الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً العصور التاريخية
الدول التي أثرت في تاريخ سوريا
…
ثانيًا- العصور التاريخية:
أ- الدول التي أثرت في تاريخ سورية:
سبق أن أشرنا1 إلى أن ظروف الإقليم السوري الجغرافية لم تيسر قيام دولة قوية فيه، وأن الوحدات التي نشأت به لم تتحد إلا بإدارة سلطة خارجية، والواقع أن كل ما وصلنا من معلومات عن طريق البحوث التاريخية والأثرية يوحي بأن سورية ظلت في معظم فترات تاريخها ميدانًا لصراع القوى المجاورة، وإن ظهرت بعض دويلات المدن المستقلة التي تظل مستعصية على الغزاة بعض الوقت؛ إلا أنها كانت تستسلم في النهاية تحت ضغط القوى الفتية التي تغزوها. ومن الممكن القول إجمالًا بأن الإقليم السوري كان في أقدم عصوره التاريخية على علاقات تجارية مع مصر التي كثيرًا ما كانت تنشر نفوذها فيه، وليس من المستبعد أن تكون جالية مصرية قد أقامت في جبيل "ببلوس" بلبنان في زمن الأسرة الرابعة المصرية2 لملاحظة التبادل التجاري بينها وبين مصر، كما أن نصوص الأسرة الخامسة تدل على قيام حملات حربية مصرية إلى تلك الجهات أو على الأقل بعثات تجارية مسلحة، ومن المحتمل أن بعض عناصر الإقليم السوري استطاعت أن تهدد الحدود المصرية؛ بل ويرجح أنها في نهاية الأسرة السادسة تمكنت من بسط نفوذها على الدلتا3، وما لبث أن حدث رد فعل في عهد الأسرة الثانية عشرة؛ إذ يبدو أن ملوكها كان لديهم شيء من النفوذ في جنوب الإقليم السوري كما أنهم استأنفوا النشاط التجاري
1 انظر أعلاه ص265.
2 انظر أعلاه ص108.
3 انظر أعلاه ص123.
مع سواحله الشمالية وكانت لهم علاقات ودية مع بعض الإمارات الأخرى.
والظاهر أن ظروفًا سيئة حلت بالإقليم السوري خلال هذه الفترة؛ إذ إن بعض القبائل السورية جاءت في عهد سنوسرت الثاني1 تطلب السماح لها بالاستقرار في مصر، ويرجع سبب ذلك إما لحدوث قحط في هذه الجهات أو لتعرضها لغزوات بعض الدويلات المجاورة، وخاصة لأن الأموريين أخذوا ينتشرون في أواسط سورية وجنوبها خلال هذه الفترة تقريبًا بعد أن كانوا قد تركزوا فترة في سورية الشمالية أو لتدفق بعض سكان شمال ووسط سورية عليها من جراء ضغط هجرات بعض العناصر الهندو أوروبية الرعوية التي جاءت بالإيرانيين والحوريين وغيرهم ممن انتشروا في أعالي دجلة والفرات، ثم زحفوا إلى سورية الشمالية. والظاهر أن ازدياد هذا الضغط قد أدى إلى زيادة تسلل العناصر الآسيوية إلى مصر وانتشارها وازدياد نفوذها تدريجيًّا حتى استطاعت أن تستولي على السلطة فيها وحكمتها في أعقاب الدولة الوسطى، وقد عرف هؤلاء في التاريخ باسم الهكسوس، وهم الذين تمكن ملوك الأسرة الثامنة عشرة من طردهم وتعقبهم في فلسطين إلى أن قضوا على سلطانهم.
وظل الإقليم السوري خاضعًا للسلطان المصري معظم عهد الأسرة الثامنة عشرة ولو أن مملكة قوية عرفت باسم مملكة ميتاني نشأت في شماله الشرقي "1400-1200 ق. م."؛ إلا أن نفوذها لم يتعد ذلك إلى مناطق النفوذ المصري، بل وكانت علاقاتها طيبة مع مصر وارتبط ملوكها بروابط المصاهرة مع الفرعنة. وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة تقاسم الحيثيون والمصريون النفوذ في سورية؛ إذ أصبحت الأجزاء الشمالية منها في قبضة الحيثيين بينما اقتصر النفوذ المصري على جنوبها، ولم يستمر الحال كذلك إذ انتهت الأسرة التاسعة عشرة في مصر نهاية سيئة
1 انظر أعلاه ص143.
فأعلن حكام الأقاليم استقلالهم واغتصب أحد كبار موظفي البلاط السوريين العرش فترة إلى أن تمكن مؤسس الأسرة العشرين "ست نخت" من اعتلاء العرش بعد طرد الغاصب السوري وعاد الأمن والاستقرار في البلاد1، وفي عهد هذه الأسرة الأخيرة حدثت إغارات مفاجئة من شعوب هندو أوروبية عرفت باسم "شعوب البحر" على آسيا الصغرى؛ فأسقطت دولة الحيثيين وواصلت تقدمها في شمال سورية وزحفت جنوبًا حتى أصبحت تهدد مصر؛ ولكن رعمسيس الثالث -ثاني ملوك هذه الأسرة- تصدى لهم وهزمهم برًا وبحرًا في معركة فاصلة، وبذلك احتفظ بشيء من النفوذ المصري في سورية، كذلك ظلت بعض الولايات الحيثية قائمة فترة بعد ذلك في شمال سورية إلى أن قضى عليها نهائيًا سرجون الثاني ملك أشور في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد عهد رعمسيس الثالث أخذ نفوذ مصر يزول تدريجيًا من سورية إلى أن انتهى تمامًا في أواخر الأسرة العشرين ولم تقم له قائمة بعد ذلك إلا في فترات متباعدة ولمدد قصيرة من عهدي الأسرتين الثانية والعشرين والسادسة والعشرين، ثم أصبحت سورية ومصر نفسها بعد ذلك جزءًا من الإمبراطورية الفارسية.
ولا شك في أن ظروف الإقليم السوري الجغرافية التي أشرنا إليها من قبل2 لا تجعل من مصر الدولة الوحيدة التي كان على علاقات معها؛ بل وربما كانت بعض المناطق الأخرى أيسر اتصالًا به وعلاقاته معها أبعد مدى؛ فمن المعروف أن المنطقة بين سهول سورية الشمالية وحوض نهر دجلة الأعلى كانت كثيفة السكان منذ أقدم العصور، يسهل الانتقال عبرها بين بلاد النهرين والإقليم السوري؛ ولذا كانت بمثابة حلقة الاتصال بينهما؛ مما أدى إلى نشابه بعض حضارتهما في العصر قبل التاريخي وإلى توسع الدول القوية التي تنشأ في أي منهما في أراضي
1 انظر أعلاه ص195-196.
2 انظر أعلاه ص264-265.
الآخر، وهكذا نجد أن "لوجال زاجيري"1 يدعي أنه غزا سورية ووصل "سرجون" الأكدي في فتوحاته إلى لبنان، وما إن تحررت أرض الجزيرة وشمال سورية من الأكديين؛ حتى خضع الجزء الشمالي من سورية للحوريين، وبعدئذٍ تمكن "نارام سن" من السير في فتوحاته شمالًا؛ حتى أخضع حلب ولم يقتصر نشاط العلاقات بين القطرين على سياسة التوسع؛ فقد قامت بينهما علاقات تجارية من أقدم العصور، وخير مثال لذلك ما قام به "جوديا" حاكم لجش من إحضار خشب الأرز من لبنان.
وعندما ازدادت قوة الساميين الغربيين "الأموريين" الذين كانوا يقطنون في الإقليم السوري، زحفوا على طول نهر الفرات، وأصبحوا حكامًا لكثير من بقاع بلاد النهرين، ولكن لم يلبث "حامورابي" أن أخضعهم لسلطان بابل ولو أنه هو نفسه كان أصلًا من الأموريين. وما إن انتقلت السيادة في بلاد النهرين إلى الأشوريين حتى وجدوا أن الآراميين أصبحوا يتركزون على الجانب الأيمن للفرات؛ ولذا عمد ملوكهم الأقوياء إلى فرض سلطانهم على هؤلاء الآراميين؛ بل وتوسعوا غربًا حتى وصلوا إلى البحر المتوسط، ولم تكد بضع الدويلات السورية القائمة أن تفيق من ضربات الأشوريين المتلاحقة بعد سقوط آشور حتى تعرضت من جديد لغزوات الكلدانيين.
ولم تكن آسيا الصغرى في علاقاتها بالإقليم السوري أقل شأنًا من غيرها؛ بل ويمكن أن نعد الجزء الجنوبي منها -وهو الواقع خلف جبال طوروس- امتدادًا للإقليم السوري؛ ولذلك نجد تشابها في حضارتهما منذ العصر الحجري الحديث، وقد وجدت دولة الحيثيين "سكان آسيا الصغرى" فرصة للتوسع في الإقليم السوري؛ حيث بدءوا بالقضاء على مملكة يامخاد الأمورية ودمروا
1 انظر فيما بعد ص354.