبة: لا إهمالا ولا إطعاما ولا سوء ولاية.
(1) سورة الحشر الآية 7
وفي قصة المرأة التي دخلت النار في هرة، حبستها ومنعتها من الطعام والشراب، حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، شاهد على ذلك.
فهذا الجزاء الذي أدخل هذه المرأة النار، جاء من ضياع الأمانة، وسوء الولاية كما هو نص الحديث.
ولئن اختلف المفسرون، وشراح الحديث، في مفهوم الأمانة بالتعريف الشامل، أو حصرها في جانب حدده بعضهم دون جانب، فإن جميع الدلالات تلك، التي جاءت عند ابن كثير رحمه الله وغيره، تلتقي في المفهوم العام للأمانة، مع الحقيقة الشرعية، في مفهوم الأمانة، وما يجب في أدائها، والمحافظة عليها، من حيث التعريف والتعظيم بما عظمه الله شرعا.
وجاء تعظيم الأمانة، لأن حملها ثقيل، والوفاء به أمر مشروع، ويؤصل ذلك ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من تخويف وعقاب، لمن يتهاون في أداء حقها، لما وراء ذلك من نكال أخروي أليم:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1).
(1) سورة الكهف الآية 49
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: عبارة مجملة، تبين أنه لا منافاة بين تخصيص كل تعريف، من التعاريف التي جاءت عنده، أو عند غيره، بدلالة معينة، حول خصوصية الأمانة، كمن قال: إنها في غسل الجنابة، أو في الوضوء، أو في محافظة المرأة على موطن العفة، أو في الأمانات المالية أو المادية، أو في عرض من الأعراض المختلفة، أو في فلتات اللسان بالأسرار ذات الخصوصية، التي ينبني عليها ضرر بالفرد أو الجماعة، أو يحدق بالأمة بأسرها.
سواء مما ذكرنا، أو لم نذكره، لشمول الأمانة على كل ما يدور حول الإنسان: وهذه العبارة في قوله: فإن كل الأقوال التي أوردها السلف من هذه الأمة لا منافاة بينها، ولا تخصيص كل تعريف من التعاريف، التي جاءت بدلالة معينة، حول خصوصية الأمانة. كمن قال إنها في غسل الجنابة، أو في الوضوء، أو في المال والجواهر، كما مر أو في غير ذلك.
فإن كل الأقوال، لا تضارب بينها، بل هي متفقة، وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر، والحذر من النواهي، في الإخلال بشرط الأمانة، الذي بينه الله للجبال، والسماوات والأرض، وهو: إن قام بذلك أثيب، وإن تركه عوقب، فأخافهم ذلك، وقبلها الإنسان،
على ضعفه وجهله، وظلمه لنفسه، إلا من وفقه الله (1).
ولعلنا نأتي بمثل محسوس في هذا، ويقع في حياة الناس كثيرا، من تساهل البسطاء من الناس، والجاهلين بمسؤولية الأمانة حيث يقعون في المصيدة، ولا ينفعهم الندم، لأنهم لم يمتحنوا إيمان ودين من تساهلوا معه، ليعرفوا محك الإيمان من قلوبهم، إذ طالما كفل إنسان شخصا في دين أو أي نوع من التعاملات الدنيوية: كفالة غرم، أو كفالة حضور، مما يقود الكافل عند هروب، أو تمرد من كفل، ليقاضيه صاحب الحق، الذي ضمنه عند الجهات الشرعية، فتلزمه المحكمة، بأداء ما كفل، أو بجزاء أكبر عندما يعجز عن الوفاء، وعليه أن يبحث عن المكفول، وهذا من ضياع الأمانة، التي خانها هذا الصاحب، وجازى المعروف بالإساءة، ولم يرع المترتب عليه من حق، حمله غيره، لذهاب الورع الديني، والتقوى في قلبه.
وهذا ما يسميه بعضهم من فساد الزمان، ولكن الزمان لا يفسد، وإنما الذي يفسد من فيه، عندما يستهينون بشرع الله، في كل أمر، ومنها الأمانة، التي هي أول ما يفقد من الدين، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
…
وما لزماننا عيب سوانا
(1) تفسير ابن كثير، كتاب الشعب: 3/ 522.
بل كانت الأمانة في كثير من الأوامر الشرعية، التي هي حق الله، ولا مطالب لها من البشر، وإنما هو ثواب أو عقاب من الله، في يوم المعاد، حين لا ينفع الندم، كما مر في حكاية الآدمي، الذي يطالب بأداء أمانة ضيعها في الدنيا، فيقول: كيف أؤديها، وقد انتهت الدنيا وما فيها، فتصور له كهيأتها التي يعرفها، ليحملها ويؤديها، وهو في نار جهنم، فإذا صعد بها تدحرجت عند بلوغ النهاية، وهوت في قعر جهنم، وهكذا يستمر معها صعودا ونزولا، إلى ما شاء الله، وما ذلك إلا تصوير محسوس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان لثقل الأمانة، التي عظم الله شأنها، ليحذرها كل مؤمن (1).
وقد مدح الله سبحانه المؤمنين وأعلى منازلهم، بحرصهم على أداء الأمانة، وتورعهم عن أخذ ما فيه شبهات، رعاية لحقها: أداء ومحافظة وتوعية، ومن أهمها أموال اليتامى وغيرهم المستحفظ عليها، ومثلا يحتذى، بوازع إيماني، وبتقوى الله فيما بينه، وبين الآخرين، فقال جل وعلا:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2)، بعدما أثنى الله عليهم سبحانه، بأداء أمانة التكليف، بأمور عديدة جاءت
(1) يراجع في هذا، تفسير ابن كثير، وتفسير السيوطي، لآية الأمانة في آخر سورة الأحزاب.
(2)
سورة المؤمنون الآية 8
في أول السورة، وغيرها من كتاب الله، وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
فقد حدث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم (1)»
وحدث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الخازن المسلم الأمين، الذي يعطي ما أمر به، فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به، أحد المتصدقين (2)» وهذا من الاهتمام بالأمانة، والسعي فيها.
أما رواية النسائي فهي قوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3)» . وقال: «الخازن الأمين، الذي يعطي ما أمر به، طيبا به نفسه، أحد المتصدقين (4)»
وفي مجال التدرج، في مهاوي خيانة الأمانة، والاستمراء تعمدا في هذا العمل الرذيل، يأتي حديث أورده، ابن ماجه في سننه، بتحقيق الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي، في الطبعة الثانية، عام
(1) أخرجه أحمد 2: 177، برقم 6652، والبيهقي في شعب الإيمان 4: 321 برقم 5258 وغيرهما.
(2)
هذه رواية البخاري ومسلم وأبي داود.
(3)
صحيح البخاري الأدب (6027)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585)، سنن الترمذي البر والصلة (1928)، سنن النسائي الزكاة (2560)، مسند أحمد (4/ 409).
(4)
يراجع في الروايتين جامع الأصول لابن الأثير: 1: 324.
1404 هـ - 1984 م، وبسنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل، إذا أراد أن يهلك عبدا، نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة، لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا، نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة، لم تلقه إلا رجيما ملعونا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعونا، نزعت منه ربقة الإسلام (1)» نعوذ بالله من ذلك.
ومن حرص الصحابة، ثم التابعين على سلامة دينهم وعملهم، فإنهم يتابعون الأوامر الشرعية ليعملوا ويطبقوا، أخذا من المقولة: رحم الله من سأل، وانتهى إلى ما سمع، فقد أخرج أبو داود في باب البيوع، أن يوسف بن ماهك، وهو تابعي مكي رحمه الله، قال: كنت أكتب لفلان، نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت لهم من أموالهم مثيلها، قال: قلت له: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك.
قال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أد الأمانة إلى
(1) سنن ابن ماجه الطبعة الثانية والمحقق حائز على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية 2: 393 برقم: 4103.
من ائتمنك ولا تخن من خانك (1)» أخرجه أبو داود (2).
ولا تزال أمة محمد صلى الله عليه وسلم بخير، ما حرصت على الأمانة، وأكثروا السؤال عنها، حتى تبرأ الذمم ولا ينحدروا على الهاوية، وفق الحديث السابق حتى يبقى حبلهم موصولا فيها - بحمد الله - إلى قيام الساعة.
ولما كان كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهما: النهي عن التعدي، سواء باليد في حقوق الآخرين، أو باللسان، في الدعاء، والتجاوز .. فإن من الأمانة: الوسطية في الدعاء: فلا جفاء ولا غلو.
والله الهادي إلى سواء السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) سنن الترمذي البيوع (1264)، سنن أبي داود البيوع (3535)، مسند أحمد (3/ 414).
(2)
2: 260 في البيوع، ينظر جامع الأصول لابن الأثير تحقيق الأرناؤوط 1389 هـ - 1969 م: 1/ 323.
صفحة فارغة
أدب التخاطب في ضوء السنة
أصول وضوابط
للدكتور علي بن عبد الله الصياح (1)
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فإن التخاطب مع الناس فن وقل ومن يبرع فيه (2) وهو يحصل بأمرين: بالعلم، والعقل، وبقدر النقص فيهما يكون النقص في أدب التخاطب، فحصول الأمرين هو الحكمة التي قال الله عنها
(1) أستاذ الحديث وعلومه المشارك، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
(2)
ولذا أصبحت تقام له دورات تدريبية على مستوى العالم برسوم مالية وأحيانا تكون مرتفعة السعر!!.
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)، وخطابك دليل على شخصيتك ومن أجمل العبارات التي قرأتها في ذلك قول الإمام الزاهد يحيى بن معاذ:" القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه؛ من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه ".
والتخاطب حاجة ضرورية للمرء في يومه وليلته لا بد له منه، ولذا كان على العاقل أن يتعلم من أدب التخاطب وفنونه ما يصل به إلى قلوب الناس مراعيا فقه الكلمة، وخطورة اللفظ، وحفظ المنطق، وكم من صداقات قامت بسبب حسن الأدب في التخاطب، وبالمقابل كم من عداوات قامت بسبب سوء الأدب في التخاطب.
وأهم مصادر تعلم أدب التخاطب وأعلاها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففيهما أصول وآداب التخاطب مما يحقق المحبة والمودة والإخاء في المجتمع المسلم.
والحق أني لما أخذت أقرأ في السنة النبوية متلمسا هذه الآداب
…
(1) سورة البقرة الآية 269
وجدت نفسي بين كنوز ثرية مغفول عنها من قبل كثير من المسلمين - للأسف! - .. فأنت واجد في السنة النبوية:
أدب التخاطب مع الكفار
…
والمقاصد في ذلك!.
أدب التخاطب مع النساء
…
والضوابط في ذلك!.
أدب التخاطب مع الصغار
…
والمناحي التربوية في ذلك!.
أدب التخاطب مع عموم الناس مع اختلاف طبائعهم وطرق تفكيرهم!.
أبرز الألفاظ والأساليب النبوية في التخاطب مع الآخرين
…
ومراعاة الأحوال والمناسبات.
ومع المقارنة بين ما تقدم وبين حال الناس الآن يظهر للمتأمل أن هناك بعدا من قبل كثير من الخاصة فضلا عن العامة (1) في التحلي بهذه الآداب وأن هناك ضرورة لنشر مثل هذه الآداب المستمدة من السنة النبوية وإقامة دورات تدريبية لمثل هذه الآداب الاجتماعية الرائعة.
(1) يظهر هذا من المجادلات والحوارات بأنواعها المرئية والمسموعة والمكتوبة!!.
وإن الغفلة عن إبراز هذه الجوانب من خلال السنة النبوية سوف تجعل كثيرا من الناس يهرع إلى العلوم الغربية طلبا لهذه المعارف والآداب!.
وكل من أنصف علم أنه لا يوجد في ثقافة من الثقافات القائمة الآن من يعنى بهذه الجوانب الاجتماعية مثل عناية الدين الإسلامي من خلال المصدرين الأصليين: الكتاب والسنة.
ولما تقدم رأيت أهمية الكتابة في هذا الموضوع بهذا البحث الموسوم بـ " أدب التخاطب في ضوء السنة النبوية - أصول وضوابط - ".
والذي يتكون من:
المقدمة، وهي هذه -.
تمهيد وفيه: معنى التخاطب وعناية السلف بهذا الأدب في مؤلفاتهم الحديثية.
أصول وضوابط في أدب التخاطب من خلال السنة النبوية، وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: بدء المخاطبة والكلام بالسلام.
المبحث الثاني: لين الكلام وطيبه وانتقاء الألفاظ والجمل الحسنة عند مخاطبة الناس.
المبحث الثالث: اجتناب الكلام الفاحش والألفاظ السيئة.