الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام:
أشرنا إلى أن علامات انعدام الوحدة في صناعة الفخار الملون أخذت تظهر في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، ثم اختفى هذا الفخار فجأة من سوسة وحل محله فخار أحمر يماثل أحد الأنواع التي ظهرت في بلاد النهرين، وربما يرجع ذلك إلى حدوث نهضة حضارية في سوسة كانت متأثرة بحضارة تلك البلاد.
ولم تكن منطقة سوسة هي المنطقة الوحيدة التي تأثرت بمؤثرات غريبة؛ بل أثبتت الأبحاث الأثرية أن كل السواحل الشمالية للخليج العربي قد تأثرت بها، كما أن المناطق الجنوبية من إيران كافحت طوال العصور التالية دخول المؤثرات الثقافية التي كانت تأتي من بلاد النهرين، أما المناطق التي كانت في غرب الهضبة فلم تعانِ ضغطًا أجنبيًّا وظل الفخار الملون مستعملًا وبنفس الأساليب القديمة؛ ولكن أضيفت إلى أشكاله وزخارفه القديمة أشكال وعناصر زخرفية جديدة، كما يتبين ذلك في آثار جيان، ثم أخذ الفخار الملون في الاختفاء تدريجيًّا من غرب إيران وحل محله الفخار الأسود أو الرمادي المسودّ؛ مما يوحي بتسلل عناصر أجنبية إلى المنطقة واندماجهم مع السكان الأصليين فيها، وتدل شواهد الأحوال على أن العناصر الدخيلة جاءت من التركستان الروسية أو من سهول بعيدة وسط آسيا، واستمرت في تقدمها غربًا حتى وصلت إلى كبادوشيا "Cappadocia" بآسيا الصغرى.
ولم ينجُ وسط إيران من المؤثرات الخارجية؛ فقد وجدت في سيالك آثار تدل على حدوث حريق وتدمير لبعض المساكن التي تنتمي إلى سيالك3 وإقامة مساكن أخرى مكانها، اختفى الفخار الملون منها وحل محله فخار أحمر أو رمادي يشبه في أشكاله فخار سوسة، كما أن الختم الأسطواني أصبح يستعمل بدلًا من الختم المخروطي الذي كان معروفًا من قبل، ويدلنا هذا على إدخال الكتابة على الألواح الطينية، وبالفعل ظهرت الكتابة قبل العيلامية في ألواح وآثار وجدت مع هذه الأختام. ويبدو أن العناصر التي جلبت معها هذه الكتابة "قبل العيلامية" إلى سوسة دخلت أيضًا إلى منطقة سيالك؛ ولكن في غزوة وحشية، ومن المرجح أنها كانت أقوى وأغنى من سكان المنطقة الأصليين؛ لأن وجود مظاهر حضارية "من تلك التي أحدثوها في سوسة" بمنطقة سيالك مع ما صاحبها من آثار تدمير وحريق يشير إلى أن هذه الحضارة قد فرضت بالقوة خلافًا لما حدث في المنطقة الشمالية؛ حيث تسللت إلى هذه الأخيرة العناصر المسالمة التي أشرنا إلى احتمال مجيئها من التركستان أو من السهول البعيدة في وسط آسيا، وجلبت معها الفخار الأسود والرمادي المسود واندمجت مع السكان الأصليين1.
وتتميز منازل هذا العصر بأنها بنيت بعناية ولو أن أبوابها ظلت حقيرة، وكانت تزود عند مدخلها بموقد مقسم إلى قسمين، أحدهما للطعام والآخر للخبز وإلى جانبه إناء للماء. وقد عثر فيها على أثاث متواضع خشن الصنع، كانت مفرداته والمؤن المختلفة التي معه توضع داخل فجوات مخصصة لها أو تحاط بأسوار أو حواجز حجرية لحمايتها، وكان الموتى يدفنون تحت أرضية الحجرات وتوضع معهم مهمات جنزية وتقدمات مختلفة مثل أدوات الزينة والمرايا النحاسية وأوانٍ من المرمر وغيرها، وقد زين الموتى أنفسهم
1 يبدو ذلك واضحًا في آثار جيان كما أشرنا أعلاه.
بحلي كثيرة منها دلايات من الفضة المطعمة بالأصداف والذهب واللايس لازولي1، ودلايات أخرى من الفضة المطروقة، وأقراط مزينة بقطع من الذهب واللايس لازولي بالتبادل، وأساور من فضة، وعقود طويلة خرزها من أحجار بيضاء ومن الذهب والفضة واللايس لازولي والعقيق، ويوحي تعدد المواد ورقي الصناعة بأن هذه الحلي صنعت في سوسة أو في بلاد العراق؛ حيث عثر على ما يشبهها في المقابر الملكية في أور.
وتنحصر أهمية تلك الحضارة التي وجدت في سوسة وتوغلت إلى وسط هضبة إيران في استخدام الكتابة التي يدل مظهرها على أنها كانت متقدمة عن الكتابة التصويرية البحتة، ومع أنها لم تقرأ بعد؛ إلا أن ما عثر عليه من نصوص كتبت بها يدل على أن هذه النصوص عبارة عن أرقام وعمليات حسابية خاصة بشئون تجارية.
ومنطقة سيالك هي الموقع الوحيد الذي وجدت فيه وثائق مكتوبة قبل عصر الأخمينيين2 داخل الهضبة؛ وحيث إن هذه المنطقة قد تأثرت بحضارة عيلام3؛ فلا بد أن الكتابة والثقافة العيلامية قد انتشرنا إليها عن طريق توسع سياسي عيلامي يحتمل أنه كان لخدمة أغراض تجارية، ومما يرجح هذا الرأي أن الكتابة والثقافة العيلاميتين استمرتا فيها طوال المدة التي بقيت فيها مراكز تجارية عيلامية في وسط الهضبة، ثم اختفت بعد زوالها.
ومع أن التأثيرات الحضارية التي جاءت إلى إيران لم تصل إليها من منطقة واحدة أو في وقت واحد أو بدرجة واحدة؛ فإنها استطاعت أن تمتص هذه المؤثرات، وفي نفس الوقت كانت ثقافتها تنتشر إلى ما جاورها؛ فمثلًا استعملت بلاد النهرين نوعًا من الفخار المزخرف الذي كان شائعا في سيالك وحسار أي: إنه انتقل إليها من إيران.
1 كان التطعيم بتثبيت هذه المواد في الفضة بواسطة القار "Chirshman، Iran، 48".
2 منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد سادت إيران ثلاثة عناصر هندو أوروبية؛ فقد حكمها على التوالي الإيرانيون والميديون ثم الأخمينيون الذين كونوا إمبراطورية واسعة، تنازعت مع اليونان على السيادة على العالم القديم إلى أن قضى عليها الإسكندر الأكبر.
3 انظر أعلاه ص398 وما بعدها.