الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن الحكم بن عتيبة وعمرو بن مرة وخلق، وقال ابو حاتم: كان أعلم زمانه بحديث ابن مسعود، رضي الله عنه.
سنة إحدى وستين ومائة
فيها ظهر عطاء الساحر الشيطان الذي ادعى الربوبية بناحية مرو، واستغوى خلائق لا يحصون، وأري الناس قمراً ثانياً فيئ السماء، كان يرى ذلك إلى مسيرة شهرين. وفيها توفي أبو دلامة بن زند بن الجون، وكان صاحب نوادر وحكايات وأدب ونظم، ذكر ابن الجوزي أنه توفيت لأبي جعفر المنصور ابنة عم فحضر جنازتها وحو متألم لفقدها كئيب، فاقبل أبو دلامة وجلس قريباً فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا المكان؟ وأشار إلى القبر، فقال: ابنة عم أمير المؤمنين، فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال له: ويحك فضحتنا بين الناس. ولما قدم المهدي بن منصور من الري إلى بغداد، خل عليه أبو دلامة للسلام والتهنية بقدومه، فقال له المهدي: كيف أنت يا أبا دلامة؟ فأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً
…
بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على الرسول محمد
…
ولتملأن دراهماً حجري
فقال له المهدي: اما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا، فقال: جعلني الله فداك، انهما كلمتان لا تفرق بينهما، فقال: يملأ حجر أبي دلامة دراهم، فقعد وبسط حجره فملأه دراهم، وقال له: قم الآن يا أبا دلامة، فقال: ينحرق قميصي يا أمير المؤمنين، فردها إلى الاكياس، ثم قام. ومن أخباره: انه مرض ولده فاستدعى طبيباً ليداويه، وشرط له جعلا معلوماً، فلما برأ قال له والله ما عندنا شيء نعطيك، ولكن ادع على فلان اليهودي، وكان ذا مال كثير بمقدار الجعل، وأنا وولدي نشهد بذلك، فمضى الطبيب إلى القاضي يومئذ، وحمل اليهودي إليه، وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر اليهودي، فقال: ان لي عليه بينة وخرج لاحضار البينة، فأحضر أبا دلامة وولده، فدخلا إلى المجلس، وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية فأنشد في الدهليز قبل دخوله إلى القاضي بحيث يسمع القاضي:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم
…
وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
وإن ينبثوا بيري نبثت بيارهم
…
ليعلم قوم كيف تلك البثائث
ثم حضر بين يدي القاضي وأديا الشهادة، فقال له القاضي: كلامك مسموع وشهادتك
مقبولة، ثم غرم القاضي المبلغ من عنده، واطلق اليهودي، وما امكنه أن يرد شهادتهما خوفاً من لسانه، فجمع بين المصلحتين بتحمل الغرم من ماله، وكان القاضي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل عبد الله بن شبرمة. وفي كتاب أخبار البصرة أن أبا دلامة كتب إلى سعيد بن دعلج، وكان يومئذ يتولى الأحداث بالبصرة، وأرسل الكتاب من بغداد مع ابن عم له.
إذا جئت الأمير فقل سلام
…
عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم
…
من الأعراب قبح من غريم
له ألف علي ونصف أخرى
…
ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن
…
وصلت بها شيوخ بني تميم
فسير له دعلج ما طلب: وكان روح بن حاتم المهلبي والياً على البصرة، فخرج إلى حرب الجيوش الخراسانية ومعه أبو دلامة، فخرج من صف العدو مبارزاً فخرج إليه جماعة، فقتلهم واحداً بعد واحد، فتقدم روح إلى أبي دلامة لمبارزته، فامتنع، فألزمه ذلك فاستعفاه، فلم يعفه، فأنشد:
إني أعوذ بروح أن يقدمني
…
إلى القتال فيخزي بي بنو أسد
إن المهاب حب الموت أورثكم
…
ولم أورث قط حب الموت من أحد
إن الدنو إلى الأعداء أعلمه
…
مما يفرق بين الروح والجسد
فاقسم عليه ليخرجن، وقال: لماذا تأخذ رزق السلطان؟ قال: لأقاتل عنه. قال: فما بالك الآن لا تبرز إلى العدو؟ فقال: ايها الأمير إن خرجت إليه لحقت بمن مضى، وما الشرط أن أقتل عن السلطان بل أقاتل عنه، فحلف روح ليخرجن إليه فتقتله أو تأسره أو تقتل دون ذلك، فلما رأى أبو دلامة الجد منه قال: ايها الأمير تعلم أن هذا أول يوم من أيام الآخرة ولا بد فيه من الزوادة، فأمر له بذلك فأخذ رغيفاً على دجاجة ولحم وسطيحة من شراب وشيئاً من بقل، وشهر سيفه وحمل، وكان تحته فرس جواد فأقبل يجول ويلعب بالرمح وكان مليحاً في الميدان والفارس لا يلحظه، ويطلب منه غرة حتى إذا وجدها حمل عليه، والغبار كالليل فأغمد أبو دلامة سيفه وقال للرجل: لا تعجل، واسمع مني عافاك الله كلمات ألقيهن إليك، فإنما أتيتك في مهم، فوقف مقابله، وقال: ما هو المهم؟ قال أتعرفني؟ قال: لا. قال: انا أبو دلامة. قال: قد سمعت بك، حياك الله، فكيف برزت إلي وطمعت في بعد من قتلت من أصحابك ممن رأيت؟ قال: ما خرجت لأقتلك ولا أقاتلك ولكني رأيت لياقتك وشهامتك فاشتهيت أن تكون لي صديقاً، وإني لأدلك على ما هو أحسن
من قتالنا، قال: قل على بركة الله تعالى، قال: أراك قد تعبت وأنت سقيان ظمآن قال: كذلك هو، قال: فما علينا من خراسان والعراق. إن معي خبزاً ولحماً وشراباً وبقلاً كما يتمنى المتمني، وهذا غدير ماء تميز بالقرب منا، فهلم بنا إليه نصطبح، وأترنم إليك بشيء من إحدى الأعراب، فقال: هذا غاية أملي، قال: فها أنا انتظر ذلك فاتبعني حتى تخرج من حلقة النضال، ففعلا وروح يتطلب صاحبه. فلا يجده، والخراسانية تتطلب فارسها فلا تجده، فلما طابت نفس الخراساني قال له أبو دلامة: ان روحاً كما علمت من أبناء الكرام، وحسبك يا بن المهلب جوداً، وأنه يبذل لك خلعة فاخرة وفرساً جواداً ومركباً مفضضاً وسيفاً محداً ورمحاً طويلاً وجارية بربرية، وأنه ينزلك في أكبر العطاء وهذا خاتمه معي لك بذلك، فقال: ويحك وما أصنع بأهلي وعيالي، قال: استخر الله تعالى وأسرع معي ودع أهلك فالكل يخلف عليك، فقال سر بنا على بركة الله تعالى فسارا حتى قدما من وراء العسكر، فهجما على روح، فقال يا أبا دلامة، اين كنت؟ قال في حاجتك، اما قتل الرجل فما أطيقه، وأما سفك دمي فما طبت به نفساً وأما الرجوع خائباً فلم أقدم عليه، وقد تلطفت وأتيتك بالرجل أسير كرمك، وقد بذلت له عنك كيت وكيت، فقال: يمضي إذا وثق لي. قال بماذا؟ قال: ينقل أهله فقال الرجل: اهلي على بعد ولا يمكنني نقلهم الآن، ولكن أمدد يديك أصافحك وأحلف لك متبرعاً بطلاق الزوجة أني لا أخونك، فإن لم أف إذا حلفت بطلاقها لم ينفعك نقلها، قال: صدقت، فحلف له وعاهده ووفى بما ضمنه أبو دلامة وزاد عليه، وانقلب الخراساني معهم يقاتل الخراسانية وينكأ فيهم أشد نكاية، وكان أكثر أسباب ظفر روح وكان المنصور قد أمر بهدم دور كثيرة منها دار أبي دلامة فكتب إلى المنصور:
يا ابن عم النبي دعوة شيخ
…
قد دنا هدم داره وبواره
فهو كالماخض الذي اعتادها
…
الطلق، وما تقر قراره
لكم الأرض كلها فأعيروا
…
عبدكم ما أحتوى عليه جداره
وفي شعبان منها توفي الإمام العالم أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي الفقيه سيد أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً وزهداً وعمره ست وستون سنة. روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير. قال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان. وقال شعبة ويحيى بن معين وغيرهما: سفيان أمير المؤمنين فى الحديث، وقال أحمد بن حنبل لا يتقدم سفيان في قلبي أحد، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحداً احفظ من الثوري وهو فوق مالك في كل شيء، وقال سفيان ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني، وقال ورقاء لم ير الثوري مثل نفسه، وقال الشيخ أبو اسحاق في الطبقات: قال عبد الله بن المبارك: لا نعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان، قال: وقال علي بن
المديني: سألت يحيى بن سعيد فقلت أيما أحب إليك؟ رأي مالك أو رأي سفيان؟ فقال: سفيان لا نشك في هذا، ثم قال يحيى: سفيان فوق مالك في كل شيء. قال وقال أحمد بن حنبل: دخل الأوزاعي وسفيان على مالك فلما خرجا قال مالك: احدهما أكبر علماً من صاحبه، ولا يصلح للإمامة، والآخر يصلح للإمامة، فسأل من الذي عنى مالك أنه علم الرجلين، اهو سفيان؟ قال: نعم. سفيان أوسعهما علماً. وعن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني، وكان أحد السادة الأئمة الكبار في الحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء سفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم إن لم تدركوا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فقد أدركتم سفيان الثوري ألا اقتديتم به. وكان سفيان كثير الحظ على المنصور، فهم به وأراد قتله، فما أقدره الله تعالى على ذلك قلت وقصتهم معه مشهورة أعني في أمر المنصور يلزم سفيان في مكة لما قرب المنصور من دخولها، واقسام سفيان رضي الله تعالى عنه في الملتزم برب الكعبة أنه لا يدخلها، فلم يدخلها، بل مات خارجاً عنها، وقد اجتمع الناس على جلالة سفيان وإمامته وصلاحه وزهادته وورعه وعبادته. ويقال كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأس الناس في زمانه، وكان بعده ابن عباس في زمانه، وكان بعده الشعبي في زمانه، وكان بعده الثوري في زمانه، سمع الحديث من أبي إسحاق السبيعي والأعمش ومن في طبقتهما من الجلة، وسمع منه الجلة كمالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك والأوزاعي وابن جريج ومحمد بن اسحاق ومن في طبقتهم. وذكر المسعودي في مروج الذهب ما مثاله قال القعقاع بن الحكم: كنت عند المهدي فأتى سفيان الثوري فلما دخل عليه سلم تسليم العامة، ولم يسلم عليه بالخلافة، والربيع قائم على رأسه، متكىء على سيفه، يرقب أمره، فاقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا هاهنا وهاهنا، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، فما عسى أن نحكم فيك بهواناً، فقال سفيان: ان تحكم في يحكم فيك ملك قادرعادل، يفرق في حكمه بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويحك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فتشقى بسعادتهم أو قال لسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفعه إليه فأخذوه وخرج، فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولاه
شريك بن عبد الله النخعي قال الشاعر:
تحرز سفيان وفز بدينه
…
وأمسى شريك مرصداً للدراهم
وحكي عن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني وكان أحد الأئمة الكبار السادة المشهورين بالحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله تعالى على الخلق. توفي رحمه الله تعالى بالبصرة سنة إحدى. وقيل اثنتين وستين ومائة متوارياً من السلطان، ومولده في سنة خمس. وقيل ست. وقيل سبع وتسعين من الهجرة، وله رضي الله تعالى عنه من المناقب والمحاسن الجميلات ما لا يسعه إلا مجلدات، قلت وهو القائل رضي الله عنه لمن رآه بعد موته فسأله عن حاله فيما رآه كثير من الشيوخ العارفين والأئمة الهادين:
نظرت إلى ربي عياناً فقال لي
…
هنياً رضاي عنك يا بن سعيد
لقد كنت قواماً إذا ظلم الدجى
…
بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده
…
وزرني فإني عنك غير بعيد
وفي أول السنة المذكورة توفي أبو الصلت زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي الحافظ. قيل وفي السنة المذكورة توفي أبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه إمام النحو الحارثي مولاهم، اخذ النحوعن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب وخليل بن أحمد، واللغة عن أبي الخطاب الأخفش وغيره، وقال المبرد: لم يقرأ أحد كتاب سيبويه عليه، وإنما قرىء بعده على ابن الحسين سعيد بن مسعدة الأخفش، وكان ممن قرأه على الأخفش صالح بن إسحاق الجرمي. وقال أبو زيد النحوي: كلما حكى سيبويه في كتابه بقوله أخبرني الثقة فأنا أخبرته، يفتخر بذلك، وقال الأخفش: جاءنا الكسائي إلى البصرة، وسألني أن أقرئه كتاب سيبويه، ففعلت، فوجه إلي خمسين ألف ديناراً، قيل وكان الأخفش أسن من سيبويه، وقال ابن سلام: سألت سيبويه عن قوله عز وجل: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس " - يونس: 98 - على أي شيء نصبت إلا؟ قال: الا إذا كانت بمعنى لكن نصبت.