الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد اضطر آخر ملوك هذه الأسرة -رعمسيس الحادي عشر- إلى الفرار من مقر مملكته في الشمال والالتجاء إلى كبير الكهنة في طيبة، كما سبق أن ذكرنا.
6-
عصر الاضمحلال الثالث:
الأسرة الحادية والعشرون ونفوذ الكهنة:
سبقت الإشارة إلى أن رعمسيس الحادي عشر -آخر ملوك الأسرة العشرين- اضطر إلى الفرار إلى طيبة؛ لظهور أسرة قوية في الدلتا تمكن أحد أفرادها ويدعى "نسوبانبدد""سمندس" من اغتصاب العرش، ومن المحتمل أن زوجة هذا الأخير كانت من أصل ملكي مما يسر له الاستيلاء على الملك؛ بينما رحب حريحور كبير كهنة آمون في طيبة برعمسيس الحادي عشر وأبقاه إلى جانبه، وبذلك أصبح مطلق النفوذ في مصر العليا؛ لأنه كان -حتى قبل أن يلجأ إليه رعمسيس- يجمع السلطات الروحية والزمنية في يده؛ حيث إنه كان يجمع بين وظائف رئيس الكهنة وقائد عام الجيش وحاكم النوبة، أي أنه كان يتحكم في شئون الدولة الروحية والزمنية؛ فلما أصبح الملك الشرعي إلى جانبه لم ينازع سلطانه أحد في الجزء الجنوبي من مصر، ومنذ ذلك الوقت أصبح رؤساء كهنة آمون يهيمون على السلطات الزمنية والروحية في جنوب مصر، وخاصة لأنهم توارثوا في نفس الوقت قيادة الجيش وحكم النوبة، ورغم هذا فإن حالة البلاد الداخلية كانت سيئة على العموم.
ولم يعمر "حريحور" طويلًا كما أن ولده "بي عنخ" لم يعمر طويلًا هو الآخر حيث عاصرهما "سمندس"، وحينما توفي هذا الأخير تبعه في الحكم "بسوسنس الأول" الذي لا نعلم عن حكمه شيئًا يذكر، أما في طيبة
فإن "باي نجم" قد خلف والده "بي عنخ" في رئاسة الكهنوت وتزوج من ابنة "بسوسنس الأول". وقد سارت البلاد من سيئ إلى أسوأ وتقلصت مملكة الشمال كما بدأ نفوذ الكهنة في الاضمحلال أيضًا، وكانت مصر قد فقدت مستعمراتها في آسيا ولم يعد لها أي نفوذ فيها منذ زمن، ولعل أصدق ما يصور لنا حالة التدهور التي وصلت إليها البلاد وزوال كل أثر للنفوذ المصري في الأقطار الآسيوية، قصة المبعوث "وينامون" الذي أرسله "حريحور" إلى لبنان لإحضار خشب الأرز اللازم لصنع سفينة آمون المقدسة؛ إذ يبين لنا هذا المبعوث كيف أنه ذهب إلى الملك في الشمال كي يساعده بالمال اللازم ولم يحظَ منه إلا بقدر يسير، كما يبين لما مدى ما تعرض له من صعوبات وكيف نهبت أمواله وأمتعته، وأنه لم يقابل من حكام سورية ولبنان إلا بالازدراء والاحتقار مع أنه كان يذكر لهم بأنه مبعوث من قِبَل فرعون مصر ورئيس كهنتها بعد أن كان مجرد ذكر اسم الفرعون فيما مضى كفيل بأن يبث الرعب في نفوس ملوك آسيا، ويجعل أمراء سورية ولبنان يسارعون بتقديم كل فروض الطاعة والولاء.
ومما زاد حالة البلاد المصرية سوءًا وخاصة في الجنوب أن رئيس الكهنة كان يحكم الناس باستلهام وحي آمون الذي كان يستشيره في كل أمر وتسلط السحر والشعوذة على أفهام الناس حتى توهم السذج والبسطاء أن الإرادة الإلهية التي يصدرها آمون كافية لتصريف الأمور كلها، ولم يقم رؤساء الكهنة أو حكام طيبة بأي عمل جليل يذكر سوى مساهمتهم في نقل جثث الملوك السابقين من مخبأ إلى آخر خشية السرقة بعد أن عجزوا تمامًا عن حفظ الأمن، ومع هذا فقد تمتعوا بسلطة روحية كبيرة مكنتهم من التدخل في كثير
من الشئون المدنية بل وأتاحت لهم سلطة زمنية كبيرة؛ إذ كانوا يستطيعون أحيانًا -عن طريق وحي آمون- أن يحدوا من سلطة الملك نفسه.
وحينما توفي الملك بسوسنس الأول أصبح "باي نجم" الحاكم الوحيد في مصر كلها، وتولى العرش باسم "باي نجم الأول"؛ لأنه كان صاحب النفوذ المطلق في جنوب مصر، كما أنه اكتسب حق اعتلاء العرش عن طريق زواجه بابنة الملك الراحل، أي: جمع بين شرعية ولايته على العرش وسلطة صاحب النفوذ الأقوى في البلاد، وقد أنجب ولدين هما:"ماحسارتي"، "من خبر رع"، وقد عين أولهما رئيسًا للكهنة؛ ولكنه لم يعمر طويلًا؛ إذ مات في حياه والده وتبعه شقيقه في رئاسة الكهنة حيث ظل يشغل هذه الوظيفة إلى أن توفي والده فتبعه على العرش.
وتدل شواهد الأحوال على أن ثورة نشبت في مصر العليا أثناء تولي "ماحسارتي" لرئاسة الكهنوت نفى على أثرها عددًا من الثائرين إلى الواحات؛ ولكن -حينما وصل "من خبر رع" إلى طيبة وتقلد منصب رئيس الكهنة على أثر وفاة أخيه- استصدر وحي آمون بالعفو عن الثائرين؛ مما يوحي بأن مركزه كان حرجًا وأن الحالة كانت سيئة رغم ما تذكره النصوص عن حفاوة استقباله والترحيب به؛ فأغلب الظن أن ذلك لم يكن إلا ستارًا اختفت وراءه مظاهر مناوأة السلطة الحاكمة التي أخذت في الظهور في مختلف المناسبات، ومع كل فقد ظل "من خبر رع" متمتعًا بالسلطان سواء كرئيس للكهنة أو كحاكم مطلق بعد اعتلائه للعرش فترة تقرب من نصف قرن، ثم ظهر بعدئذ حاكم يدعى "امن – ام – اوبت" لا نعرف صلته بالبيت المالك، وربما كان مغتصبًا اعتلى العرش في الشمال ثم بسط سلطانه بعد ذلك على الجنوب، ومن المحتمل أن نوعًا من الصراع نشب بينه وبين "من خبر رع" انتهى بانتصار