الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبع عشرة ومائة
فيها توفي أبو الجناب سعيد بن يسار المدني مولى ميمونة، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المدني، ولى القضاء لابن الزبير، وكان مؤذناً في الحرم. وفيها توفي فقيه أهل دمشق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وكان عمر بن عبد العزيز يجلسه معه على السرير، وقال أبو مسهر: كان سيد أهل المسجد أو قال أهل دمشق قيل: بم سادهم؟ قال بحسن الخلق. وفيها وقيل في سنة ثمان عشرة توفي الحافظ أبو الخطاب قتادة بن دعامة الدوسي عالم أهل البصرة، قال أقمت عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال في اليوم الثالث: ارتحل أعمى فقد أبرمتني. وقال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعده على ما سمعت شيئاً إلا وعاه قلبي. وفيها توفي قاضي الجزيرة ميمون بن مهران، وكان من العلماء العاملين، روى عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وفيها توفي فقيه المدينة أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، كان نبيلا من كبار التابعين، سمع مولاه وأبا سعيد الخمري. وروى عنه الزهري وأيوب السختياني ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم الضابطين الإثبات وكان قد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصريعلمهم السنن، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد، وأهل الحديث يقولون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب بجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة.
وفيها توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وقيل اسمها أمينة وقيل أميمة وهو الراجح، وسكينة لقب لها، وأمها الرباب ابنة امرئ
القيس بن عدي، وكانت سكينة المذكورة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسهن أخلاقا، تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عفان ثم عبد الله بن حكيم بن حزام ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فأمره سليمان بن عبد الملك طلاقها ففعل، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا.
ولها نوادر وحكايات ظريفة: من ذلك أنها سمعت بعض أشعار عروة بن أذينة، وكان من اعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة، فانكرت عليه أشياء بلطافة وظرافة، لا أطول الكتاب بذكرها وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فرثاه عروة بقوله:
سرى همي وهم المرء يسري
…
وغاب النجم إلا قيد فتر
أراقب في المجرة كل نجم
…
تعرض أو على المجارة تجري
لهم ما أزال له قريناً
…
كأن القلب أبطن حر جمر
على بكر أخي فارقت بكراً
…
وأي العيش يصلح بعد بكر
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا؟ فوصف لها، فقالت: اهو ذاك الأسيود الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت.
ويحكى أن بعض المغنين غنى بهذه الأبيات عند الوليدبن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه، فقال للمغني: من يقول هذا الشعر؟ قال: عروة بن أذينة، فقال الوليد: اي العيش يصلح بعد بكر؟ هذا العيش الذي نحن فيه. والله لقد تحجر واسما.
وكان عروة المذكور كثير القناعة وله في ذلك أشعار سائرة، وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال: الست القائل:
ولقد علمت وما الإسلاف من خلقي
…
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيمييني تطلبه
…
ولوقعدت أتاني لايعنيني
وما أراك فعلت كما قلت، فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق. فقال: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فما بلغت في الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه للدهر، وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز، فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان فى الليل استيقظ من منامه وذكره، وقال: هذا رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي فجبهته
ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا اّمن لسانه، فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه. فقال: لا جرم ليعلم أن الرزق يأتيه ثم دعا بمولى له وأعطاه الذي دينار، وقال له: الحق بهذا عروة بن أذينة فأعطه إياها. قال: فلم أدركه إلا وقد دخل في بيته، فقرعت عليه الباب فخرج فأعطيته المال، فقال أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيت فاكذبت ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق، وهذه الحكاية وإن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها. ولبعض الشعراء وهو محمد بن ادريس الأندلسي في معنى هذين البيتين وأحسن فيه.
مثل الرزق الذي تطلبه
…
مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لاتدركه متبعاً
…
فإذا وليت عنه تبعك
وتوفيت سكينة بالمدينة الشريفة رحمها الله تعالى. قلت: هكذا ذكر موتها بالمدينة في كل تاريخ، وقفت عليه خلاف ما يقوله العامة من أنها مدفونة خارج مكة في القبة التي في الزاهر في طريق العمرة. وفي السنة المذكورة توفي ذو الرمة أبو الحارث غيلان بن عقبة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء، ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل، فجاء الفرزدق فوقف عليه وسمعه، فقال ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟ فقال: ما أحسن ما تقول: قال: فما لي لا أذكر مع الفحول؟ قال قصرتك عن غايتهم بكاؤك في الدمن ووصفك للأباعر والعطن. وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك ومعشوقته مية ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه الشاعر يرثيه:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما
والذي مدحه الأحنف بن قيس بالحلم كما تقدم، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" هذا سيد أهل الوبر " لما قدم عليه في وفد بني تميم، وهو أول من وأد البنات غيرة وانفة، وكان ذو الرمة كثير التشبيب بمية المذكورة في شعره وإياها عني أبو تمام الطائي بقوله في قصيدة له:
ما ربع مية معمورا يطوف به
…
غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: قال أبو ضرار الغنوي، رأيت مية وإذا معها بنون
لها، فقلت: صفها لي، فقال: مستوية الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وسم جمال. قلت: اكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة؟ قال نعم. ومن شعره السائر:
إذا هبت الأرواح من نحو جانب
…
فقد هاج في قلبي تشوق هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما
…
هوى كل نفس حيث حل حبيبها
وكان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء، وهي من بني عامر بن صعصعة، وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي فإذا خرقاء خارجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق أدواته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: اني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أداوتي فأصلحها لي. فقالت: اني والله لا أحسن العمل، وأني لخرقاء، والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها، فشبب بها ذو الرمة وسماها خرقاء.
قلت الخرق في اللغة ضد الرفق، ومنه قول الإمام الشافعي في الطهارة بالماء قد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير لا يكفي، ومن شعره المشار به إلى خرقاء بطريق المبالغة المفرطة قوله:
وما شبنا خرقاء واهبة الكلا
…
سقى بهما ساق ولم يتبلل
باضيع من عينيك للدمع كلما
…
تذكرت ربعا أو توهمت منزل
اوقال أبو الفضل العتبي كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة؟ فقلت: ان فعلت فقد بررتني فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميل، ثم أتينا أبيات شعر واستفتح بيتا ففتح له فخرجت علينا امرأة طويلة حسناء بها قوة، وسلمت وجلست تحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قط؟ قلت غير مرة فقالت أما سمعت قول ذي الرمة:
تمام الحج أن تقف المطايا
…
على خرقاء كاشفة اللثام
أما علمت أني من مناسك الحج؟ مع كلام آخر حذفت ذكره. وإنما قيل لها ذو الرمة لقوله في الوتد أشعث باقي رمة التقليد والرمة بضم الراء الحبل وبكسرها العظم البالي. ومن قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه مخاطبا ناقته:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته
…
فقام بفأس بين وصليك حارز
وهذا المعنى أخذه من قول الشماخ في عرابة الأوسي يخاطب ناقته: