الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبع وثمانين ومائة
فيها خلعت الروم من الملك السبت ايريني، وهلكت بعد أشهر وأقاموا عليهم تقفور، والروم تزعم أنه من ولد حفصة الغساني الذي تنصر، وكتب تقفور إلى هارون الرشيد من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفاً من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون أمير المؤمنين إلى تقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً فقتل وسبى، وذل تقفور وطلب الموادعة على خراج يحمله، فلما رد الرشيد إلى الرقة نقض تقفور العهد، فلم يجسر أحد أن يبلغ الرشيد، حتى عملت الشعر أبياتاً يلوحون بذلك، فقال: او قد فعل بها، فكر راجعاً في شقة الشتاء حتى أناخ بفنائه ونال منه مراده، وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب
…
من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا
…
يبرق بالمذكرة العضاب
ورايات يحل النصر فيها
…
تمر كأنها قطع السحاب
وفي السنة المذكورة أو التي قبلها توفي بشر بن المفضل أحد حفاظ البصرة، قال الإمام علي بن المديني: كان يصلي كل يرم أربع مائة ركعة، ويصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها توفي عبد العزيز بن عبد الصمد العمي الحافظ، وعبد العزيزبن محمد الدراوردي المدني، وكان فقيهاً صاحب حديث، وتوفي عبد السلام بن حرب الكوفي الحافظ. وفيها توفي أبو الخطاب السدوسي البصري المكفوف الحافظ، والإمام أبو محمد معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي الحافظ أحد شيوخ البصرة. وقال بعضهم: كان عابداً صالحاً حجةً. رفيها توفى معاذ بن مسلم الكوفي النحوي شيخ الكسائي، عاش نحو مائة سنة وفيها
غضب الرشيد على البرامكة وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكي الوزير أحد الأجواد والفصحاء، قال بعض المؤرخين: كان من علو القدر ونفاذ الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بمنزلة الفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وكان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف حتى علمه وفقهه. ومما يحكى عنه أنه وقع إلى بعض العمال وقد شكا منه. فقال: كثر شاكوك فأما اعتذرت واما عتزلت. ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم من أجل أن يهودياً زعم أن الرشيد يموت تلك السنة، فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم، فقال لليهودي: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا أو كذا يوماً؟ قال: نعم. قال: وأنت كم عمرك؟ قال كذا وكذا. ذكر مدى طويلاً، فقال للرشيد اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله فذهب ما كان بالرشيد من الغم، وشكره على ذلك، وأمر بصلب اليهودي، فقال أشجع السلمي في ذلك.
سل الراكب الموفي على الجزع هل رأى
…
براكبه نجماً بدا غير أعورا
ولو كان نجم مخبراً عن منية
…
لأخبره عن رأسه المتحيرا
يعرفنا موت الإمام كأنه
…
يعرفه أبناء كسرى وقيصرا
أيخبرعن نحس لغيرك شؤمة
…
ويحمل بادي النحس يا شر مخبرا
وكان جعفر من الكرم وسعة العطاء كما هو مشهور، ويقال إنه لما حج اختار في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فأعرضت امرأة وأنشدت:
إني عبرت على العقيق وأهله
…
يشكون من مطر الربيع تزورا
ما ضرهم إذ جعفر جاز بهم
…
أن لا يكون ربيعه ممطورا
فأجزل للمرأة المذكورة العطاء، وقيل والبيت الثاني مأخوذ من قول الضحاك بن عقيل الجناحي من جملة أبيات له:
ولو جاوزتنا العام سمراء لم ينل
…
على جدبنا أن لا يصوب ربيع
قال بعضهم: لله دره ما أحلى هذه الحشوة، وهي قوله على جدبنا، ومن مكانته عند الرشيد ونفوذ كلمته: ما ذكر صاحب كتاب الأماثل والأعيان عن جعفر في قصة ذكر في آخرها أن جعفر بن يحيى قال لعبد الملك بن صالح الهاشمي: اذكر حوائجك، قال: ان في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه وتعيده إلى جميل رأيه في، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك، فقال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم ديناً، فقال يقضي عنك وانها لحاضرة ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف لك وأدل على حسن ما عنده منك، قال: وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، فقال قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال الراوي: وهو إبراهيم بن المهدي، فخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه على ذاك من غير استئذان فيه، ثم ركبنا من الغد إلى باب الرشيد ودخل جعفر، ووقفنا فما كان أسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه. وقد عقد له على العالية بنت الرشيد، وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح، وخرج جعفر فتقدم إلينا بأتباعه إلى منزله، وصرنا معه، فقال: اظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأصبتم علم آخره، قلنا هو كذا وكذا، قال: وقلت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه، وهو يقول أحسن أحسن، قلت: يعني قضيته وقعت له معه كرهت ذكرها لاشتمالها على خلاعات ومنادمات ومحرمات لا يليق ذكرها بأرباب الديانات، واسترسال عبد الملك المذكور مع جعفر على طريق المو فقة بأشياء ليست له، بإعادته حيز القلب واسعاً، قال باريه وتوسد استمالته وتوصل إلى قضاء حاجته، وهي معروفة عند من له إلمام بمطالعة ما سطر في تواريخ الملوك والوزراء، واطلاع على أخبار الوقائع والأمراء. رجعنا إلى ذكر ما ذكره عن الرشيد قال: ثم قال فما صنعت معه فعرفته ما كان من قولي له فاستصوبه وأمضاه، وكان ما رأيتم، قال الراوي فوالله ما أدري أيهم أعجب فعلا، عبد الملك في تعاطيه ما ليس له بعادة، وكان رجل جد وتعفف ووقار وناموس، او إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، او إمضاء الرشيد ما حكم به عليه جعفر. وحكي أنه كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساتة، فأمر جعفر بازالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها حتى يأتي بقصدها لي خيراً، فإنهم يزعمون ذلك فأمر له جعفر بألف دينار، وقال: تحقق زعمهم، وأمر بتنحيتها، ثم قصدته ثانياً فأمر له جعفر بألف دينار أخرى.
وحكى ابن القادسي في أخبار الوزراء أن جعفراً اشترى جارية بأربعين ألف دينار، فقالت لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمناً، فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال، ولم يأخذ منه شيئاً، وأخبار كرمه كثيرة، وكان أبلغ أهل بيته. قالوا: وكان الفضل أجود منه، وأول من وزر من آل برمك خالد بن برمك لأبي العباس السفاح، ولم يزل خالد على وزارته حتى توفي السفاح، وتولى أخوه أبو جعفر المنصور فأقر خالد على وزارته سنة وشهوراً، وكان أبو أيوب المورياني بالمثناة من تحت بين الراء والألف وفي آخره قيل ياء النسبة نون قد غلب على المنصور، فاحتال على خالد باشارته على المنصور أن يوليه أمرة بعض البلدان البعيدة، فلما بعد عن الحضرة استبد أبو أيوب بالأمر. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق: ولد خالد سنة تسعين من الهجرة وتوفي سنة خمس وستين ومائة، وكان جعفر متمكناً من عند الرشيد غالباً على أمره، واصلاً منه بالغاً علو والمرتبة عنده ما لم يبلغ سواه، حتى أن الرشيد اتخذ ثوباً له زيقان، وكان يلبسه هو وجعفر جملة، ولم يكن للرشيد صبر عنه، وكان الرشيد أيضاً شديد المحبة لأخته العباسة ابنة المهدي، وهي من أعز النساء عليه، لا يقدر على مفارقتها، كان متى غاب جعفر وهي، لا يتم للرشيد سرور، فقال: يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة، واني سأزوجها منك ليحل لكما أن تجتمعا. يعني عندي، لكن إياكما أن تجتمعا يعني اجتماع الرجال بالنساء، فتزوجها على هذا الشرط، ثم تغير الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم آخر الأمر، وملهم وقتل جعفراً، واعتقل أخاه الفضل وأباه يحيى بن خالد كما سيأتي في ترجمتهما إن شاء الله تعالى. وقد اختلف
أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها: أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها
بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها:
الدهريفجع بعد العين بالأثر
…
فما البكاء على الأشباح والصور
ولأبي نواس أبيات تدل على طرف من الواقعة التي ذكرها ابن بدرون.
ألا قل لأمين الله
…
وابن القارة الساسه
إذا ما ناكث سرك
…
أن يفقده رأسه
فلا تقتله بالسيف
…
وزوجه بعباسه
وذكره غيره: أن الرشيد سلم إلى جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسن، وكان قد خرج على خلفاء بني العباس، وأمره بحبسه عنده، فقال يحيى لجعفر: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد، فقال أخاف أن أوخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد فدعا به، وقال: يا جعفر ما فعل يحيى؟ قال:
يحيا له قال: بحياتي، فوجم وأحجم وقال لا وحياتك أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، قال نعم الفعل وما عددت ما في نفسي، فلما نهض جعفر اتبعه بصره، قال قتلني الله إن لم أقتلك، وقيل: ما كان من البرامكة جناية توجب غضب الرشيد، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، ولقد استطال الناس الذي هم خير الناس أيام عمر بن الخطاب وما رأوا مثلها عدلاً وأماناً وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان فقتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، وآمالهم فيهم، ونظرهم إليهم دونه، او كما قيل وللملوك تنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإزلال خصوصاً جعفر والفضل دون يحيى فإنه أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاز بهم قوم من أعدائهم بالرشيد كالفضل بن الربيع وغيره فستروا منهم المحاسن وأظهروا القبائح حتى كان ما كان، وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد ما معناه وغالب ألفاظه هذا:
أقول ملا ما لا أبا لأبيكم
…
عن القوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وقيل السبب أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها، وفيها هذه الأبيات:
قل لأمين الله في أرضه
…
ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا ملكاً
…
مثلك، وما بينكما حسد
أمرك مردود إلى أمره
…
وأمره ليس له رد
وقد بنى الدار التي ما بنى
…
الفرس لها مثلا ولا الهند
الدر والياقوت حصباؤها
…
وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث
…
ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
…
إلا إذا ما بطر العبد
فوقف الرشيد عليها، وأضمر له السوء. وحكى بعضهم أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد ايقاعه بالبرامكة: يا سيدي ما رأيت لك يوماً سروراً تاماً منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال لها: لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته. وقال السندي بن شاهك: كنت ليلة نائماً في غرفة الشرطة في الجانب الغربي، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى واقفاً بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر وهو ينشد:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها وأبا دنا
…
صروف الليالي واللحود العواثر
قلت ويروى هذا البيت السنون العواثر، يروى أنه أنشده عمرو بن مضاض الجرهمي بعد أن أخرج قومه من مكة، ونزلوا بلاد اليمن. قال: فانتبهت فزعاً وقصصتها على أحد خواصي، فقال: اضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر فعاودت مضجعي فلم تمتلي عيناي غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة نجم البريد ودق باب الغرفة، فأمرت بفتحها فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمرني بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتابأ، فقرأته وإذا فيه: هذا كتابنا بخطنا مختوم، بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فإذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك امض إلى دار يحيى بن خالد لاحاطه الله، وسلام الأبرش معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتتقدم إلى بآدام بن عبد الله، وتأمره أو كما قال بالمسير إلى الفضل ابنه، مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر تفعل به مثل ما تقدم إليك في يحيى، وأن تحمله أيضا إلى حبس الزنادقة، ثم ابعث بعد فراغك من أمر هذين أصحابك في القبض على يحيى وأولاده وإخوته وقراباته، وذكر أشياء أخرى يطول ذكرها اقتضى الاقتصار حذفها. قال الراوي: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتنكيل بالبرامكة وكتاباتهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي، ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر بضم العين المهملة ومعه جعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار بالزاي قبل الكاف والراء في آخره وجواريه، ونصب الستائر وأبو زكار يغنيه.
ما يريد الناس منا
…
ما ينام الناس عنا
إنما همهم أن
…
يظهرواما قد دفنا
ودعا الرشيد ياسراً غلامه، وقال له: لقد انتخبتك لأمر، ولم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى، وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يجيب جواباً، فقال مالك: ويلك، قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر، وأبو زكار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
…
عليه الموت يطرق أويغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً
…
وأن بقيت يصير إلى نفاد
ولو فديت من حديث الليالي
…
فديتك بالطريف وبالتلاد
فقال! له: يا ياسر، سررتني بإقبالك، وسوأتني بدخولك من غير إذن، قال: الأمر أكبر
من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين كذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر قال: دعني أدخل وأوصي، قال: لا سبيل إليه أوص بما شئت، فقال: لي عليك حق ولا تقدر على مكافاتي إلا الساعة، قال: تجدني سريعاً إلا في ما يخالف أمير المؤمنين، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك وإلا أنفذت أمره في، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: اما هذا فنعم. ثم انه صار إلى مضرب الرشيد، فلما جمع حسه قال له: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر فيه، وقال: والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع فقتله وجاء برأسه، فلما وضعه بين يديه أقبل عليه ملياً ثم قال: يا ياسر جئني فلان وفلان، فلما أتى بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أن أرى قاتل جعفر، وقيل الذي هجم عليه مسرور الخادم بإرسال الرشيد له، وبعد ضرب عنقه صلب على الجسر ببغداد. وحكي أن جعفر آخر أيامهم أراد الركوب، فدعا بالاصطرلاب ليختار وقتاً وهو في داره على دجله، فمر رجل في سفينة وهو لا يرى جعفر ولا يدري ما يصنع، وهوينشد هذا البيت:
مريد بالنجوم وليس تدري
…
ورب النجم يفعل ما يريد
فضرب بالاصطرلاب الأرض وركب. وحكي أنه رأى على باب قصر علي بن ماهان بخراسان صبيحة الليل التي قتل فيها جعفر كتاباً بقلم جليل فيه هذان البيتان.
إن المساكين بني برمك
…
صتت عليهم غيرالدهر
إن لنا في أمرهم عبرة
…
فليعتبر ساكن ذا القصر
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إلى القبلة، وقال: اللهم إنه كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة، فلما قتل جعفر أكثر الشعراء في ورثائه ورثاء آله فقال الرقاشي:
هدى الخالون من شجوي فناموا
…
وعيني لا يلائمها منام
وما سهرت لأني مستهام
…
إذا سهر المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني
…
فلي سهر إذا هجع الأنام
أصبت بسادة كانوا نجوماً
…
بهم نسقي إذا انقطع الغمام
ولم يزل يقول إلى أن قال:
على المعروف والدنيا جميعاً
…
لدولة آل برمك السلام
فلم أر قط قبلك يا ابن يحيى
…
حساماً فله السيف الحسام
وأما والله لولا خوف واش
…
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
…
كما للناس بالحجر استلام
وقال أيضاً يرثيه وأخاه الفضل.
ألا ان سيفاً برمكياً مهندا
…
أصيب بسيف هاشمي مهند
فقل للمطايا بعد فضل تعطلي
…
وقل للرزايا كل يوم تجددي
وقال آخر:
ولما رأيت السيف صبح جعفرا
…
ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت إنما
…
قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا
وغير ذلك مما رثوه من الأشعار مما يخرج عن حيز الاختصار إلى حيز الإكثار مع أن ترجمة جعفر، من أطال الكلام فيها فقد قصر. قال بعض المؤرخين ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها ما حكى بعضهم قال: دخلت على والدتي في يوم عيد الأضحى وعندها امرأة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي أتعرف هذه؟ قلت: لا قالت لي: هذه أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها وتحادثنا زمانأ ثم قلت يا أمه، ما أعجب ما رأيت؟ فقالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، واني لأعد ابني عاقاً لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما منازي إلا جلدا شاتين، افترش أحدهما وألتحف بالآخر، قال: فدفعت لها خمس مائة درهم، وكادت تموت فرحاً بها، سبحان مقلب الدهور ومدبر الأمور. وفي السنة المذكورة توفي السيد الجليل الولي الخليل الإمام أبو علي المعروف بالفضيل أحد الأعلام الذين يقتدي بهم الأنام، قال ابن المبارك: ما على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض، قالوا: وكان قد قدم الكوفة شاباً، فحمل عن منصور وطبقته، وقال القاضي شريك الفضيل حجة لأهل زمانه. ويحكى أن الرشيد قال للفضيل يوماً: ما أزهدك؟ فقال: الفضيل: انت أزهد مني فقال: وكيف ذلك؟ فقال لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، والدنيا فاتنة، والآخرة باقية، قلت: وللفضيل مع هارون حكاية عجيبة ذكرتها في غيرهذا الكتاب.
ومن كلام الفضيل: اذا أحب الله تعالى عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً وسع عليه دنياه، وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي لأحاسب عليها، لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن يصيب ثوبه، وقال ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، وقال لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الامام أمن البلاد والعباد. وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً الا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك: فقال: ان الله تعالى أحب أمراً فأحببت ذلك الأمر، وكان ولده المذكور شاباً محبباً من كبار الصالحين. وقيل للفضيل: ان ابنك علياً يقول: وددت أني في مكان أرى الناس من حيث لا يروني، فبكى وقال: يا ويح علي، ليته أتمها فقال: لا أراهم ولا يروني. وكان ابن المبارك يقول: اذا مات الفضيل ارتفع الحزن من الدنيا، وهو معدود من الجماعة الذين شغفتهم محبة الله. ومناقب الفضيل كثيرة مشهورة، وسيرته بين الخلق جميلة مشكورة، ومولده بسمرقند، وقيل بغيرها من بلاد العجم وقدم الكوفة، وسمع الحديث بها، ثم انتقل إلى مكة فجاور بها إلى أن مات، وقبره فيها مزور مشهور. قلت: والمشهور من كلام المشايخ في كتب السلوك أنه كان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق، وكانت سبب توبته أنه عتق جارية فبينا هو يرتقي الجدار إليها سمع تالياً:" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر ال " - الحديد: 16 - فقال: بلى يا رب قد آن، فرجع وأواه الليل إلى خربة، فاذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل وقال بعضهم: حتى نصبح فان فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمنهم. وروي أنه قال للرشيد: يا حسن الوجه، انت الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك
لقد تقلدت أمراً عظيماً، فبكى الرشيد ثم أعطى كل واحد من الأولياء والعلماء الحاضرين بدرة، فكل قبلها إلا الفضيل، فقال له الرشيد: يا أبا علي، ان لم تستحل أخذها فأعطها ذا دين، او أشبع بها جائعاً، او إكس بها عارياً، فاستعفاه منها: قال الراوي وهو سفيان بن عيينة: فلما خرجنا قلت له: يا أبا علي أخطأت أن لا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذ بلحيتي ثم قال، يا أبا محمد، انت فقيه البلد والمنظور إليه، وتغلط مثل هذا الغلط، لو
طابت لأولئك لطابت لي. وفي السنة المذكورة توفي يعقوب بن داود السلمي، كان كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، الذي خرج هو وأخوه علي أبي جعفر المنصور بالبصرة ونواحيها، وقتلا في سنة خمس وأربعين ومائة، وقصتهما مشهورة، وقد تقدم ذكرهما هنالك، وكان قد نشأ يعقوب المذكور في صنوف من العلوم، ولما ظهر المنصور على إبراهيم بن عبد الله المذكور، ظفر بيعقوب المذكور فحبسه في المطبق، وكان يعقوب سمحاً جواداً كثر البر والصدقة واصطناع المعروف مقصوداً ممدوحاً، مدحه أعيان شعراء عصره، فلما مات المنصور وقام بالأمر ولده المهدي، جعل يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه حتى خرج كتابه إلى الدواوين: ان أمير المؤمنين قد آخى يعقوب بن داود، فقال في ذلك سالم بن عمرو:
قل للإمام الذي جاءت خلافته
…
يهدى إليه بحق يخر مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به
…
أخوك في الله يعقوب بن داود
فلم يكن ينفذ شيء من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب، الى أن تكلم فيه الواشون والعذال، واكثر فيه الأعداء المقال، وذكروا خروجه على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله، فوجد المهدي عليه، فأراد أن يمتحنه في ميله إلى العلوية، فقال له: هذا البستان، وأشار إلى بستان فيه صنوف من الأشجار، وهذه الجارية، وأشار إلى جارية عنده، لك وأمرت لك بمائة ألف درهم، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي بقضائها. فقال: السمع والطاعة، فقال: والله؟ قال: والله ئلاث مرات. فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثقه قال له: هذا فلان ابن فلان رجل من العلوية أحب أن تكفيني مؤنته، وتريحني منه، يعني نقتله، فأمره بتحويل الجارية وما في المجلس من الأثاث والمال المذكور، فاشتد سروره بالجارية، وجعل فلان العلوي عنده في مجلس، فقال له العلوي ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدم رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له يعقوب: خذ هذا المال، وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا آمن لي، فقال: امض مصاحباً بالسلامة، او كما قال، فسمعت الجارية الكلام كله، ووجهت مع بعض خدمها إلى الخليفة تعلمه بذلك، وقالت: هذا جزاء من آثرته بي على نفسك، فوجه المهدي في تلك الطريق من لحق العلوي، فرده إليه ومعه المال، وجعله في مجلس، ووجه إلى يعقوب، فلما حضر قال له: ما فعل الرجل؟ قال أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قال: نعم، فحلفه على ذلك. فحلف وأقسم برأسه، فقال: يا غلام آخرء إلينا من في