الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة إحدى وتسعين ومائة
فيها توفي محمد بن الحسين الأزدي المهلبي البصري، وكان من عقلاء زمانه وصلحائه، ومعمر بن سليمان الرقي، وكان من أجلاء المحدثين ومحمد بن سلمة الحراني الفقيه محدث حران ومغنيها، وفيها توفي أبو أيوب مطرف بن مازن الكناني بالولاء، وقيل القيسي بالولاء اليماني الصنعاني ولي القضاء بصنعاء اليمن. وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير، وطعن في روايته خلق كثير من المحدثين، وقال بعضهم: كان رجلاً صالحاً.
سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها أول ظهور الخرمية، ثاروا بجبال آذربيجان، فغزاهم حازم بن خزيمة، فقتل وسبى. وفيها توفي الإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن ادريس الأزدي الكوفي الحافظ العابد. وفيها توفي مفتي الأندلس وخطيب قرطبة، صعصعة بن سلام الدمشقي، اخذ عن الأوزاعي والكبار. وفيها توفي الأمير الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، مات في السجن وقيل في السنة التي تليها، وقد ولي أعمالاً جليلة، وكان أندى كفاً من أخيه جعفر، وله أخبار في السخاء المفرط حتى أنه وصل مرة بعض أشراف العرب بخمسين ألف دينار، وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر فأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى: يا أبة وكان يدعوه كذلك، اني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر، وكان يدعو الفضل بأخي فإنهما متقاربان في المولد وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد واسمها زبيدة من مولدات المدينة، قال وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكتب أنت إليه فكتب والده إليه قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك فكتب إليه الفضل: سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي، وأطعت وما انتقلت عني عن نعمة صارت إليه، ولا غربت عنى، وقال شمس رتبة طلعت عليه فقال جعفر لله أخي،
ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه وأقوى العقل منه وأوسع في البلاغة درعه، وكان الرشيد قد ولاه خراسان، فأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبة اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه ما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظاهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمنع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به والسلام. وكتب في أسفله أبياتاً مضمونها التحريض على التستر في الليل بما لا ينبغي إظهاره، والظهور بالنهار بما ينبغي اشتهاره، كرهت ذكرها في هذا الكتاب، فحذفتها، لتضمنها التحريض على التستر بالذات، وإيهام التنسك مع إخفاء تناول الشهوات المحرمات، وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: ابلغت يا أبة، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن ينصرف عن عمله، وقيل له ما أحسن كرمك لولايته فيك فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: كان أبي عاملاً على بعض بلاد فارس فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف درهم لا يعرف لها وجهاً، والطلب عليه حثيث، فبقي حائراً في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة لكنه علم أنه لا يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوماً وأنا صبي امض إلى عمارة وسلم عليه عني، وعرفه الضرورة التي صرنا إليها، واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرضة إلى أن يسهل الله سبحانه وتعالى، فقلت له أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة؟ وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك، فقال: لا بد أن تمضي إليه، لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته وخرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى أتيت داره، واستأذنت عليه في الدخول فأذن لي، فلما دخلت وجدته على صدر إيوانه متكئاً على مفارش وثيرة، وقد غلف شعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط، وكان من شدة بهته لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت أسفل الإيوان وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة فسكت ساعة، ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادماً على نقل خطواتي إليه. موقناً بالحرمان عاتباً على أبي كونه كلفني إذلال نفسه ونفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظاً منه، فغبت عنه ساعة، ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت بغالاً محملة، فقلت: ما هذه؟ فقيل إن عمارة قد سير المال فدخلت على أبي
ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كي لا أكدر عليه إحسانه، فمكثنا قليلاً، وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة فدفع لي ذلك المبلغ وقال تحمله إليه، فجئت به ودخلت عليه فوجدته على الهيئة الأولى فأسلمت عليه فلم يرد، وسلمت
عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول: هـ عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى
وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول:
ويفرح بالمولود من آل برمك
…
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولادة
…
ببذل الندى والجود والمجد والفضل
قال: فتهلل وجهه فرحاً وقال: ما سررت قط بمثل هذا، وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال: خذها يا محمد فهو أول حقك، فأخذت المال وخرجت وأنا من أشد الناس فرحاً، واشتريت به أرضاً وعقاراً وفتح الله علي وكثر مالي وعظم جاهي، فما أقمت إلا يسيراً حتى دارت على البرامكة الدائرة وكان عندي حمام بإزاء داري، فأمرت قيم الحمام أن ينظفه ولا يدخله أحد، ثم دخلت فيه وقضيت ما أحتاج إليه وأرسلت إلي قيم الحمام أطلب منه أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني، فأرسل إلي بصبي حسن الوجه فدلكني وغمزني، فلما استلقيت على قفاي ذكرت أيام البرامكة، ان جميع ما أملكه من فضل الله تعالى هو على يد الفضل وذكرت البيتين فقلت:
ويفرح بالمولود من آل برمك
…
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولادة
…
ببذل الندى والجود والمجد والفضل
قال فرأيت الصبي الذي كان يدلكني قد انقلبت عيناه وانتفخت أوداجه وسقط مغشياً عليه، فظننت أنه مجنون فأخذت ثيابي ومضيت إلى منزلي وأمرت إلى قيم الحمام، فلما حضر قلت: ارسلت إلي المجنون يدلكني ويغمزني الحمد لله على السلامة منه، قال والله يا سيدي ما به جنون، وإان له عندي سنا كثيرة ما رأيت منه شيئاً، فقلت: علي به الساعة، فلما حضر أنسته من نفسي حتى اطمأنت نفسه وقلت: وما ذلك العارض الذي رأيته منك؟ قال لي
ما رأيت مني قلت رأيت منك ما استحيي من ذكره، فقال: رأيت أني جننت؟ قلت: نعم. قال فما كنت تنشد في ذلك الوقت؟ قلت: بيتين من الشعر قال: ومن قائلهما؟ قلت: أنا قال: ففي من قلتهما؟ قلت: في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد؟ قلت: لا أدري قال: انا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وأنا صاحب ذلك السابع، وفي قلت البيتين، كنت قد سمعتهما من قبل، فلما سمعتهما منك ضاقت علي الأرض بأجمعها، ورأيت مني ما رأيت، قال فقلت له: يا ولدي أنا والله شيخ كبير ولا لي قرابة يرثني وأرثها وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك فتأخذ المال وكون أعيش في فضلك إلى أن أموت، فتغرغرت عيناه بالدموع، وقال: والله لا انثنيت عليك في هبة وهبها لك والدي، وإن كنت محتاجاً إلى ذلك. قال: فحلفت عليه أن يأخذ الكل أو البعض فكره، وكان آخر عهدي به. ومما حكي في كتاب طرف الألباب وتحف الأحباب من حكايات بعض الشعراء والأعراب أنه خرج الفضل بن يحيى البرمكي يوماً إلى الصيد ومعه الأصمعي ومحمد بن يزيد العقيلي والحسن بن هاني، فلما قضى وطره من صيده ورجع يريد مضربه اعترضه أعرابي على راحلة له، فلما رأى الأعرابي المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير والجم الغفير، نزل عن راحلته وتقدم حتى مشى بين يديه وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: ويلك احفظ عليك ما تقول يا أخا العرب، فقال: السلام عليك أيها الوزير، قال: ويحك دون هذا، فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته الآن قاربت فاجلس، فجلس بين يديه، فلما مثل بين يديه، قال: يا أخا العرب، من أين أقبلت؟ قال: من أرض قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: بل من أقصاها، قال الأصمعي: فالتفت إلي الفضل وقال يا أصمعي، كم بين أقصى أرض قضاعة إلى العراق؟ قال قلت: ثمان مائة فرسخ، قال يا أخا العرب مثلك من يقصد من ثمان مائة فرسخ إلى العراق فلأي شيء قصدت؟ قال: قصدت هؤلاء الأنجاد الذين صار معروفهم شائعاً في البلاد، قال: من هم؟ قال: البرامكة. فقال: يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير وكلهم جليل خطير ولكل منهم خاصة وعامة، فهل اخترت من قصدته لنفسك وابتديته لحاجتك؟ قال: اجل. قال: من هو؟ قال: اطر لهم باعاً واسمحهم كفاراً أظهرهم أو قال وأشهرهم كرماً. قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك. قال: يا أخا العرب، ان الفضل جليل المقدار عظيم الخطر إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمذاكرون، افعالم أنت؟ قال: لا.
قال: فأديب أنت؟ قال: لا. قال: افعالم أنت بأخبار العرب وبأشعارها ونوادرها؟ قال: لا. قال: فوردت على الفضل بكتاب وسيلة؟ قال: لا. قال يا أخا العرب، لقد غرتك نفسك مثلك من يقصد الفضل وهو على ما عرفتك من جلاله بلا ذريعة ولا وسيلة؟ قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لحسبه المعروف ولكرمه المألوف، وببيتين من الشعر قلتهما. قال: يا أخا العرب، اسمعني البيتين فإن كانا مما يصلح أن تلقى بهما الفضل أشرت عليك بلقائه، وإن كانا مما لا يصلح أن تلقى بهما الفضل بررتك بشيء من مالي ورجعت إلي ناديتك، ولم يخف نفسك، ولم يستخف شعرك، قال وتفعل ذلك لي أيها الأمير، قال: نعم. قال: فإني والله الذي يقول:
ألم تر أن الجود من لدن آدم
…
نجود حتى صار يملكه الفضل
فلو أم طفل مسها جوع طفلها
…
وغذته باسم الفضل لاستعصم الطفل
قال أحسنت والله: يا أخا العرب، قال: فإن قال لك الفضل هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر غيرك وأخذ الجائزة عليهما: فأنشد غيرهما ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير:
قد كان آدم حين حان وفاته
…
أوصاك وهو يجود بالحواء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم
…
فكفيت آدم غيلة الأبناء
قال أحسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل وهذان البيتان أيضاً مسروقان ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير.
ملت جهابذ فضل دون نائله
…
ومل كاتبه إحصاء ما يهب
لولاك فضل لم يمدح بمكرمة
…
خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس، انشدني غيرهما، وقد رمقتك الأدباء بأبصارهم، وامتدت إليك الأعناق فتحتاج أن تناضل عن نفسك، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
وللفضل صولات على صلب ماله
…
يرى المال فيه بالمذلة مذعنا
ولو أن رب المال أبصر جوده
…
لصلى على مال الأمير وأذنا
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسموعان، انشدني غيرهما، ماذا كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
ولو قيل للمعروف ناد أخا الندى
…
لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل
ولو أن ما أنفقت من رمل عالج
…
لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مقولان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
وما الناس إلا اثنان صب وباذل
…
وإني لذاك الصب، والباذل الفضل
على أن لي مثلاً إذا ذكر الهوى
…
وليس لفضل في سماحته مثل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مذكوران أنشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد
…
فقاربه التقوى وقاربه البذل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً
…
ولم يك للمعروف بعد ولا قبل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل ضجرنا من الفضل والفضل أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير.
ألا يا أبا العباس يا أوجه الورى
…
ويا ملكاً جد الملوك له نمل
إليك يسير الناس شرقاً ومغرباً
…
فرادى وأزواجاً كأنهم غل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فمان قال لك الفضل أنشدني بيتين بغير الكنية وبغير الاسم وعلى غير القافية، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير:
يا جبل الله المنيف الذي
…
تسعى إليه في الملمات الورى
تؤم أبوابك طلاب الغنى
…
كما يؤم البيت حجاج منى
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسروقان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: والله لئن زاد امتحاني الفضل لأقولن أربعة أبيات، ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي، ولئن زاد امتحاني لأدخلن قوائم ناقتي هذه في كذا من أم الفضل، ولأرجعن إلى قضاعة خائباً خاسراً، ولا أبالي، قال: فنكس الفضل رأسه ملياً، ثم رفعه وقال: يا أخا العرب أسمعني الأبيات، فقال:
ولائمة لامتك يا فضل في الندى
…
فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتنهي الفضل عن بذل ماله
…
ومن ذا الذي ينهي السحاب عن القطر
كأن نوال الناس من كل وجهة
…
تحدر صوب المزن في مهمة قفر
كأن وقود الناس من كل بلدة
…
إلى الفضل، لاقوا عنده ليلة القدر
قال فخز الفضل على وجهه ضاحكاً ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب، انا والله الفضل فقل ما شئت، قال: عزمت عليك يا أيها الأمير أنت الفضل؟ قال: انا الفضل قال: فأقلني على ما مضى من الكلام مني إليك، قال: اقالك الله، اذكر حاجتك، قال: عشرة آلاف دينار. قال: يا أخا العرب أزريت بنا وبنفسك لك عشرة ومثلها. قال: فحسده بعض الجلساء، وقال له: يا أمير تعطي شاعراً عشرين ألف دينار كان يقنع بالقليل عن الكثير، بالله يا أمير ألا ما ربيت عليه فإن دفع عن نفسه بيت من الشعر وإلا أخذت النصف، وكان في النصف الكفاية، قال: فسمع كلامه وأوتر القوس وركب السهم وقال يا أخا العرب ادفع عن نفسك ببيت من الشعر وإلا أخرجت هذا السهم من عينيك، فأنشأ الأعرابي يقول:
فقوسك قوس المجد والوتر الندي
…
وسهمك سهم الجود فاقتل به فقري
فقال: زيدوه عشرين على العشرين. رجعنا إلى ذكر ما نزل بالبرامكة من البلاء، واستحالة تلك السراء إلى الضراء وتلك النعم إلى النقم وبهجة السرور إلى بؤس الشرور، قال أهل التاريخ: ثم إن الرشيد لما قتل جعفراً على ما تقدم في ترجمته، قبض على أبيه بيحيى وأخيه الفضل المذكور، وكانا بالرقة، فسجنهما بها، واستصغى أموال البرامكة، ويقال: ان الرشيد سير مسرور الخادم إلى السجن فجاءه وقال للموكل بهما: اخرج إلي الفضل، فأخرجه إليه، فقال له: ان أمير المؤمنين يقول لك إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم، فزعمت أنك قد فعلت وقد صح عندي أنك أبقيت لك مالاً كثيراً، وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مائتي سوط، وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك، فرفع الفضل رأسه إليه وقال: والله ما كذبت فيما أخبرت به، ولو خيرت بين الخروج من ملك الدنيا وبين أن أضرب سوطاً واحداً لاخترت الخروج، وأمير المؤمنين يعلم ذلك، وأنت تعلم أنا نصون أعراضنا بأموالنا، فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا؟ فان كنت قد أمرت بشيء فامض له، فأخرج مسرور سوطاً كان معه في منديل فضربه مائتي سوط، وتولى ضربه بنفسه، فضربه أشد الضرب، وهم لا يحسبون الضرب، وكاد أن يتلفه، وكان هناك رجل بصيراً بالعلاج فطلبوه لمعالجته، فلما رآه قال: يكون قد ضربوه خمسين سوطاً، فقيل له: بل مائتي سوط، فقال: ما هذا إلا أثر خمسين لا غير، ولكن يحتاج أن ينام على ظهره على بارية وعدوس على صدره، ثم أخذ بيده فجذبه على البارية فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم أقبل يعالجه إلى أن نظر يوماً إلى ظهره فخر المعالج ساجداً، فقيل له: ما بالك؟ قال: قد برىء وقد نبت في ظهره لحم حي، ثم
قال: الست قلت هذا قد ضرب خمسين سوطاً؟ فقال: اما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا، وإنما قلت هذا حتى يقوى بنفسه فيعنني على علاجه، ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها إليه، فردها عليه، فاعتقد أنه استقلها، فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها إليه، فأبى أن يقبلها، وقال: ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء، والله لو كانت عشرين ألف ديناراً ما قبلتها، فلما بلغ الفضل ذلك قال: والله إن الذي فعله هذا بلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم، وكان قد بلغه أن ذلك المعالج في شدة وفاقة، وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات، قيل كأنها لأبي العتاهية:
إلى الله في ما نالنا نرفع الشكوى
…
ففي يده كشف المضرة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا: السجان يوماً لحاجة
…
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وكان الفضل كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء، فيحكى أنه لما كان في السجن لم يقدر على تسخين الماء، وكان يأخذ إبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زماناً عساه ينكر برودته بحرارة بطنه أو قال باطنه حتى يستعمله أبوه، وأخباره كثيرة وغرائبه غزيرة. وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومائة، وتوفي في السجن في السنة المذكورة، وقيل بل في سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم، ولما بلغ الرشيد موته قال: امري قريب من أمره، وكذا كان فإنه توفي في سنة ثلاث وتسعين ومائة. وفي السنة المذكورة وقيل قبلها وقيل بعدها توفي العباس بن الأحنف اليمامي الشاعر المشهور، ومن شعره:
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة
…
فلا خير في ود يكون بشافع
فأقسم ما تزكي عتابك عن قلبي
…
ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً
…
فلا بد منه مكرهاً غير طائع
حكى عمر بن شبة قال: ثم مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا؟ قالوا: ابراهيم الموصلي فقال: اخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف، نا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر؟ فأنشد بيتين من نظم العباس، ثم قال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة.