الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها توفي شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي أحد الأعلام وله نيف وثمانون سنة.
سنة ثمان وسبعين ومائة
فيها توفي جعفر بن سليمان الضبعي وكان أحد علماء البصرة، روى عن أبي عمران الجوني وطائفة، وأخذ عنه الشيخ عبد الرزاق اليماني.
سنة تسع وسبعين ومائة
فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي قالت أخته المسماة بالفارعة لما قتل:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا
…
كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
…
ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الذخر إلا كل جردا هلدم
…
معاودة للكد بين صفوف
كأنك لم تشهد هناك ولم تقم
…
مقاماً على الأعداء غير خفيف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى
…
فإن مات لا يرضى الندى بحليف
فقدناك فقدان الشباب وليتنا
…
فديناك من دهمائنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه
…
شجا لعدو أو ملجأ لضعيف
ألا يا لقومي للحمام وللبلى
…
وللأرض همت بحلى برجوف
ألا يا لقومي للنوأئب والردى
…
ودهر ملج بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب إذ هوى
…
وللشمس لما أزمعت بكسوف
هو الليث كل الليث إذ يحملونه
…
إلى حفرة ملحودة وسقيف
ألا قاتل الله الحثا حيث أضمرت
…
فتى كان بالمعروف غير عنوف
فإن يك أراده يزيد بن مرثد
…
فرب رجوف لفها برجوف
عليه سلام الله وقفا فإنني
…
أرى المرت وقاعاً بكل شريف
وأول هذه المرثية:
بتل نباثي رسم قبر كأنه
…
على جبل فوق الجبال منيف
تضمن مجداً عد مكياً وسؤددا
…
وهمة مقدام ورأي خصيف
والعد مكي بالعين والدال المهملتين: المديم، ولها فيه مراثي كثيرة، قالوا: وكان يوم المصاف ينشد:
أنا الوليد بن الطريف الشاري
…
قسورة لا يصطلي بناري
ويقال إنه لما انكسر جيشه وانهزم، تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة، فقتله وأخذ رأسه، ولما علمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد، فقال يزيد: دعوها، ثم خرج فضرب بالرمح فرسها. وقال أعرابي: عرب الله عليك، فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت، والخابور نهر معروف يصب في الفرات، وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها، وطريف بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الراء المثناة من تحت وبعدها فاء، وتل نباثي معروف مضاف إلى نباتي بضم النون وبعدها موحدة وبعد الألف مثلثة مفتوحه في برية الموصل والحثا في قولها ألا قاتل الله الحثا جمع حثية وقولها:
فتى لا يريد الزاد إلا من التقى
…
ولا المال إلا من فتى وسيوف
قلت هذا البيت ظاهرة التناقض، فإن القائل يقول إن حصول المال بالقنا والسيوف ظاهره القتل والقتال ونهب الأموال، وهذا مناف للتقوى والجواب فيما يظهر والله تعالى أعلم: ان هذا لا تناقض فيه على مذهب الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنب ويرون الخروج عليهم، والدليل على كونه منهم قوله أنا الوليد بن الطريف الشاري، فنسب نفسه إلى الشراة، وهم الخوارج المتسمون بهذا الاسم بكونهم بزعمهم باعوا نفوسهم بالجنة، وقد أبدعت أخته في شعرها المذكور، وبلغت في بلاغته نهاية من النظم المشكور، وما سمعت من أشعار النساء أبلغ من شعرها وشعر الخنساء، كلتاهما رثت أخاها، ومن شعر الخنساء البليغ فيه:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
أبدعت في التشبيه وناسبت بين طرفي البيت، لأنها لما جعلته هادي الهداة شبهته بدليل على دليل، وهما الجبل والنار، وأخت ابن طريف أيضاً أبدعت في مواضع من هذه الأبيات ومنها: تبكيتها لشجر الخابور، ومعاتبتها له على عدم تساقط ورقه لاحتراقه بنار الحزن على قتل أخيه الوليد المذكور، فاستعارت استعارة بالغة مشعرة بكون الكون جديراً بأن يحزن ويأسى على فقد من اتصف بالأوصاف الجميلة الثناء حيث قالت:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً
…
كأنك لم تحزن على ابن طريف
وقال بعضهم: أظنه في بلد نصيبين، وهو موضع الوقعة والشاري بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء واحدة، الشراة بضم الشين وهم الخوارج سموا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة. وكان الوليد المذكور أحد الشجعان الأبطال، وكان رأس الخوارج، خرج في خلافة هارون الرشيد وبغى وحشد جموعاً كثيرة، فأرسل إليه هارون جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فأغروا به الرشيد، وقالوا إنه يراعيه لأجل الرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب، وقال: لو وجهت أحد الخدام أو قال أصغر الخدم لقام بأكثر ما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين، فالتقيا فظهر على الوليد فقتله، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة في شهر رمضان، وهي وقعة مشهورة مسطورة في التاريخ. وفي السنة المذكورة توفي إمام دار الهجرة وشيخ الأئمة الجلة أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، نسبة إلى بطن من حمير، يقال له ذو أصبح، ولد سنة أربع وتسعين، وسمع من نافع والزهري وطبقتهما وأخذ القراءة عرضاً عن نافع بن أبي نعيم، قال الإمام الشافعي: اذا ذكر العلماء فلمالك النجم. وكان مالك طويلاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية، وقيل تبلغ لحيته صدره، وقيل كان أشقر أزرق العينين يلبس الثياب العدنية الرفيعة البيض. وقال أشهب: كان مالك إذا أعتم جعل منها تحت ذقنه، ويسدل طرفيها بين كتفيه، وقال خالد بن خداش: رأيت على مالك طيلساناً وثياباً مروية جياداً، قيل: وكان يكره خلق الثياب، يعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه. وقال ابن عيينة لما بلغه موت مالك: ما ترك على وجه الأرض مثله. وقال أبو مصعب: سمعتعت مالكاً يقول: ما أفنيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وعنه أنه قال: قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني. قلت أخبر رضي الله عنه بنعمة الله تعالى عليه، وقد يقع مثل هذه الغيرة وقد والحمد لله وقع لي ذلك، فبعض شيوخي التمس مني أن يقرأ علي بعض العلوم وبعضهم سألني عن بعض الأحكام الفقهية، وبعضهم رجع عن بعض ما أفتى به لما وقف على ما أفتيت به
مخالفاً لفتياه، وبعضهم جاء بمسائل عديدة من بلاد بعيدة اشكلت عليه، وسالني أن أنظرفيها رجاء وضوحها وزوال إشكالها، وهو شيخنا وسيدنا وبركتنا الإمام العالم العامل العابد، الخاشع الصالح الورع الزاهد حليف المحراب وبركة الأصحاب، بل بركة الزمن. ونور اليمن، جمال الدين محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة وبالموحدة المثناتين من تحت المشهور بالنصال، قدس الله روحه ونور ضريحه، وزاده من الأنعام والأفضال. وبعض شيوخي المتصدرين للقضاء والتدريس وغيرهما من الفضائل الشرعية والمناصب العلية، لما قرأت عليه كتاب الحاوي في الفقه قال بعد ما أكملته للحاضرين به اشهدوا على أنه شيخي فيه، وقال لي لقد استفدت منك فيه أكثر ما استفدت مني وهو الامام الفاضل، ذو المحاسن والفضائل والأوصاف الحميدة، الجميلة العديدة، القاضي نجم الدين الطبري، رحمه الله تعالى. وبعض الفضلاء النجباء العلماء الألباء قال: لي ما نتكلم في فن إلا حسب سامعك أن ذلك فنك دون غيره، وبعضهم كان يسميني الفرضي لكونه حضر عندنا يوماً في حساب الفرائض مع أن اشتغالي بعلم الفرائض كان أقل من اشتغالي بغيره من العلوم، واشتغالي بالعلوم كان أقل من نصف عشر اشتغال غيري من العلماء، وكنت آتي جماعة من شيوخ الفقراء والفقهاء والصلحاء وأتبرك بهم، فلم يمض كثير من الزمان حتى جاءوني زائرين، وقد كانوا من العلماء المقتدين بهم والشيوخ المشار إليهم، وأنا إذ ذلك أمي لا أقرأ ولا أكتب، والحمد لله ذو الجلال والإكرام على ما عود فضله من الجميل والأنعام. رجعنا إلى ذكر الإمام مالك، قال ابن وهب: سمعت منادياً ينادي بالمدينة ألا لايفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب، وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس صدر فراشه، وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: احب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائماً أو مستعجلاً، ويقول: احب أن أفقههم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله: عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:
سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك
…
من المزن مرعاد السحائب مبراق
إمام موطأه الذي طبقت به
…
أقاليم في الدنيا فساح وآفاق
أقام به شرع النبي محمد
…
له حذر من أن يضام وإشفاق
له مسند عال صحيح وهيبة
…
فللكل منه حين يرويه إطراق
وأصحابه بالصدق تعلم كلهم
…
إنهم إن أنت سألت حذاق