الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (1) في عدم إيجاب العدة على المطلقة قبل المس فأشبهت من لم يخل بها.
الراجح:
أرى - والله أعلم - ترجيح القول الأول لوضوح أدلة القائلين به، ولأنه الأولى والأحوط ودليل القول الثاني صريح في عدم إيجاب العدة على المطلقة قبل الدخول والخلوة فقط. والله أعلم.
(1) سورة الأحزاب الآية 49
الخاتمة:
تتضمن أهم النتائج:
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات تكمل المكرمات وقد تم التوصل في نهاية المطاف إلى نتائج تتلخص في الآتي:
1 -
الحمل من الموانع المؤقتة للنكاح ولا تنقضي عدة الحامل إلا بوضع الحمل مع الاختلاف فيما إذا وضعت المتوفى عنها زوجها حملها قبل مضي أربعة أشهر وعشر أم بعد ذلك.
لأن الأصل في عدة الوفاة الأشهر ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا إذا كانت حاملا.
2 -
وضع الحمل أصل العدد؛ لأن العدة وضعت لاستبراء الرحم ولا شيء أدل على براءة الرحم من وضع الحمل (1).
3 -
العبرة في العدة بالمرأة، لأن العدة منها، وفي الطلاق بالزوج لأن الطلاق منه (2).
4 -
أصل وجوب العدة إنما هو للدلالة على براءة الرحم (3) وقد تكون تعبدا في المتوفى عنها زوجها.
5 -
عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشر، وإنما جعلت كذلك لأن الأربعة يتحرك فيها الحمل وزيدت العشر لاحتمال نقص الشهر أو تأخر الحركة (4).
6 -
الاستفادة من التسخيرات الإلهية العلمية في تحديد مدة الحمل وبراءة الرحم منه.
7 -
يحرم نكاح المعتدة حتى تنقضي عدتها سواء كانت عدة وفاة أو عدة طلاق.
(1) انظر: بدائع الصنائع 3/ 201، المجموع 18/ 127.
(2)
انظر: الفواكه الدواني 2/ 61.
(3)
انظر: مواهب الجليل 4/ 141.
(4)
انظر: الفواكه الدواني 2/ 63 - 64.
صفحة فارغة
الأمانة وأهمية أدائها
لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين: الأمناء على تبليغ الرسالة، والأمناء في نشر دين الله في أرض الله، وفق أمر الله الكريم، في القرآن الكريم، وعلى مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثه على تبليغ شرع الله في عباد الله، قولا باللسان، وقدوة في العمل، وجهادا بالنفس والمال، واهتماما بنقل الأمانة، وتحقيق دورها في نقل سنته، بعد بذل جهودهم رضي الله عنهم بحفظ القرآن، وجمعه خوفا عليه بعد ما قتل في الحروب بعض حفاظه.
والأمناء على تأدية الدور في جميع ما استحفظوا عليه، بأداء الشهادة في قولهم - لما قال لهم: «فما أنتم قائلون عني؟ نشهد أنك قد أديت الرسالة، وبلغت الأمانة، ونصحت الأمة، فرفع صلى الله عليه وسلم-
أصبعه قائلا: اللهم فاشهد .... اللهم فاشهد، اللهم فاشهد (1)»
فكانوا خير القرون بعده، باهتمامهم في أداء الأمانة، وترسم خطاه عليه الصلاة والسلام: عبادة مع الله، وتعاملا مع الناس، وحرصا على المواثيق، وصدقا في المواعيد، ودعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة
…
حتى ضربوا النموذج الأمثل، في الحرص على الأمانة وأدائها.
وبعد: فما أجمل تعاليم الإسلام، وما أحسن آدابه، فهو يهذب النفوس، ويغير الطباع، ويدعو لترابط المجتمع، وأداء الحقوق وغير ذلك من الصفات الحميدة.
وما من شأن من شؤون الحياة، إلا وقد جعلت هذه التعاليم، والتوجيهات الكريمة: من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، آدابا هي المثالية، عندما يتخلق بها الفرد، وتحرص على تطبيقها الجماعة، بإخلاص وصدق، لأن التخلق بها يبرز وراءه: المجتمع المثالي: أمنا ورخاء، وصيانة للحرمات، ومكافحة للجريمة، مع ما تشوق إليه البشرية، في أي موقع كانت.
وعندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، في أمته واعظا ومبلغا ومركزا على أمور، منها الأمانة: على الدماء والأموال
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم:(1218) كاملا.
والأعراض، والوصاية بالنساء خيرا، لأنها أمانة عظيمة في أعناق الرجال .. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1).
فما ذلك إلا أن التساهل فيها يجر إلى أمور عديدة: سواء في الأمور التعبدية مع الله سبحانه، فضلا عن آثارها في المجتمع: أفرادا وجماعات.
فقد قال له صلى الله عليه وسلم، واحد من الصحابة: يا رسول الله: كأنها خطبة مودع، فأوصنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«تركت فيكم: كتاب الله وسنتي، لن تضلوا ما تمسكتم بهما (2)»
وما ذلك إلا أن الأمانات إذا أديت على حقيقتها، وفق ما أمر الله في كتابه، وما حث عليه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من تأكيدات لأهمية الأمانة، وأدائها
…
فإن النفوس سوف تعف، ويرضى كل فرد بما قسم الله، ويعم العدل والهدوء، ويكون على كل نفس بشرية: رقابة ذاتية، ومحاسبة دقيقة، وغيرها من الصفات الحميدة، التي بها يترابط المجتمع، وتنعدم الجريمة
…
وينام كل فرد آمنا مطمئنا، وترفع الأقفال عن البيوت والمتاجر، مع العدل والإنصاف .. استجابة لأمر
(1) سورة البقرة الآية 228
(2)
يراجع في هذا كتب الحديث والسيرة، وتاريخ ابن كثير، عن هذه الخطبة البليغة.
الله جل وعلا، الذي فهمه المسلمون الأوائل، وخاصة في القرون الثلاثة المفضلة، يقول سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فما وراءها إما خيرا تؤمر به، أو شرا تنهى عنه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأمناء من البشر، وجبريل عليه السلام هو أمين الله على وحيه، وفي فتح مكة وتطهيرها من أدران الشرك، دعا عليه الصلاة والسلام بعثمان بن طلحة، خازن وحامل مفتاح الكعبة، فأخذه منه ودخلها وأزال ما فيها من أرجاس الجاهلية، وبعد ذلك تكلم والمفتاح بيده، وعمه العباس يتطلع إلى أن يعطيه إياه، حتى يحوز على أكبر قدر من المكانة، فلم يحابه أو يقدمه على غيره عليه الصلاة والسلام.
بل دعا بعثمان بن طلحة، وأعطاه المفتاح، قائلا:«خذوه خالدة تالدة، وتلا ما جاءه من وحي الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2). (3)»
(1) سورة الأنفال الآية 27
(2)
سورة النساء الآية 58
(3)
ينظر تفسير ابن كثير، سورة المائدة، الآيات (1 - 5).
وما انتشار الإسلام، إبان القرون الثلاثة المفضلة، وما بعدها إلا عندما ترسموا خطى الصحابة في الصدق وحسن التنفيذ، في كثير من مواقع المعمور من الأرض، والتي لم تبلغها جيوش المسلمين، عندما امتدت شرقا وغربا، في أرض الله لنشر دين الله، في عباد الله، امتثالا لرسالة الدعوة التي حملهم الله حق تبليغها، في مواطن كثيرة، من مصدري التشريع في دين الإسلام .. وما حصلت المصلحة الكبيرة إلا ثمرة من ثمار حرصهم على أداء الأمانة، على وجهها الذي شرعه الله، وسار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو قدوتهم في العمل، وحسن الاستجابة في البيان.
وهذا من أبرز اهتماماتهم بأداء الأمانة، تطبيقا في النفوس، وقدوة صالحة في الحديث، وصدقا في التعامل مع الآخرين، ووفاء بالمواثيق والمواعيد، وغير ذلك من الصفات التي تتوق إليها القلوب الصافية، وتتطلع إليها النفوس البشرية عامة، لما فيها من صلاح وإصلاح.
نموذج ذلك ما جاء في: المناظرة الكبرى، بين الشيخ رحمة الله الهندي، والدكتور القسيس " فندر " ومعه القسيس: فرنج "، حيث انهزما أمام مناظرته لهما، لأن دين الله يعلو، ولا يعلى عليه.
وقد جاء في مقدمة تلك المناظرة، عن دخول الإسلام في الهند الغربية، وبخاصة ساحل " مليبار " هذا القول: أما التجار فكان أغلبيتهم من العرب، الذين يفدون إلى السواحل الهندية الغربية، وبخاصة " ساحل مليبار " حاملين معهم بضاعتي: الدين والدنيا .. وكان الإسلام ينتشر على أيديهم بكل بساطة، بين الشعوب الوثنية.
ووسيلة التجارة من أسبق الوسائل وأسهلها في الدعوة إلى الله، وما زال لها الأثر الفعال في انتشار الإسلام في العالم، وفي هضبة " الدكن " الهندية.
فإن التاجر بصدقه وأمانته وحسن معاملته وأخلاقه، ومحافظته على أداء شعائر دينه، بانتظام وطهارة، يبعث في نفوس الذين يتعاملون معه، حب هذا الدين.
وقد اعترف القس " ورنز " فقال: ومن المحقق أن التاجر المسلم، يبث في هؤلاء الوثنيين، مع بضاعته التجارية، دينه الإسلامي، وحضارته الراقية.
ثم لعل إصهار كثير من التجار المسلمين، لأهل الهند، واستقرارهم بينهم، كان له الأثر الفعال، في إدخال كثير من العائلات الهندوكية، في دين الإسلام (1) لأن التاجر المسام صادق وأمين، يحرم عليه دينه
(1) المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمة الله والدكتور " فندر " ص 19 - 20 المصدر السابق.
الكذب، والخيانة، ثم بين المؤرخون: أن كثيرا من كبار " البراهمة " في الهند، وأصحاب المناصب في تلك الديار، دخلوا الإسلام عن قناعة، حتى إن أحد "راجاوات - أي حكام " الهند، في ذلك الوقت، أسلم وذهب إلى الحج، وفي طريق عودته توفي، فوجدت معه وصية إلى نوابه في المقاطعات، يأمرهم بإكرام المسلمين، وتشجيع الدعوة، وتسهيل مهمتهم، وكان ذلك من الأسباب في بناء المساجد في ديارهم، وأشهرها مسجد البابري (1).
ومثل هذا كثير في أرض الله، حيث اهتدى كثير من البشر إلى دين الله الحق، بما رأوه من المسلمين بأفريقيا أيضا، في أخلاقهم وأمانتهم، وصدقهم وحسن تعاملهم، من صفات جذبتهم إلى دين الله سبحانه، وجدوها في أي شأن من شؤونهم: دينيا ودنيويا، يلمس هذا كل من يتتبع أخبار بيت الله الحرام في كل عام، فقد حج هذا العام 1428 هـ، مجموعة من القساوسة الأفارقة، الذي جذبهم للإسلام، ما فيه من صفات نبيلة، وما يحث عليه من أمانة كجزء من الصفات الحميدة فيه، التي يجدونها مفقودة عندهم (2).
(1) يراجع في هذا كتاب الدكتور عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند.
(2)
يراجع في هذا جرائد المملكة حج عام 1428 هـ والمقابلات المتعددة مع ضيوف خادم الحرمين الشريفين.
ومع الهجمة الشرسة على الإسلام في الآونة الأخيرة، نجد واحدا من الأخبار أيضا، نشرته الصحف، في حج هذا العام 1428 هـ يفيد أن خمسة من شيوخ القبائل في " تشاد " ممن كانوا ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين في الحج، ينبئ عن دخولهم بقبائلهم الإسلام.
وبعدما وصلوا إلى مكة المكرمة، وشاهدوا الكعبة المشرفة، لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء رقة وخشوعا لله. وعلى لسان رجل آخر من إحدى الدول الإفريقية: بأنه قد دخل الإسلام من قبيلته دفعة واحدة (40000) أربعون ألفا. وهذا من فضل الله، وبما يؤديه الداعية الأمين المخلص من دور.
إذ يلاحظ أن كل من أسلم، ومن أي ملة كان، يؤثر في من حوله، لإعجابهم: بأمانته وصدقه، ومحافظته على شعائر دينه، ولتغير طباعه .. بعدما اعتنق هذا الدين، وتأدب بآدابه.
وما ذلك إلا لما يرى عليهم، من آثار تعاليم الإسلام السمحة: من حفظ للأمانة، والتحلي بالصفات الحميدة، ومنها حفظ الحقوق، التي تعلي من مكانة من يحرص على حسن الأداء، ثم بما برز على صفات كل مسلم، من رغبة في التعامل الحسن، والاهتمام بالتوجيهات التي تحث على الخير والنفع سواء للفرد أو الجماعة والمجتمع.
ويلمس ذلك في آيات من القرآن الكريم، تحث على الأمانة، وتخاطب القلوب المتفتحة، وتحرك الأذهان الصافية.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قد حمله ربه أمانة التبليغ:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1).
وأمته من بعده تحمل هذه الأمانة
…
فواجب على كل فرد من أمته، مواصلة المسيرة، لكمالها ولأنها خاتم الرسالات، وقد ألقى هذا العبء العظيم، على أمته - كل بحسب قدرته واستطاعته، بقوله الكريم:«بلغوا عني ولو آية (2)»
ويخاطب الله رسوله الكريم، في أهمية هذا التبليغ، لأنه من أهم المهمات، بهذا النداء التوجيهي، في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3).
والرسالات من أكبر الأمانات، لأنها تبليغ عن الله، ولإنقاذ البشر من المهالك، فقد حمل الله سبحانه، آخر رسالة، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (4)
(1) سورة المائدة الآية 67
(2)
أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3202).
(3)
سورة المائدة الآية 67
(4)
سورة آل عمران الآية 110
وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصفات ملازمة لأمانة التبليغ، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1).
فالمخاطب الأمة، لكن رسول الله قدوتهم، وأكرمهم عند ربه، وأكثرهم أتباعا، بما تحمل من ثقل التبليغ، فكان يحذر أمته من التهاون في واجب أمانة التبليغ: الخاصة لدين الله، وأمانة أداء العامة، في كل أمر من الأمور الدينية والدنيوية، ووعده ربه بالنصر، والعصمة من الناس، وأن يعتمد على خالقه ولا يخافهم.
فاستجاب، وصعد الصفاء، وصدع في الناس، منذرا ومخوفا.
وما ذلك إلا أن نشر دين الله في البشرية كلها أمانة، يجب أن يتحملها ويؤديها كل فرد مسلم، إبراء للذمة، ولتقوم الحجة.
علاوة على الجماعات، الذين عليهم السعي في أدائها بقدر الاستطاعة، حتى يخف عنهم حمل المسألة، إذ كل فرد على ثغر من ثغور الإسلام، يجب عليه أن يقف حارسا أمينا، يقظا ليدافع - بقدرته - كل من يحاول النيل من هذا الكيان، ويحمي الجانب الذي هو فيه،
(1) سورة آل عمران الآية 110
لئلا يدخل معه عدو متربص، يريد المساس بجوهر هذا الدين، كما جاء في الحديث الشريف، الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع، وهو مسؤول عن رعيته (1)» ، قال: هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والرجل في مال أبيه راع، ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته (2)»
وهذا يعضد ما جاء في الأثر: " كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله ".
وتكبر مسؤولية الأمانة، بحسب قدرة الإنسان، وما تحت يده، فقد جاء في آية من سورة الزخرف:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (3)، تأكيد شامل للأمانة، للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأهمية تأديتها، في إبلاغ شرع الله، ولأمته من بعده. كل بحسب مسؤوليته وقدرته،
(1) صحيح البخاري الوصايا (2751)، صحيح مسلم الإمارة (1829)، سنن الترمذي الجهاد (1705)، سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (2928)، مسند أحمد (2/ 121).
(2)
ينظر جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط: 4: 50 وما بعدها الطبعة الأولى 1390 هـ - 1970 م.
(3)
سورة الزخرف الآية 44
وموقعه في مجتمعه، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1).
فكان الأمر بأداء الأمانة في تبليغ شرع الله، في هذه الآية مؤكدا، وملزما للأمة بمواصلة المسيرة، جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لانقطاع الوحي من السماء، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن تبقى في الأمة أمانة الدعوة والتبليغ متواصلة، حيث يبعث الله للأمة، على رأس كل قرن، من يجدد الدين .. وتحت هذه المسؤولية، المناطة بمن له قدرة علمية، أو بغيرها بحسب الأحوال في كل وقت وموقف.
فإن القادرين سيحاسبون عن هذه المهمة في أداء الأمانة إذا أهملوها، لاعتبار ذلك واجبا عظيم المسألة، لما في النص، من تأكيد بعد تأكيد، حسب حروف التوكيد وأدواته.
وعلماء البلاغة يقولون: زيادة المبني زيادة في تمكين المعنى.
إذ ستنشر صحائف الأعمال، في يوم الميعاد، ويتم النقاش من كل فرد هل أدى دوره في الأمانة، كل بحسب حاله وموقعه، وهل وفى بما ألزم به: أخذا وعطاء، من أمانة التبليغ، أولا فيما يتعلق بحق الله، ثم فيما يتعلق بحقوق المخلوقين.
(1) سورة البقرة الآية 286
وهل عرف قدر الأمانة حق المعرفة، وأداها كما يجب الأداء .. حيث إن صحائف الأعمال كما قال سبحانه:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1).
ولعل من أبسط الأمور التي يتساهل فيها كثير من الناس أمانة الكلمة، وأمانة النظرة، وأمانة اللسان، وأمانة السمع .. وأمانة حق الجار، وحق الأمر بالمعروف - وهو مهم جدا - وغيرها من الأشياء التي يتهاون بها بعضهم.
لأن كل من رئي على خطأ أو معصية، ولم ينصح برفق ولين، سوف يتعلق أمام الله في ذلك الموقف بعنق من عرف ذلك عنه، ولم يحاول تقويم اعوجاجه، فيبوء بالحجة، إن لم يكن لديه ما يدفعها، ويرفع الملامة عنه، سواء كان عالما، أو جارا، أو صديقا، أو قريبا
…
أو غيرهم.
ومن هذا يجب أن ندرك: أن كثيرا من أمم الأرض: قديما وحديثا .. منذ أشرقت أنوار الرسالة المحمدية من مكة المكرمة - أشرف البقاع عند الله، وأحبها عند رسوله صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم ما حرصت: أفرادا وجماعات، على الارتباط بدين الإسلام: عقيدة
(1) سورة الكهف الآية 49
وعملا، وحماسة، وامتثالا، ثم دعوة إليه باللين والرفق، ونموذجا في التعامل، وصدقا وأمانة، بعدما وقرت بشاشته في القلوب، إلا من إعجاب تلك الأمم بطبائع أبناء المسلمين الوافدين عليهم.
فرحم الله أولئك الرجال، الذين نقلوا وبأمانة صورة الإسلام، الذي هو الدين الحق، الذي أطلقه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (1).
وهذا الدين: الإسلام لا يقبل سبحانه من المخلوقين غيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2). وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3)(4) كيف لا يحوز المكانة العالية، من قلوب من دخل فيه، ويتحمسون لبيان محاسنه، بأمانة وصدق ووفاء، وهو الدين الذي اختاره الله جل وعلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان ليختار سبحانه إلا الأكمل والأحسن، يقول سبحانه، في آخر آية نزلت في يوم الحج الأكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث اعترف أحد اليهود أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنها لو نزلت علينا معاشر
(1) سورة الحج الآية 78
(2)
سورة آل عمران الآية 19
(3)
سورة آل عمران الآية 85
(4)
سورة المائدة الآية: 3، ويراجع تفسيرها عند ابن كثير والسيوطي والقرطبي.
اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فلما سئل ما هي قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)(2).
فأولئك الرجال الذين فهموا بعمق، وحسن تطبيق، دلالة هذه الآيات، اتصلوا بأفراد وجماعات في أصقاع الأرض، مع تجارتهم وتعاملهم، ترافقهم صفات هذا الدين: صدقا في الحديث، وتعاملا حسنا، وأمانة في أداء الحقوق كاملة وفي وقتها، ومحافظة على أداء الشعائر الدينية، بانتظام وطهارة، وحسن مظهر، وحفظا للمواعيد والمواثيق، وغيرها من الخصال التي تشوق إليها النفوس، ويتحقق بها، أمان القلوب، وأمان المجتمع، والأمان على المال والعرض والأبدان.
فدخلت هذه الخصال قلوبهم، ورغبوا في دين هذه قيمه ومبادئه، دخلوا فيه طواعية، وبأمانة ممن نقل إليهم: خصالا عاينوها، وتعاملا أنسوا به، ووفاء في الحقوق، وبركة في النتائج.
وفي هذا رد عملي على من قال: إن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف، والقوة، بل يرد هذه المقالة: إبقاء المسلمين لأهل الكتاب، ومن شاكلهم على دينهم بدون إكراه، ولا مضايقات لا يمسهم شيء،
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة آل عمران الآية: 85 ويراجع تفسيرها عند ابن كثير في تفسيره، وعن مكان ويوم النزول.
ما داموا لم يخونوا، ولم يرفعوا راية ضد الإسلام، أو يعينوا عدوا على المسلمين.
يوضح ذلك ما جاء في معاملة أبي عبيدة بن الجراح: أمين هذه الأمة " حسب تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لأهل الشام بعد فتح دمشق.
وما جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكبير قساوسة بيت المقدس، بعدما استلم منه المفاتيح لبيت المقدس، وأكل طعامه، ولما طلب منه أن يصلي في كنيستهم "كنيسة القيامة" فإنه تنحى عنها، وصلى في خارجها، قائلا:" أخشى أن يغلبكم عليها المسلمون ".
ولا زال مسجد عمر هذا، وباسمه أيضا، عند بابها، شاهدا على حرص قادة وعلماء ووجهاء الإسلام والمسلمين على رعاية الأمانة في أهل الكتاب، والمحافظة عليهم، امتثالا لأمر الله جل وعلا:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1).
وإن كان طرأ على المسجد المذكور شيء، فمن خيانة اليهود، واعتداءاتهم.
بل توج ذلك عمر رضي الله عنه، لما دخل دمشق مع أبي عبيدة: بالشروط العمرية التي زادت عن أربعين شرطا، وطبعت حديثا في رسالة مستقلة، ليتميز بها الكتابي عن المسلم في المظهر، لكي يعرفوا
(1) سورة الكافرون الآية 6
ويؤدي كل منهم دوره ومهمته .. مما كان سببا في دخول كثير منهم الإسلام بطواعية، وبحسن اختيار، ولا إكراه.
بل زاد عمر رضي الله عنه في الإحسان إليهم لما رأى رجلا مسنا، أنهكته الأيام، فعجز عن العمل، ليؤدي ما عليه، فأمر رضي الله عنه بإعطائه من بيت المال ما يكفيه، قائلا: من حقه أن يعطى كفايته من بيت مال المسلمين، في كبره وعجزه، ما دام وفى بما عليه في قدرته، وهذا من حق الأمانة والعهد.
وغير هذا من صفات، هي النموذج الذي ترنو إليه قلوب البشر، وتركت آثارا في عقلاء أهل الكتاب على مر العصور، نأخذ مثالا من عمر بن عبد العزيز رحمه الله، عندما تولى الخلافة، فقد جاء إليه وفد من إحدى المدن الرومانية، يشكون مسلمة بن عبد الملك، قائد الجيوش الإسلامية هناك، الذي استباح بلدتهم، ولم يسبق منه إنذار بدعوتهم للإسلام، ويمهلهم ثلاثة أيام، كما هي تعاليم هذا الدين، أخذا من حديث معاذ بن جبل لأهل اليمن، ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقادة السرايا والجيوش، كما في سيرة ابن هشام ".
فقد سبى وقتل .. فغضب عمر بن عبد العزيز يرحمه الله، وكتب
لمسلمة بالخروج من بلدتهم، وإعادة ما أخذ منهم، ودية قتلاهم، ثم توجيه الدعوة إليهم بالإسلام أو الجزية، وإمهالهم ثلاثة أيام، فإن أجابوك، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم.
وهذا من عمر رضي الله عنه تأكيد لحق الأمانة في الدعوة لدين الله، وفق ما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن يبعثهم في الغزوات، والسرايا، وهناك أحاديث، وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضوع، هي من وصاياه عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيل الله، حتى تكون الدعوة إلى الله على بصيرة، وبأمانة بلغهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذها تطبيقا وعملا من بعدهم، بالتبعية والامتثال، كما حصل في غزوة بني المصطلق.
وهذا مما أخذه عمر بن عبد العزيز، على مسلمة، بعد ما عزله: بالعتاب والمناقشة، حتى يؤصل الاسترشاد في النفوس، بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل والأمانة.
فلما فعل مسلمة ما أمره به أمير المؤمنين: عمر بن عبد العزيز، ودعا الرومان للإسلام، وأمهلهم ثلاثا، أو الجزية، أجابوه، وحقنوا الدماء، وحفظت الأموال.
وما واظب المسلمون على هذا الخلق الحميد، الذي ترك انعكاسا متميزا، في قلوب من يتعاملون معهم، إلا أن الأمانة التي حثهم عليها دينهم، وأدوها التزاما وعملا، كانت صفة طيبة، وذات أثر عند الآخرين، وأعجبوا بها، لأنها من عند الله، وأمر بها رسوله الكريم، لما يرون في الامتثال بها من أهمية كبيرة، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (1).
يقول واحد من كبار المستشرقين، في مؤتمر الاستشراق التاسع، الذي عقد في القدس، في مطلع العام الميلادي المنصرم، مع إرهاصات الحرب العالمية الأولى، ضد الخلافة الإسلامية العثمانية: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وأدوا في ذلك الأمانة، التي أمروا بها، كما عمل أسلافهم، لانقادت أوروبا للإسلام بطواعية.
إنهم بمثل هذه المقولة يدركون - بما درسوه عن الإسلام - صفات السمو والرفعة في هذا الدين، ومنها الأمانة، فكان من وصاياهم، بذل الجهد في مباعدة أبناء الإسلام عنها بالتساهل، وعدم الالتزام، حتى يخف ميزان الإسلام من قلوبهم، وليعملوا جهدهم، في محاربة تلك الصفات، حتى لا تنتشر في مجتمعهم،
(1) سورة النساء الآية 58
فيميل أبناء ملتهم للإسلام.
أما أبناء المسلمين، وخاصة عندما يختلطون بهم، فإنهم يسعون لبث الشبهات، وتسهيل المغريات، ليتخلوا عن كنوز دينهم في السلوك والعادات، وعدم الالتزام، تقليدا بدون هدف، فتضيع عندهم الأمانة التي هي أول ما يفقد من الدين، ثم بعد انفتاح الباب، تتوالى المصائب، ولا عاصم من ذلك، إلا من عصمه الله، والأرض لن تخلو من أهل الخير، الحريصين على الثبات والعمل.
يقول صلى الله عليه وسلم، مخبرا عما سيحصل لأمته، عندما يتكاثر عليها الأعداء:«لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن (1)»
ثم أخبر في حديث آخر بأن المهابة تنزع من قلوبهم، ولا يزيل ذلك إلا العودة إلى الدين، والتمسك بخصاله الحميدة: عملا ودعوة، ومنها الأمانة التي عليها مدار كثير من الأعمال.
(1) أخرجه الإمام البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء: كتاب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم: 3456، ومسلم برقم:2669.
لذا يجب أن يدرك كل مسلم، أن الأمانة على مكانتها وأهمية تطبيقها، فإنها: صفة مدح ترتسم وساما على جبين كل مؤمن، فترفع قدره، وتثبت إيمانه
…
فيعتز بها، حيث عظم الله منزلة المؤمنين بحرصهم واهتمامهم، على آدائها على وجهها الحق، وبالمحافظة على كل خصلة عمل له ارتباط بالأمانة لأن الله عظم منزلة المؤمنين الملتزمين بالأمانة: عملا واعتقادا.
والعهد وثيق الصلة بالأمانة، كما أن الإيمان مقترن بالأمانة، يقول سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (1).
هذا في باب المدح، الذي تقوى به النفوس، ويدفعها للمزيد، والمحافظة على خصلة الأمانة .. وما يتعلق بها.
أما الترهيب، من التساهل فيها وإضاعتها، فقد جاء في كتاب الأحاديث المختارة، مما لم يخرجه البخاري، ومسلم، في صحيحيهما، للعلامة الشيخ ضياء الدين: محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي، الحنبلي دراسة وتحقيق د. عبد الملك بن دهيش: حديث بالسند إلى المغيرة بن زياد الثقفي، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له،
(1) سورة المؤمنون الآية 8