الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأموال التي لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله تعالى (1).
(1) مدارج السالكين (1/ 78 - 82)، ونضرة النعيم (2/ 230 - 231).
المبحث الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم «ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا
(1)»:
وفي رواية: " ولا تعجزن " النون نون التوكيد الخفيفة.
ففي هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن العجز وذمه، والعجز مذموم شرعا وعقلا (2).
والعجز ضد القدرة وهو القصور عن فعل الشيء (3).
وهو نوعان:
1 -
تقصير في الأسباب، وعدم الحرص عليها.
2 -
تقصير في الاستعانة بالله، وترك تجريدها (4).
لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: " لا تعجز " بعد أمره للمؤمن
(1) صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(2)
فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (2/ 769).
(3)
المفردات، ص (325).
(4)
مدارج السالكين (3/ 501).
بالحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته، ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه: أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1)، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه، فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان:
الأولى: حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى " لو " ولا فائدة في " لو " هنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عما الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح.
الثانية: النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلن يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور، وإذا انتفت امتنع وجوده. فلهذا قال:«قل قدر الله وما شاء فعل (2)» فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
حالة حصول مطلوبه وحال فواته.
فهذا الحديث العظيم يوجب الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، والإيمان به يتضمن الإيمان بمراتبه الأربعة وهي:
المرتبة الأولى:
الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وأقوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، وإسرارهم وعلانياتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (1)، وقال:{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (3)»
(1) سورة الحشر الآية 22
(2)
سورة الطلاق الآية 12
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب (46) القدر، باب (6) معنى كل مولود يولد على الفطرة .. ، (4/ 2050) ح (2662).
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين (1)»
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في هذا الحديث: "أي الله يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولا في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار»، فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم "(2).
المرتبة الثانية:
الإيمان بأن الله تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب (82) القدر، باب (3) الله أعلم بما كانوا عاملين، (فتح الباري 11/ 493) ح (6597)، ومسلم، كتاب (46) القدر، باب (6) معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال المشركين الكفار وأطفال المسلمين، ح (2659).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 246).
وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح والقلم، قال تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1). وقال سبحانه: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} (2). وقال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3).
وقال صلى الله عليه وسلم «ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار. وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة (4)»
المرتبة الثالثة:
الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون، ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشاء الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (5).
ومن أدلة هذه المرتبة: قوله - عز من قائل -: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (6)
(1) سورة يس الآية 12
(2)
سورة الحج الآية 70
(3)
سورة فاطر الآية 11
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب (65) التفسير، باب تفسير سورة (والليل إذا يغشى)، (فتح الباري 8/ 709) ح (4948)، ومسلم، كتاب (46) القدر، باب (1) كيفية خلق الآدمي .. ، (4/ 2039) ح (2646).
(5)
سورة فاطر الآية 44
(6)
سورة الإنسان الآية 30
وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1)، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن. كقلب واحد. يصرفه حيث يشاء (3)» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم مصرف القلوب. صرف قلوبنا على طاعتك (4)»
المرتبة الرابعة:
الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها، لا خالق غيره ولا رب سواه.
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (5).
وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (6).
(1) سورة الأنعام الآية 39
(2)
سورة يس الآية 82
(3)
صحيح مسلم القدر (2654)، مسند أحمد (2/ 168).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب (46) القدر، باب (3) تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، ح (2654).
(5)
سورة الزمر الآية 62
(6)
سورة فاطر الآية 3
(7)
سورة الروم الآية 40
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1).
وعن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته (2)»
والإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل للشرع، فمن نفى القدر زاعما منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته، وجعل العبد مستقلا بأفعاله خالقا لها، فأثبت مع الله تعالى خالقا، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون، ومن أثبت القدر محتجا به على الشرع، نافيا عن العبد قدرته واختياره فقد نسب إلى الله تعالى إلى الظلم، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالإيمان بالقضاء والقدر، أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب، فقال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (3)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«اعملوا فكل ميسر لما خلق له (4)»
(1) سورة الصافات الآية 96
(2)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد، ص (73)، وابن أبي عاصم في السنة (357، 358) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، (4/ 181)، ح (1637).
(3)
سورة التوبة الآية 105
(4)
رواه مسلم، كتاب (46) القدر، باب (1) كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح (2648).
وفي هذا رد على المتخاذلين، المستسلمين لأهوائهم وشهواتهم، محتجين بتقدير الله تعالى ذلك عليهم، فعلى المسلم أن يحرص على حسن الإتباع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مع إخلاص العمل لله تعالى، وسلامة العقيدة، والاجتهاد بالأخذ بالأسباب، والسعي وبذل الجهد، فمن ترك الأسباب محتجا بالقدر فقد عصى الله تعالى وخالف شرعه. والمؤمنون حقا يؤمنون بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق أفعال العباد، وينقادون للشرع أمره ونهيه، ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليها، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله (1).
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري: " قد جرى القلم بأمره عز وجل في اللوح المحفوظ بما يكون من بر أو فاجر، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2). وكذا ذم قوم عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 449، 459)، وأعلام السنة المنشورة، ص (139 - 141).
(2)
سورة الحديد الآية 21
عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1)(2).
فلا بد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4)، يعني: أن من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قال - في قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (5) - يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم
(1) سورة النحل الآية 93
(2)
الشريعة، ص (152).
(3)
سبق تخريجه، ص (176).
(4)
سورة التغابن الآية 11
(5)
سورة التغابن الآية 11
أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1).
يقول ابن دقيق العيد: " هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجب، خيره وشره، وإذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به "(2).
ومما يجب أن يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح وحسن الاتباع، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، قال بعضهم:«أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر (3)» ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (4){وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (5){فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (6).
" فالله سبحانه وتعالى قدر المقادير وهيأ لها أسبابا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، (4/ 375).
(2)
شرح الأربعين حديثا النووية، ص (55).
(3)
سبق تخريجه، ص (176).
(4)
سورة الليل الآية 5
(5)
سورة الليل الآية 6
(6)
سورة الليل الآية 7
والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشد اجتهادا مني الآن " (1).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز (2)»
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: «أرأيت دواء نتداوى به ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله (3)» يعني: أن الله عز وجل قدر الخير والشر وأسباب كل منهما (4).
والأسباب وإن عظمت إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، وعموم المصائب التي تصيب
(1) أعلام السنة المنشورة، ص (134).
(2)
رواه مسلم في كتاب (46) القدر، باب (8) في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، (4/ 2052)، ح (2664).
(3)
رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، والترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الأدوية، ح (2065)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4)
انظر أعلام السنة المنشورة، ص (134).
الخلق من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، " وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير "(1).
ولهذا جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه (2)»
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن قول " لو "؛ إذ أخبر أنها تفتح عمل الشيطان، وهذا لا شك فيه؛ لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر، ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى؛ والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3){لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (4).
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (121، 718).
(2)
رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ح (2144)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2/ 446)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، (2439).
(3)
سورة الحديد الآية 22
(4)
سورة الحديد الآية 23
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ". وقال الإمام أحمد: " ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - وذكر الحديث بتمامه - ثم قال في معناه: " لا تعجز عن مأمور ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: «إن الله يلوم على العجز (1)» والعاجز ضد: الذين هم ينتصرون "، فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة، وذلك لأن الإنسان بين أمرين:
- أمر أمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين بالله ولا يعجز.
- وأمر أصيب به من غير فعله فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه ".
(1) سنن أبي داود الأقضية (3627)، مسند أحمد (6/ 25).
ثم قال: -: " فإن الإنسان ليس مأمورا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه، وارض وسلم، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1)، ولهذا قال آدم لموسى: «أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟! فحج آدم موسى (2)» لأن موسى قال له: «لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة (3)»؟! " فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لها لأجل كونها ذنبا، وأما كونه لأجل الذنب - كما يظنه طوائف من الناس - فليس مرادا بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس " (4).
فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون بهذا الحديث؛ لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه كذبوه، وإلا
(1) سورة التغابن الآية 11
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب: تحاج آدم وموسى عند الله، فتح الباري (11/ 505)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى (4/ 2042 - 2043).
(3)
سنن أبي داود السنة (4702).
(4)
مجموع الفتاوى (8/ 178 - 179).
حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -: " إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعاتب؛ فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه "(2).
ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية، والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر (3).
ويفهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ما لا قدره للإنسان فيه بعد بذله قصارى جهده واستعانته بالله عز وجل، فله أن يحتج عليه بالقدر لقوله صلى الله عليه وسلم:«ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (4)» ، وأما الذي يمكنك فليس لك أن تحتج بالقدر.
ومعنى قوله: " قدر الله " أي: هذا الذي وقع قدر الله وليس إلي، أما الذي إلي فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه
(1) انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد، (2/ 374).
(2)
مجموع الفتاوى، (10/ 160، 505)، (11/ 259).
(3)
انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد (2/ 365).
(4)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
التسليم التام لقضاء الله عز وجل، وأن الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي؛ فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله.
قوله: " وما شاء فعل " جملة مصدرة بـ " ما " الشرطية، و" شاء ": فعل الشرط، وجوابه:" فعل " أي: ما شاء الله أن يفعله فعله؛ لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1).
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يفعل شيئا إلا لحكمة، خفيت علينا أو ظهرت لنا، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الإرادة ووقوع المراد؛ ففيه تفصيل: فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (2)، بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله على جميع الناس.
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد (3) كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (4)
(1) سورة الرعد الآية 41
(2)
سورة النساء الآية 27
(3)
انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد (2/ 371 - 372)، وشرح رياض الصالحين (1/ 464).
(4)
سورة البقرة الآية 253
وفي الرواية الثالثة (1) للحديث قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قوله: «احرص على ما ينفعك (2)» بقوله وإياك واللو فالإشارة هنا إلى محل " لو " المذمومة وهي نوعان:
أحدهما: في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر، فلا تقول: لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا. مع قدرته على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته.
والثاني: من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه بالتلهف عليه، لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي، فالذم راجع فيما يؤول في الحال إلى التفريط وفيما يؤول في الماضي إلى الاعتراض على القدر، وهو أقبح من الأول، فإن انضم إليه الكذب فهو أقبح مثل قول المنافقين:{لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} (3)، وقولهم:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (4)، وكذا قولهم:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (5)
(1) انظر: ص (121) من البحث.
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(3)
سورة التوبة الآية 42
(4)
سورة آل عمران الآية 167
(5)
سورة آل عمران الآية 168
ثم قال: وكل ما في القرآن من " لو " التي هي كلام الله تعالى كقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} (1)، وقوله:{وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2)، ونحوهما فهو صحيح لأنه تعالى عالم به .... (3).
ويستفاد من هذا الجزء من الحديث ما يلي:
1 -
أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها؛ لقوله: «احرص على ما ينفعك (4)» ، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.
2 -
أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع؛ لقوله: «احرص على ما ينفعك (5)» .
3 -
أنه لا ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة؛ لقوله: «ولا تعجز (6)» ، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز، فكيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا قدرة لإنسان عليه؟ أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التعاون والكسل من فعل الشيء؛ لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2)
سورة النساء الآية 78
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر، (13/ 230).
(4)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(5)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(6)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
4 -
أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر، لقوله:«ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (1)» وأما الذي يمكنك، فليس لك أن تحتج بالقدر.
5 -
أن للشيطان تأثيرا على بني آدم؛ لقوله: «فإن لو تفتح عمل الشيطان (2)» وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (3)»
فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق.
وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله عز وجل، كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك، فإن للشيطان في قلب ابن آدم وللملك لمة، ومن وفق غلبت
(1) صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه الزهد (4168)، مسند أحمد (2/ 370).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب (33) الاعتكاف، باب (11) زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، ح (2038)، (فتح الباري 4/ 281)، ومسلم في السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة .. (4/ 1712).