الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاستغفرالله، وإن لم تكن كما قلت فغفر الله لك، فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت فاغفر لي. قال غفر الله لك، فقال الرجل الله أعلم حيث يجعل رسالته. وسيأتي الأبيات التي قالها فيه الفرزدق لما جاء يستلم الحجر الأسود أعني قوله:
هذا ابن خيرعباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
الأبيات الآتية في سنة عشر ومائة، ومناقبه ومحاسنه كثيرة شهيرة، اقتصرت منها على هذه النبذة اليسيرة. وفيها توفي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الكبار، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
سنة خمس وتسعين
فيها أراح الله المسلمين بقلعه الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة لسبع وعشرين من رمضان، وله ثلاث وقيل أربع وقيل خمس وخمسون سنة، قالوا: وكان شجاعاً مقداماً مهيباً فصيحاً مفوهاً بليغاً سفاكاً للدماء عاملاً لعبد الملك بن مروان، ولي الحجاز سنتين ثم العراق وخراسان عشرين سنة، ولما توفي عبد الملك، وتولى ولده الوليد، اقره على ما بيده. وذكر في كتاب التعبير أنه أتي رجل ابن سيرين فقال: اني رأيت على شرفات مسجد المدينة حمامة بيضاء فعجبت من حسنها، فجاء صقر فاختطفها، فقال له ابن سيرين: إن صدقت رؤياك تزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر الطيار. فما مضى إلا يسير حتى تزوجها، فقيل له: يا أبا عبد الله كيف تخلصت إلى ذلك؟ فقال: ان الحمامة امرأة وبياضها نقاء حسنها، والشرفات شرفها، فلم أجد في المدينة امرأة أنقى حسناً ولا أشرف نسباً من ابنة عبد الله بن جعفر، ونظرت في الصقر فإذا هو سلطان ظالم غشوم، فلم أر في السلاطين أصقر من الحجاج بن يوسف. وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن أم الحجاج الفارعة بالفاء والراء والعين المهملة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب، فدخل عليها ذات ليلة في السحر فوجدها تخلل أسنانها، فبعث إليها بطلاقها، فأرسلت إليه: لم فعلت ذلك الشيء رابك مني؟ قال: نعم دخلت عليك في السحر وأنت تخللين، فإن كنت بادرت في الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك، فتزوجها بعده
يوسيف بن أبي عقيل الثقفي، فولدت له الحجاج لا دبر له فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها، فأعياهم أمره، فيقال إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة حكيم العرب المذكور، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابن ولد ليوسف من الفارعة وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جدياً وألقوه، او قال والعقوه دمه فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، واذبحوا له في الثالث تيساً أسود وافعلوا بدمه كما تقدم، ثم اذبحوا له أسود سالخاً. قلت: كأنه يعني ثعبان أسود قد سلخ جلده واستبدل آخر، وأمرهم أن يطعموه دمه، ويطلوا به وجهه، وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ذلك فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، ففعلوا به ذلك فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان عنه في أول أمره. وكان الحجاج يخبر عن نفسه: ان أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. وقيل إن الحجاج خطب يوماً، فقال في أثناء كلامه: ايها الناس إن الصبر عن محارم الله أهون من الصبر على عذاب الله، فقام له رجل وقال: ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياؤك، فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له اجترأت علي، فقال له: اتجترىء على الله فلا تنكره، وتجترىء عليك فتنكره؟! فخلي سبيله. وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم أهل الأثرة أن الفارعة أم الحجاج كانت تحت المغيرة بن شعبة، وإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه طاف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تنشد فيه خدرها.
هل من سبيل إلى خمر فاشربها
…
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فقال عمر لا أرى معي في المدينة رجلاً يهتف به العواتق من خدورهن، علي بنصر بن الحجاج، فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً بفتح الشين والعين. فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك فأخذ منه فخرج له وجنتان كأنهما فلقتا قمر فقال له: اعتم فاعتم ففتن الناس بعينيه، فقال عمر: والله لا يساكنني ببلدة، فقال ما ذنبي يا أمير المؤمنين: قال: هو ما أقول لك، وسيره إلى البصرة. وأخبار الحجاج كثيرة هو الذي بنى مدينة واسط، وسميت بذلك لتوسطها بين البصرة والكوفة. قالوا ولما حضرته الوفاة دعا منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ فقال نعم ولست، فقال ولم؟ قالط: لأن الذي يموت اسمه كليب فقال الحجاج: والله بذلك سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرض موته ما قاله عبيد بن سفيان العكلي.
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا
…
ايمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم
…
ماظنهم بعظيم العفوغفار
وكان مرضه بالآكلة وقعت في بطنه، فدعا بالطبيب فأخذ لحماً وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد علق به دود كبيرة، وسلط الله عليه بها الزمهريرة، وكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدني منه حتى يحرق جلده وهو لا يحس بها، فشكا ما يجده إلى الحسن البصري فقال له: قد نهيتك أن تتعرض للصالحين. وقيل إن الحسن سجد يشكر الله تعالى لما مات الحجاج، فقال: اللهم كما أمته فأمت عنا سنته، وكان قد رأى الحجاج أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة فطلق الهندين ظناً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد إنا الله وإنا إليه راجعون ثم قال من يقول شعراً ليسليني فقال الفرزدق.
إن الرزية لا رزية مثلها
…
فقدان مثل محمد ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما
…
أخذ الحمام عليهما بالمرصد
وكان أخوه محمد بن يوسف المذكور والياً على اليمن، وكانت وفاة الحجاج في رمضان كما تقدم. قلت فقصته السم القاتل والشوم العاجل بقتل السيد الفاضل سعيد بن جبير كما سيأتي ذكر قتله له في شعبان من السنة المذكورة فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من الإفساد. وذكرابن عبد ربه في العقد أن الفارعة كانت زوجة المغيرة بن شعبة فطلقها من أجل التخلل المذكور في الحكاية والله أعلم، وإن الحجاج وأباه كانا يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح الجذامي وزير عبد الملك بن مروان وكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وإن الناس لا يرتحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى وزيره المذكور، فقال لهم: ان في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فقال لا
يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان الوزير المذكور، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير ألمؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا ابن اللخناء وكل معناه. فقال لهم: هيهات ذهب ذلك ثم أمرهم فجلدوا بالسياط، وطوف بهم في العسكر، وأمر بفساطيط الوزير فأحرقت بالنار، فدخل الوزير على عبد الملك شاكياً باكياً، فقال: علي به، فلما دخل عليه قال ما حملك على ما فعلت؟ فقال: انا ما فعلت شيئاً، قال: فمن فعل؟ قال أنت فعلت أنا يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يعوض عن ذلك ولا يكسرني فيما قدمني له فعوض الوزير ما ذهب له، وكان ذلك أول ما عرف من كفاية الحجاج وسطوته، ثم كان له في سفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها.
ويقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبطه الأمور والقيام بالسياسات فاسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر، فأهلكه الله ودمره. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير السيد الشهير العبد الصالح سعيد بن جبدر الأسدي مولاهم المقري الفقيه المحدث المفسر، قتله الحجاج كما تقدم في شهر شعبان. وكان أحد علماء التابعين، اخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، فقال له ابن عباس: حدث. فقال: احدث وأنت هاهنا؟! فقال: اليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا هاهنا: فإن أصبت فداك، وإن أخطأت علمتك، وكان لا يستطيع أن يكتب مع ابن عباس في الفتيا، فلما عمي ابن عباس كتب وأخذ عنه أيضاً القراءة عرضا وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه، وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وعن بعض السلف قال: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءة أخرى وهكذا أبداً. وقال وفاء بن إياس قال لي سعيد بن جبير في رمضان أمسك علي القرآن فما قام من مجلسه حتى ختم، وقال بعضهم كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير، رحمة الة عليهم. وذكر الإمام أبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصفهان أنه دخلها وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها إلى العراق، وروى محمد بن حبيب أنه كان بأصفهان يسألونه عن الحديث ولا يحدث،
فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل له في ذلك، فقال: انشر يدك حيث تعرف، وقيل للحسن البصري أن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم أنت على فاسق ثقيف، والله لو أن من أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار. وقال الإمام أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد. وذكر بعضهم أنه لما أراد أن يقتله قال له: ما اسمك. قال: سعيد قال ابن من؟ قال: ابن جبير قال الحجاج: بل أنت شقي بن كثير قال: الله أعلم بي إذ خلقني قال: وجهوا به القبلة واقتلوه، فلما فعلوا به ذلك قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين. قال: حولوا وجهه عن القبلة فحولوه، فقال: فأينما تولوا فثم وجه الله. ولما قتله سال منه دم كثير، فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عن ذلك، وعمن كان قبله فإنهم كان يسيل منه دم قليل، فقالوا: لأن هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع النفس، وغيره قتلتهم وأنفسهم ذاهبة من الخوف فلذلك دمهم قليل. وقيل إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغيب ثم يفيق ويقول: ما لي؟ ولسعيد بن جبير وأنه قيل له في النوم بعد موته ما فعل الله تعالى بك؟ قال قتلني بكل قتيل قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة، فإنه كان في مدة مرضه إذا نام رأى سعيد بن جبير أخذ بمجامع ثوبه يقول يا عدو الله فبم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول ما لي ولسعيد؟ كان عمر بن جبير تسعاً وتسعين سنة، وقبره يزار في واسط، رضي الله عنه. وفي السنة المذكورة توفي أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى عن أبيه وسعيد وجماعة. وفيها توفي السيد الجليل الصفوة الفقيه العابد المجاب الدعوة مطرف بن عبد الله بن الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين والتشديد وسكون الياء المثناة من تحت وفي آخره راء العامري البصري روى عن علي وعمار. وفيها توفي فقيه العراق الإمام بالاتفاق أبو عمران ابراهيم بن يزيد النخعي، اخذ عن علقمة والأسود ومسروق، ورأى عائشة وهو صبي، ولما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً فقيل له في ذلك فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه؟ أتوقع رسولاً يرد علي إما بالجنة وأما بالنار والله لوددت أنها تجلجل في حلقي إلى يوم القيامة يعني نفسه والنخع بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة قبيلة كبيرة من مذحج باليمن سميت باسم الجد لأنه