المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأسرة الثامنة عشرة: - معالم تاريخ الشرق الأدني القديم

[محمد أبو المحاسن عصفور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌محتويات الكتاب

- ‌قائمة بالأشكال والرسوم:

- ‌الاختصارات الواردة بالكتاب:

- ‌الفصل الأول: منهج التاريخ:

- ‌الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها

- ‌مدخل

- ‌أولاً في الدور الحجري القديم الأسفل

- ‌مدخل

- ‌ الحضارة الأبفيلية:

- ‌ الحضارة الأشولية:

- ‌ثانيًا: في الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌الحضارة الموستيرية:

- ‌بدء الاختلاف الحضاري:

- ‌التطور الحضاري والشرق الأدنى:

- ‌الفصل الثالث: مصر

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية

- ‌الدور الحجرى القديم

- ‌الدور الحجرى القديم الأسفل

- ‌ الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌ الدور الحجري القديم الأعلى:

- ‌ الدور الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجرى الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارات الوجه القبلي:

- ‌حضارات الوجه البحري:

- ‌عصر ما قبل الاسرات

- ‌مدخل

- ‌التوقيت المتتابع أو التأريخ التتابعي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه القبلي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه البحري:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌عهد الدولة القديمة

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الأولى:

- ‌الأسرة الثانية:

- ‌الأسرة الثالثة:

- ‌الأسرة الرابعة:

- ‌الأسرة الخامسة:

- ‌الأسرة السادسة:

- ‌عصر الاضمحلال الأول

- ‌مدخل

- ‌الأسرة السابعة:

- ‌الأسرة الثامنة:

- ‌ملوك إهناسيا "الأسرتان التاسعة والعاشرة

- ‌ الدولة الوسطى:

- ‌منتوحتب الأول:

- ‌منتوحتب الثاني:

- ‌منتوحب الثالث

- ‌الأسرة الثانية عشر

- ‌أمنمحات الأول:

- ‌سنوسرت الأول:

- ‌أمنمحات الثاني:

- ‌سنوسرت الثاني:

- ‌سنوسرت الثالث:

- ‌أمنمحات الثالث:

- ‌أمنمحات الرابع:

- ‌عصر الاضمحلال الثاني

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌الأسرة الرابعة عشرة:

- ‌ عهد الدولة الحديثة:

- ‌إجلاء الأجانب وتكوين الإمبراطورية:

- ‌الأسرة الثامنة عشرة:

- ‌الأسرة التاسعة عشرة:

- ‌الأسرة العشرون:

- ‌ عصر الاضمحلال الثالث:

- ‌الأسرة الحادية والعشرون ونفوذ الكهنة:

- ‌مصر تحت حكم الأجانب:

- ‌الصراع الأشوري النبتاوي على مصر:

- ‌عصر النهضة المؤقتة

- ‌الأسرة السادسة والعشرون

- ‌عهد الفوضي الأخير

- ‌الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون

- ‌الفصل الرابع: بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌العصر قبل التاريخي

- ‌مدخل

- ‌مصادر تاريخ بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌ المصادر غير العربية:

- ‌ أهم الجهود الأثرية:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القسم الجنوبي:

- ‌بلاد اليمن:

- ‌ثانياً القسم الشرقي

- ‌مجان

- ‌ دلمون أو تلمون "البحرين

- ‌الفصل الخامس: الاقليم السوري

- ‌مدخل

- ‌أولاً العصور قبل التاريخية

- ‌العصر الحجرى القديم

- ‌العصر الحجري القديم الأسفل

- ‌العصر الحجري القديم الأوسط:

- ‌العصر الحجري القديم الأعلى:

- ‌ العصر الحجري المتوسط:

- ‌ العصر الحجري الحديث:

- ‌ دور بداية استخدام المعادن "عصر النحاس والحجر

- ‌ثانياً العصور التاريخية

- ‌الدول التي أثرت في تاريخ سوريا

- ‌الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية

- ‌مدخل

- ‌أولًا- العناصر السامية:

- ‌ثانيًا- العناصر غير السامية:

- ‌الفصل السادس: آسيا الصغرى

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌الدور الحجري القديم:

- ‌الدور الحجري الحديث:

- ‌دور بداية استخدام المعادن:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌الدولة القديمة:

- ‌عصر الإمبراطورية:

- ‌الممالك الحيثية الجديدة:

- ‌سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون

- ‌الحيثيون في فلسطين:

- ‌الفصل السابع: العراق

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌ العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارة جرمو:

- ‌حضارة حسونة:

- ‌حضارة سامراء:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌حضارة حلف:

- ‌حضارة العبيد:

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌حضارة جمدة نصر:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌السومريون

- ‌مدخل

- ‌عصر فجرات الأسرات

- ‌الساميون

- ‌مدخل

- ‌سرجون الأول:

- ‌خلفاء سرجون:

- ‌ عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية

- ‌ تنافس الأموريين والعيلاميين "سيادة مدينتي أيسين ولارسا

- ‌ مملكة أشنونا:

- ‌ البابليون:

- ‌الدولة البابلية الأولى:

- ‌مملكة بابل الثانية "دولة أرض البحر

- ‌مملكة بابل الثالثة "الدولة الكاشية

- ‌الأشوريون

- ‌مدخل

- ‌ العهد الأشوري القديم:

- ‌ العهد الأشوري الوسيط:

- ‌ العهد الأشوري الحديث:

- ‌ العهد البابلي الأخير "المملكة الكلدانية

- ‌الفصل الثامن: إيران

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجري الحديث:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌ عيلام:

- ‌‌‌ الإيرانيون:الميديون والفرس:

- ‌ الإيرانيون:

- ‌الميديون:

- ‌الأخمينيون "الفرس

- ‌ملحق تاريخي

- ‌المختار من المراجع العامة:

- ‌فهرس أبجدي:

الفصل: ‌الأسرة الثامنة عشرة:

‌الأسرة الثامنة عشرة:

أحمس الأول:

لا ندري كيف انتهت حياة "كاموزا" وهل لقي مصرعه أثناء كفاحه ضد الهكسوس كما حدث لسلفه من قبل أم أنه مات ميتة طبيعية قبل أن يتمكن من إخراج الهكسوس من مصر؟ ومهما يكن من أمر فقد برز اسم أحمس الأول فجأة في النصوص المصرية على أنه هو الذي طرد الهكسوس نهائيًّا من مصر.

وأحمس وإن كان من نسل ملوك الأسرة السابعة عشرة؛ إلا أنه يعتبر مؤسسًا للأسرة الثامنة عشرة، وقد استأنف الجهاد بعد سلفه "كاموزا" ومضى في حربه ضد الهكسوس إلى أن سقطت عاصمتهم "أواريس" في يده، ثم طاردهم إلى فلسطين؛ حيث تحصنوا في "شاروهن" ولكن حاصرهم فيها ثلاثة أعوام إلى أن سقطت هي الأخرى في يده، وبهذا تم انتصاره عليهم وقضى على قواتهم نهائيًّا.

ومن المصادر المهمة عن الأسرة الثامنة عشرة في شطرها الأول بصفة عامة وعن عهد أحمس بصفة خاصة نصوص مقبرتين لضابطين معمرين اشتركا مع أحمس في حروبه ضد الهكسوس واستمرا في الخدمة العسكرية في عهد خلفائه، وكان كل منهما يدعى أحمس كذلك؛ ولكن أحدهما كان يعرف باسم "أحمس بن نخب" أما الآخر فكان اسمه "أحمس بن أبانا"1، وهذه النصوص تصف لنا بعض تفصيلات المعارك التي خاضها الملك أحمس في كفاحه ضد الهكسوس كما تشير إلى حروبه في النوبة، وقد وجدت آثار أخرى

1 Urk.IV، pp. I ff & 36 ff.

ص: 158

من عهده تثبت أنه أخضع شمال النوبة وشيد هناك إحدى القلاع وبدأ وضع سياسة لإدارة هذه البلاد بتعيين حاكم عسكري عليها وإسناد شئونها المالية والإدارية إلى أمير نخن "إقليم الكاب".

ويبدو من نصوص خلفها أحمس أن ثلاث سيدات كان لهن أكبر الأثر في حياته بصفة خاصة وفي تاريخ مصر في تلك الآونة بصفة عامة. وأولى هذه السيدات هي "تتي شري" جدة أحمس التي ظل وفيًّا لذكراها وبنى لها قبرًا رمزيًّا في أبيدوس وضع به وضع به لوحة تذكارية، وثانيتهن هي والدته "إعح حتب" التي لعبت دورًا خطيرا في الكفاح ضد الهكسوس يشير إليه ولدها أحمس في لوحة أقامها بالكرنك بقوله: "امدحوا سيدة البلاد وسيدة جزر البحر المتوسط، فاسمها مبجل في جميع البلاد الأجنبية، وهي التي تضع الخطط للناس، زوجة ملك وأخت ملك وأم ملك وهي العظيمة القديرة، وهي التي تهتم بشئون مصر

جمعت جيشها وهيأت الحماية للناس وأعادت الهاربين وجمعت شتات المهاجرين، وهدأت ما حل بالصعيد من خوف، وأخضعت من كان فيه من العصاة ز.. إلخ"1. ونظرًا لما يبدو من تأثر بعض حلي هذه الملكة وخنجرها ببعض المظاهر الفنية التي سادت جزر بحر إيجة؛ فإن نفرا من المؤرخين يميل إلى الاعتقاد بأن هذه الملكة تنتمي أصلًا إلى جزيرة كريت؛ ولكن لا يوجد ما يؤيد ذلك؛ وإنما يحتمل أن تلك المؤثرات كانت ترجع إلى وجود علاقات بين مصر وكريت في ذلك الوقت؛ بل ولا يستبعد أنهما كانا متحالفين، وبمقتضى هذا التحالف قدم أهل كريت بعض المعاونة للمصريين في كفاحهم ضد الهكسوس وأن "إعح حتب" لعبت دورًا هامًّا في هذا التحالف.

أما السيدة الثالثة فهي "أحمس نفرتاري" التي كانت زوجة لكل من أخويها "كاموزا" و"أحمس" على التوالي وقد عبدت منذ أواخر الأسرة

1 Breasted، AR II، - 29; Urk. IV 14-24.

ص: 159

الحادية والعشرين؛ حيث أقيم لها معبد في طيبة واعتبرت هي وولدها "أمنحتب الأول" الإلهين الحارسين للجبانة.

أمنحتب الأول:

تولى العرش وهو صغير؛ ولكنه كان خبيرًا بالملك ومقدامًا كأسلافه، فنصوص الضابطين المشار إليهما فيما سبق "أحمس بن أبانا وأحمس بن نخب1" تشير إلى أنه ذهب في حملة إلى النوبة وتوغل فيها إلى سمنة "جنوب الشلال الثاني" على الأقل حيث ترك "ثوري" الحاكم المصري على النوبة في عهده نصين أحدهما في سمنة والثاني في أورونارتي "جزيرة الملك"، وهما مؤرخان بالسنة السابعة والسنة الثامنة من عهد أمنحتب على التوالي، ومن المرجح أن السبب في قيام الملك بهذه الحملة يرجع إلى حدوث ثورة في النوبة. ويبدو أنه تعقب زعيم الثورة إلى الصحراء أو أن الثائرين كانوا من القبائل التي تعيش على حافتها؛ لأن "أحمس بن أبانا" يشير في نصوص مقبرته إلى أنه قاد الملك في عودته إلى مصر من منطقة "البئر العلوي" في يومين فقط؛ فالإشارة إلى "البئر العلوي" تجعل من المحتمل وصول هذا الملك إلى منطقة صحراوية حينما قام بحملته هذه، ويذكر أحد كهنة آمون أن نفوذ الملك وصل إلى منطقة "كاروي" أي: إلى قرب "نبتة" عند الشلال الرابع؛ ولكن لا يوجد لدينا من الأدلة ما يؤيد وصول نفوذه إلى مثل هذا المكان البعيد، ولا تقتصر جهوده الحربية على النوبة وحدها فقد أشارت نصوص "أحمس بن نخب" إلى قيامه بغزوة ليبية؛ ولكنه لم يذكر سبب هذه الحملة أو المكان التي وصلت إليه.

والظاهر أن الأمن كان مستتبًّا في داخلية البلاد كما أن الحالة هدأت فيها؛ فلم يعد الملك في حاجة إلى مزاولة النشاط العسكري وتفرغ للأعمال

1 انظر هامش ص158.

ص: 160

السليمة؛ حيث قام بتشييد بعض المباني وعم الرخاء في عهده، ويعد معبده الجنزي من أشهر مبانيه وقد شيده على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر، كذلك ترك هيكلًا من المرمر عثر على أحجاره ملقاة في أنقاض مباني الكرنك فجمعت وأعيد تركيبها، وهو يعد من أجمل ما عثر عليه من هياكل الدولة الحديثة.

وقد مات دون أن يترك من يخلفه على العرش فخلفه "تحتمس الأول" الذي يرجح أنه كان من الأمراء، وإنه اكتسب حق ولاية العرش عن طريق زواجه بابنة "أمنحتب الأول" وكان اسمها "أحمس".

تحتمس الأول:

بدأ حكمه بإصدار مرسوم ينبئ عن اعتلائه للعرش، وقد أرسل هذا المرسوم إلى "ثوري" حاكم النوبة ليعلنه على الملأ، ونكاد نلمس في هذا المرسوم ما يشير إلى حدوث بعض النزاع على العرش قبل أن تستقر الأمور لتحتمس الأول الذي ما كاد ينتهي من ذلك حتى قام في السنة الثانية من حكمه بحملة إلى شمال السودان مد حدوده فيها إلى "كورجوس""Kurugus"1 "جنوب أبو أحمد" أو إلى "مروي" أي أنه توغل إلى أبعد من الأماكن التي وصل إليها أسلافه، ولا بد أنه كان يهدف إلى ضمان بقاء النوبة تحت سيطرة مصر وخضوعها تمامًا لسيادتها وأراد أن يتصل اتصالًا مباشرًا بالمناطق الغنية التي كانت تمد مصر بكثير من الحاصلات، وأن يضمن بقاء الطريق التجاري إليها في يده سواء كان ذلك عن طريق النيل أو الطريق البري، ولهذا استولى على تلك الأماكن التي إلى جنوب الشلال الثالث وأمر بتطهير مجرى النيل عند الشلال الأول.

وقد اهتم تحتمس الأول كذلك بالجهات الواقعة في شمال مصر، وتوغل

1 JEA 36، PP. 36-8.

ص: 161

في فتوحاته كثيرًا؛ حيث يرجح أنه وصل إلى منحنى الفرات الذي عرفه المصريون بأنه النهر ذو المياه المعكوسة "أي: الذي يجري في عكس الاتجاه الذي يسير فيه نهر النيل"، وفي هذه البقعة التي وصل إليها انصرف إلى الصيد بعض الوقت وترك هناك لوحة لبيان حدود مملكته، ومن ذلك يتضح أنه كان يحكم إمبراطورية تمتد من منطقة الشلال الرابع إلى شمال سورية عند منحنى نهر الفرات، وقد درج بعض فراعنة الدولة الحديثة فيما بعد على الذهاب لصيد الفيلة في منطقة منحنى الفرات؛ مما يدل على أن هذه المنطقة كانت حافلة بالأحراش في تلك العصور.

ويحدثنا المهندس إنيني الذي عاش ابتداء من عهد أمنحتب الأول بأن سيده تحتمس الأول كلفه ببناء مقبرته وأن هذه المقبرة نحتت في الصخر في بقعة لا يعلمها غيره1، والظاهر أن تحتمس الأول كان أول فرعون يقرر عدم وجود بناء هرمي أو غير هرمي يعلو سطح الأرض فوق مقبرته حتى يخفي مكانها؛ فلا تمتد إليها أيدي اللصوص، وهذه البقعة التي نحتت فيها مقبرة تحتمس الأول أصبحت جبانة لملوك الدولة الحديثة، وهي المعروفة حاليًا باسم "وادي الملوك"، وتقع على الضفة الغربية للنيل أمام مدينة الأقصر، ومن المباني التي شيدها تحتمس كذلك معبده الجنزي الذي بناه على حافة الوادي بالقرب من مقبرته، كما شيد معبدًا كبيرًا في منطقة الكرنك أقام أمامه مسلتين كبيرتين وبنى بهوا عظيمًا به أعمدة مربعة على واجهاتها تماثيل أوزيرية2.

وقد حكم هذا الملك نحو ثلاثين عامًا كانت البلاد فيها قوية يمتد نفوذها

1 Breasted، A R II، 90-98.

2 أي: تماثيل بهيئة الإله أوزير الذي اعتقد الفراعنة أنه إله الموتى الحاكم في العالم الآخر، وكانوا يمثلونه بهيئة إنسان ملتف بالأكفان ويمسك صولجانًا في إحدى يديه وسوطًا في يده الأخرى، وقد يقبض على عصا الراعي بالإضافة إلى ذلك.

ص: 162

في الجنوب والشمال؛ ولكن أحوال القصر الداخلية كان يسودها الغموض؛ مما دعا إلى الظن بأن أفراد البيت المالك قد انقسموا بعضهم على البعض الآخر، وربما كان سبب ذلك أن الملكة "أحمس" التي تزوجها تحتمس الأول -واكتسب بذلك حق اعتلاء العرش- لم تنجب ولدًا؛ بل أنجبت ابنتين كبراهما حتشبسوت أي: إنها لم تنجب وليًّا للعهد، في حين أن زوجات أخريات قد أنجبن له أبناء من الذكور كان أكبرهم "تحتمس الثاني" الذي يرجح أنه كان ضعيفًا إزاء أخته حتشبسوت ابنة الزوجة الشرعية لتحتمس الأول؛ ولذا بدأت سلسلة من المؤامرات فانقسم موظفو القصر وكبار موظفي الدولة ورجالاتها إلى طوائف تؤيد كل منها أحد الطرفين، ثم انتقل هذا النزاع بين حتشبسوت وبين تحتمس الثالث؛ مما أدى إلى اختلاف المؤرخين في شأنهم وخرجوا بعدة آراء ونظريات عن صلة القرابة بين هؤلاء الملوك وترتيب حكمهم وخلقوا من ذلك مشكلة تعرضوا لها بالبحث بعض الوقت؛ نظرًا لأن اسم حتشبسوت أزيل من بعض الآثار وكتب بدلًا منه اسم تحتمس الأول أو الثاني أو الثالث، ومهما كان الأمر؛ فقد أصبح من المتفق عليه أن تحتمس الأول كان والد كل من حتشبسوت وهي من الزوجة الشرعية وتحتمس الثاني وهو من زوجة غير شرعية، وأن تحتمس الثالث كان بالمثل ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة غير شرعية أيضًا1، وأنه تزوج من أميرة من البيت المالك كانت تدعى حتشبسوت "مريت رع" هي الأخرى، وقد بدأ حكمه تحت وصاية عمته "حتشبسوت الكبرى" ثم انفرد بالحكم بعد ذلك.

تحتمس الثاني:

تزوج من أخته حتشبسوت واعتلى العرش؛ ولكن سرعان ما دَبَّ الخلاف

1 والدة تحتمس الثاني كانت ملكة أقل أهمية من الملكة الشرعية، وكانت تدعى موت نفرت، أما والدة تحتمس الثالث؛ فكانت محظية لتحتمس الثاني وتدعى إيزيس، انظر

Sir A. Gardiner، "Egypt of the Pharaoahs"، pp، 180-181.

ص: 163

بينهما واضطربت الأمور، وربما كان لذلك أثره الملموس في مستعمرات مصر الجنوبية؛ فأراد الأمراء المحليون أن ينفضوا عنهم سلطان مصر، وقامت الثورة في السودان؛ إلا أن تحتمس الثاني أرسل حملة إلى هناك قامت بإخضاع الثورة وأحضرت بعض الرهائن ومن بينهم أحد الزعماء، وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن جيوش تحتمس الثاني وصلت إلى جبل البرقل عند الشلال الرابع ولكن من العسير تأكيد ذلك، كذلك يحتمل أن ثورة أخرى قامت أثناء حكمه في شرق مصر فأدبها الجيش المصري.

ورغم قصر المدة التي حكمها؛ فإننا نجد اسمه منقوشًا على كثير من الآثار؛ مما يدل على أنه كان شديد الاهتمام بالمباني، وقد نعمت البلاد بشيء من الاستقرار في جزء من عهده على الأقل.

حتشبسوت:

بموت تحتمس الثاني بدأت فترة صراع بين حتشبسوت وأنصارها من جهة وبين تحتمس الثالث وأنصاره من جهة أخرى؛ إذ ترك المهندس "إنيني"1 المشار إليه نقوشًا يفهم منها أن تحتمس الثالث تولى الملك بعد والده تحتمس الثاني؛ ولكن حتشبسوت هي التي تدير شئون البلاد وصاحبة الأمر "لأنها البذرة الممتازة التي خرجت من الإله"، ويبدو أن تحتمس الثالث الذي يرجح أنه كان ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة أخرى غير حتشبسوت، كان صبيًّا يشغل وظيفة كهنوتية صغيرة في معبد الكرنك حينما توفي والده، واشتد النزاع بين أنصاره وبين أنصار حتشبسوت؛ فاستعان أنصاره بكبار كهنة آمون، الذين أعلنوا أن الإله آمون "المعبود الرسمي للإمبراطورية" قد اختاره ليجلس

1 انظر ص162.

ص: 164

على العرش، وتم اختياره فعلًا ولكنه كان طوال حياة عمته حتشبسوت "وزوجة أبيه" مجرد شريك لا نفوذ له في الحكم؛ بينما وضعت حتشبسوت كل مقاليد الأمور في يدها ثم أصبحت هي كل شيء، ولم يرد له ذكر إلى أن ماتت وانفرد هو بالحكم.

والظاهر أن الحرب كانت عنيفة بين حتشبسوت وزوجها تحتمس الثاني ثم بينها وبين ابن زوجها تحتمس الثالث؛ حتى إنها لجأت إلى اختراع القصص التي تشير إلى حقها المقدس في الملك، مع أن حكم الملكات في مصر والشرق القديم لم يكن مستساغًا بصفة عامة، ووصلت في ذلك إلى أبعد مدى فنقشت مناظر تفصيلية على جدران معبد الدير البحري الذي شيدته في البر الغربي لطيبة "الأقصر" تمثل فيها قصة مولدها التي ادعت فيها بأنها ليست ابنه تحتمس الأول بل ابنة الإله آمون نفسه الذي تشكل في صورة أبيها وأنجبها من صلبه، كما بينت في بعض هذه المناظر أن أباها تحتمس الأول بايعها بالملك في حياته، وأن كبار الكهنة وكبار رجال الدولة قد وافقوه على ذلك، أي أن كلًّا من تحتمس الثاني وتحتمس الثالث كانا طبقًا لتلك النقوش مغتصبين لحقها المشروع، أو على الأقل لم يكن حكمهما شرعيًّا كحكمها.

ومن المرجح أن هذه الفكرة كانت بإيحاء من أنصارها؛ حيث يبدو أنها تمكنت من أن تحيط نفسها بحاشية من الرجال الأقوياء الذين تمكنت بفضلهم من الاستمرار صاحبة السلطة في البلاد، ومن أهم هؤلاء المهندس "سنموت" الذي أشرف على تربية ابنتها "نفرورع" التي كانت تعدها لأن تخلفها على العرش؛ ولكنها ماتت وهي صغيرة.

ومهما كان الأمر فإن عهدها كان عهد رخاء وطمأنينة، ولا جدال في أنها كانت قديرة في الحكم استطاعت أن توجه نشاط الدولة إلى التجارة والأعمال الإنشائية؛ إذ أرسلت حملة إلى بلاد بونت جلبت البخور وأشجار المر

ص: 165

وبعض حاصلات المناطق الاستوائية وكميات كبيرة من الذهب من أجل معابد الإله آمون، وقد صورت مناظر هذه البعثة على جدران معبدها في الدير البحري المشار إليه، كذلك شيدت كثيرًا من المباني أهمها معبد من الجرانيت في الكرنك وصالة كبيرة أمامها حسلتان عظيمتان في نفس المنطقة، كما أنها أصلحت كثيرًا من المباني المتهدمة.

ويبدو أنها كانت من قوة العزيمة والنفوذ طوال مدة حكمها التي بلغت نحو ثمانية عشر عامًا؛ بحيث أصبح تحتمس الثالث في عهدها منزويًا ويكاد يكون منسيًّا، ولذا ينسب إليه أنه بعد وفاتها صب جام غضبه على ذكراها فمحا اسمها من معظم آثارها، وحطم الكثير من تلك الآثار ومن آثار أنصارها ومعاونيها.

تحتمس الثالث:

يبدو أن العهد السلمي الطويل الذي نعمت به مصر في ظل حكم حتشبسوت قد أطمع البلاد الأجنبية الخاضعة لمصر في أن تتخلص من سيادتها؛ لأن عدم رؤية تلك البلاد للجيوش المصرية خلال هذه الفترة جعلها تتوهم أن مصر ضعيفة تعجز عن المحافظة على مستعمراتها؛ ولذا أخذت تميل إلى الثورة بغية التحرر ولكن -لحسن حظ مصر- شاءت الأقدار أن يكون على عرشها تحتمس الثالث الذي لم يتوانَ عن توطيد سلطانها، ولم يدخر في سبيل ذلك جهدًا على الإطلاق؛ فما أن انفرد بالحكم حتى خرج في حملة إلى فلسطين؛ حيث كانت جيوش بعض الإمارات بزعامة أمير "قادش" قد تجمعت عند مدينة "مجدو"، وبعد أن سار حوالي 11 يومًا وصل إلى بلدة "يحم Yehem"، وهناك كانت أمامه ثلاثة طرق ليصل إلى مجدو حيث تجمع هؤلاء الأعداء؛ وأحد هذه الطرق قصير ضيق محصور بين سلسلة من التلال ولا يتسع لأكثر من عربة حربية واحدة، أما الطريقان الآخران فطويلان يدوران حول سفح جبال الكرمل، عندئذٍ

ص: 166

جمع تحتمس الثالث مجلسًا حربيًّا مع قواده الذين نصحوه بعدم تعريض الجيش للخطر باتخاذ الطريق القصير؛ ولكنه أصر على أن يفاجئ عدوه بالمسير في ذلك الطريق؛ حيث لا يتوقع العدو إقدامه على مثل هذه المخاطرة، وفي فجر اليوم التالي كان على رأس جيشه مسرعًا باختراق هذا الممر، ثم انتظر إلى أن تم تجمع الجيش، وهناك عسكر بجيشه عند مدخل وادي قينا، وفي فجر اليوم التالي هجم المصريون على مجدو؛ حيث انتصروا على المدافعين عنها؛ ولكنهم شغلوا بنهب معسكر الأعداء فأتاحوا لهؤلاء فرصة الهرب إلى داخل المدينة والتحصن وراء أسوارها، وظل المصريون يحاصرون المدينة سبعة أشهر إلى أن استسلمت لهم؛ ولكن زعيم قادش تمكن من الفرار، أما بقية الزعماء فقد قدموا ولاءهم لتحتمس الثالث الذي تقدم بعد ذلك شمالا واستولى على كل ما صادفه من بلاد دون عناء إلا ثلاث مدن يبدو أنها قاومته بعض المقاومة، ومن الغنائم التي وقعت في أيدي المصريين يمكن أن نتصور مقدار الثراء الفاحش الذي كان يسود تلك البلاد؛ حيث نجد أن من بين هذه الغنائم عربات حربية مصفحة بالذهب والفضة، وأواني ذهبية، وخشب ثمين مصفح بالفضة.

وكانت هذه الحملة بداية طيبة؛ إذ إن نجاحه الساحق فيها جعله يوالي نشاطه العسكري في تلك البلاد؛ فكان يخرج إليها كل عام تقريبًا حيث كان يذهب إليها في أوائل الصيف ويعود منها عند إقبال الشتاء، وقد بلغ عدد هذه الحملات التي خرج فيها إلى آسيا ست عشرة حملة كان ينظم خلالها شئون البلاد، ويشرف على تنفيذ ما كان يأمر به من معابد ومبانٍ.

ومن خلال حملاته الخمسة الأولى كان يستولي على بعض البقاع الجديدة وأعد بعض الموانئ السورية لكي تكون قواعد لأسطوله ولضمان عدم الانقضاض على قواته من الخلف عند توغلها في الأراضي السورية نحو الفرات؛ إذ إنه كان يهدف إلى الوصول إلى ذلك النهر؛ ولكن عدم استيلائه على قادش كان يحول

ص: 167

دون ذلك، وما إن وافت السنة الحادية والثلاثون من حكمه حتى قام بحملته السادسة، وفيها تعاون الأسطول مع جيشه البري؛ إذ قام الأسطول بتموين الجيش ونقل المدد إليه، وبذلك تمكن من الاستيلاء على قادش وأصبح من اليسير أن يصل إلى الفرات بعد ذلك، وفي حملته الثامنة تمكن من الاستيلاء على مدينة قمرقميش وأقام لوحة إلى جوار لوحة جده تحتمس الأول.

ومن المرجح أن هذه الحملة الأخيرة كانت ذات أثر كبير في الممالك القوية المجاورة؛ حيث بدأت تخطب وده، فقدمت مملكة ميتاني ولاءها وهداياها إلى العاهل المصري، كما قدمت مملكة الحيثيين الهدايا الثمينة إليه طلبًا لصداقته، وكذلك فعلت مملكتا أشور وبابل؛ فأصبحت مصر الدولة الأولى وصاحبة النفوذ الأعلى في غرب آسيا، وكان أسطولها القوي يهيمن على ثغور فلسطين وسورية ويجعلها تحت رحمته.

وكانت آخر حملات تحتمس الثالث في آسيا في السنة الثانية والأربعين من حكمه1؛ لأن مدينة قادش أعلنت العصيان من جديد، وفي هذه المرة كان يعاونها ملك ميتاني وأمير تونيب؛ إلا أن تحتمس الثالث استطاع أن يحطمها للمرة الثانية؛ وبذلك قضى على كل معارضة للنفوذ المصري في تلك الجهات، حيث إننا نعلم أنه عاش بعد ذلك نحو اثني عشر عامًا لم يحدث خلالها أن اضطر للذهاب إلى هناك.

ويبدو أن الهدوء كان يسود أملاك مصر في جنوب الوادي؛ حيث تشير حوليات تحتمس الثالث بالكرنك إلى ورود جزيتها بانتظام ابتداء من السنة الخامسة والعشرين من حكمه على الأقل إلى السنة التاسعة والثلاثين

1 عن حملات تحتمس الثالث جميعها، انظر:

Urk. IV، pp. 647 ff، Breasted، A R II، 408 ff.

ص: 168

فلم يكن هناك ما يدعو لتوجيه حملات إليها خلال هذه الفترة؛ غير أن لوحة عثر عليها في جبل البرقل تدل على أن مصر قامت ببعض النشاط العسكري في السودان في السنة السابعة والأربعين من حكمه، ومن المرجح أنه لم يشترك شخصيًّا في هذا النشاط بل كلف بعض قواده بالقيام به، ولكنه قام بنفسه على رأس حملة إلى السودان في السنة الخمسين من حكمه.

ولا شك في أن تحتمس الثالث كان قائدًا ممتازًا لشعبه لم تقتصر مميزاته على كفاءته الحربية فحسب؛ بل كانت له نواح عظمته الأخرى التي مكنته من أن يحكم إمبراطورية واسعة "خريطة رقم3" ويدير شئونها وبشرف على كل ما يتعلق بتصريف الأمور فيها ويعرف ما يحدث في مختلف أنحائها، وقد اتبع من الوسائل ما يمكن أن نعده آخر صيحة في الدبلوماسية الحديثة؛ إذ إنه كان يحضر أبناء أمراء البلاد التي أخضعها لكي ينشئهم في مصر مع أبناء كبار رجال الدولة حتى يشبوا على حب مصر وصداقتها1، كما أنه حاول الإصلاح في كافة النواحي وحاول الانتفاع بكل ما يمر به، ومن ذلك مثلًا أنه أدخل إلى مصر كل ما وجده صالحًا من نباتات وحيوانات غريبة، وربما كان يدخل كذلك إلى البلاد الأخرى ما كان يلائمها من نباتات وحيوانات مصرية، ومن المحتمل أنه كان يشجع بعض الأجانب على القدوم إلى مصر ولم يمانع في بقائهم بها؛ لأن مظاهر الفن والحضارة التي كانت سائدة في سورية وبلاد النهرين أخذت تظهر في مصر بصورة واضحة.

وكان تحتمس الثالث حاكمًا منصفًا يكافئ الممتازين من رجاله ويقدر ذوي المواهب ويحسن اختيار الأكفاء، فقد كافأ أحد ضباطه ويدعى

1 Urk. IV، p. 690: Breasted، A R. III 467; T. Sâve Soederbergh، Aegypten & Nubien، "Lund 1941"، pp. 185، 228- & 231.

ص: 169

خريطة رقم "3" الإمبراطورية المصرية في عهد تحتمس الثالث

ص: 170

"أمن إم حب"؛ لأنه أنقذ حياته حينما كان يصطاد في سهل الفرات وهاجمة أحد الفيلة، وكان ذلك أثناء حملته الثامنة. كما أنه أنصف سلفه العظيم سنوسرت الثالث1 بتخليد ذكراه وخاصة في بلاد السودان؛ حيث اعتبره إلهًا حاميًا للنوبة، وكان حين يختار رجاله الأكفاء لشغل الوظائف المهمة يوجههم ويزودهم بنصائحه وتعليماته كما يتمثل ذلك عندما أسند منصب الوزارة إلى "رخ مي رع"، وقد ظهر في عهد هذا الملك عدد من كبار الشخصيات ذوي الكفاءات الممتازة، ومن المناظر التي نقشت على جدران مقابرهم يمكن أن نتبين مظاهر الرقي في الحياة الاجتماعية التي سادت عصره ومقدار الثراء الذي أخذ يتدفق على مصر فيه، ومما لا شك فيه أن قبرص وكريت وغيرهما من أقطار ومنطقة حوض البحر المتوسط الشرقي التي لم تكن خاضعة له كانت تخطب ود مصر وتحرص على علاقات الصداقة معها.

ومع أن تحتمس الثالث بذل جهودًا ضخمة في حروبه؛ فإنه لم يهمل في المشروعات العمرانية وشيد كثيرًا من المباني في مصر والنوبة، من أهمها المعبد الكبير الذي بناه في الكرنك وكانت بإحدى حجراته قائمة الكرنك التي أشير إليها في المصادر التاريخية2، كذلك كان من أهم مبانيه في تلك البقعة صالة كبيرة للاحتفالات وأحد الصروح الكبيرة يعرف في الكرنك بالصرح السابع، وقد أقام عددًا كبيرًا من المسلات في مختلف أنحاء القطر وخاصة في منطقة الكرنك، وبعض هذه المسلات نقل إلى جهات مختلفة من العالم مثل: القسطنطينية وروما ولندن ونيويورك.

أمنحتب الثاني:

نشأ هذا الملك في عهد وصلت فيه مصر غاية مجدها العسكري، وقد عني

1 خامس ملوك الأسرة الثانية عشرة، انظر أعلاه ص143-144.

2 انظر أعلاه ص90.

ص: 171

والده بتدريبه على الرماية منذ الحداثة، كما عني بتثقيفه؛ فأنشأ مدرسة في القصر ليعلمه فيها مع أبناء كبار رجال الدولة وأمراء آسيا والنوبة، وبذلك حقق والده هدفًا هامًّا إذ ارتبط هؤلاء جميعًا برباط الصداقة والود، وقد عثر على لوحة بالقرب من "أبو الهول" تصف فروسية أمنحتب الثاني وحبه للرياضة ومهارته فيهما.

ولما تولى العرش لم يكد يسمع برغبة بعض الولايات السورية الشمالية في الانفصال عن مصر حتى تقدم نحوها على رأس جيشه؛ حيث هزم الثائرين، وفي عودته إلى طيبة أحضر سبعة من أمراء المدن السورية الثائرة، قتل ستة منهم في طيبة وأرسل السابع إلى نباتا مقر الحكم المصري في السودان ليشنق هناك؛ حتى يكون عبرة لمن تحدثه نفسه من أمراء السودان بالثورة على مصر، وبهذا احتفظ بهيبة مصر فتابعت البلاد الأجنبية إرسال هداياها وجزيتها. وفي السنة التاسعة من حكمه علم بفتنة صغيرة في فلسطين؛ فانتهز الفرصة وقام بجولة تفتيشية بعد أن أخمد الثورة، وقد دون أخبار هاتين الحملتين على لوحتين إحداهما بالكرنك والثانية عثر عليها في ميت رهينة قرب سقارة1، كما وصف في هاتين اللوحتين بطولته وقوته البدنية.

ويغلب على الظن أنه استطاع أن يمد النفوذ المصري في جنوب الوادي إلى أبعد من الحدود التي وصل إليها أسلافه؛ حيث عثر على آثار له في جهات كثيرة هناك، وبعد أن حكم ستة وعشرين عامًا مات وخلفه تحتمس الرابع.

تحتمس الرابع:

يحتمل أنه لم يكن ولي العهد الشرعي كما يمكن أن يستنتج ذلك من اللوحة

1 ASA. XLII "1943"، pp، 1-13.

ص: 172

التي أقامها بين قدمي "أبو الهول"؛ إذ يذكر فيها أن الإله حور آختي "الذي يمثله أبو الهول" جاءه في المنام وبشره بأنه سيصبح ملكًا وطلب منه إذا تحقق ذلك أن يزيل الرمال التي تجمعت من حوله، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا يدل على أن تحتمس الرابع دبر مؤامرة مكنته من إبعاد أخيه ولي العهد عن العرش، وأن هذه المؤامرة قد أغضبت عليه كهنة آمون وحدثت بينه وبينهم جفوة جعلته يتجه إلى كهنة الشمس ويحاول إحياء عبادة "رع" حور آختي كما شجع عبادة قرص الشمس "آتون"، وهو أول من أمر برسم هذا الإله وهو يعطى الحياة، وهذا الرمز الجديد هو الذي اتخذه فيما بعد حفيده إخناتون.

ومع كل فقد أثبت تحتمس الرابع أنه كان جديرًا بالحكم؛ حيث إنه أقام في بداية عهده بإخماد الثورة التي نشبت في بعض المدن السورية، كما أنه ذهب بنفسه إلى السودان؛ حيث قضى على ثورة نشبت هناك.

وفي عهده كانت ممالك ميتاني وبابل وآشور وخيتا "الحيثيون" تتنافس فيما بينها على السيادة، ولما شعرت مملكة ميتاني بخطر الحيثيين ازدادت تقربًا لمصر، وقد شجع تحتمس الرابع هذا التقارب ودعمه بالزواج من ابنة ملك ميتاني، ويرى بعض المؤرخين أن ازدياد الصلات بين مصر وآسيا واختلاط دم الفراعنة بالدماء الآسيوية كان من الأسباب التي أدت إلى إدخال الليونة أو النعومة وحب الملذات في دماء الملوك، هذا ولم يحكم تحتمس الرابع أكثر من تسع سنوات كان فيها نشطًا للغاية سواء من الناحية العسكرية أو من ناحية تنظيم شئون البلاد الداخلية وترك آثارًا في كثير من الجهات.

أمنحتب الثالث:

الظاهر أن أمنحتب الثالث لم يجد ما يعكر صفو مملكته؛ إذ إنها عاشت طوال عهده تقريبًا وهي تنعم بالسلم والرخاء، ولا نكاد نجد ما يدل على خروجه في حملة

ص: 173

حربية إلا في السنة الخامسة من عهده؛ حيث ذهب إلى النوبة وتوغل فيها كثيرًا حتى ليظن أنه وصل إلى العطيرة1؛ ولكن مما لا شك فيه أن ملكه قد امتد إلى "كاروى" عند الشلال الرابع تقريبًا، ولم يجد بعد ذلك ما يضطره إلى الخروج في أية حملة حربية في عهده الطويل، ومع أنه أغرم بالصيد وقتًا ما إلا أنه لم يكن محبًّا للحرب.

ولما كان الأمن قد استتبَّ في أنحاء الدولة؛ فإن الجزية والهدايا تدفقت إلى مصر بانتظام، وأصبحت خزائن فرعون مليئة بالذهب والفضة، وكان الملك الشاب محبًّا لحياة الترف والبذخ فانغمس فيها، وأدت هذه الحياة به طبعًا إلى الانصراف عن نشاطه العسكري والرياضي أيضًا، كذلك أقبل رجال الحاشية على نفس الاتجاهات التي أقبل عليها مليكهم، فنعموا بحياة كلها ترف وبذخ مما أضعف شأن مصر وأثر في سمعتها في الخارج، وكان لذلك أثره السيئ فيما بعد.

ومع أن أمنحتب الثالث كان ميالًا إلى الاستمتاع في حياته وتغالى في ذلك إلى أبعد حد؛ إلا أنه كان على درجة كبيرة من الذكاء والمهارة السياسية؛ فحينما تولى الملك أراد أن يبرر جلوسه على العرش -لأن أمه كانت آسيوية وزوجته "تي" كانت من عامة الشعب، وهما أمران لم يعتدهما المصري في فراعنته- عمد إلى بناء معبد الأقصر وصور على جدرانه قصة تحاكي القصة التي سبق لحتشبسوت وأعوانها أن يخترعونها للتدليل على شرعية اعتلائها للعرش؛ حيث إنه بالمثل ادعى أن الإله آمون اتصل بوالدته وأنجبه، فأصبح بذلك من سلالة آمون "الإله الرسمي للدولة" نفسه أي: إنه لم يكتسب حقًّا شرعيًّا في الملك فحسب بل ومقدسًا أيضا. هذا وقد أقبل على مصاهرة ملوك الممالك المجاورة وعمت صلاته بهم

1 ما زال أمر وصول أمنحتب الثالث إلى العطيرة مشكوك فيه، قارن

T، Save Soderbergh، op. cit.، pp. 160 ff & 'Breasted، A R II، 846.

ص: 174

إلا أن ميله الغريزي نحو النساء لم يكن ليقف عند حد، وتزوج من أميرات من ميتاني وبابل وأشور فضلًا عما كان يرسله إليه حكام بعض المدن السورية من فتيات جميلات مع الجزية. ولا شك في أن علاقات الود التي أوجدها مع الملوك لم تكن خالصة؛ لأن هؤلاء كانوا يأملون دائمًا في الحصول على بعض الخيرات التي كانت تتدفق إلى مصر وخاصة من الذهب؛ فمثلًا كان ملك ميتاني كثيرًا ما أرسل إلى صهره "أمنحتب الثالث" طالبًا المزيد من هذا المعدن، مشيرًا في خطاباته إلى كثرته في مصر إلى درجة أنه كان "كالتراب في وفرته".

ومن المعروف أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة كانوا ينسبون أنفسهم للإله آمون، وقد اتبعوا سنة تقديم الهدايا لهذا المعبود عقب كل نصر يحرزونه، وشيدوا له معابد هائلة أوقفوا عليها أوقافًا ضخمة؛ فزاد ذلك من ثراء كهنته وعظم نفوذهم إلى درجة أن بعض الملوك كانوا يدينون لهم باكتسابهم حق اعتلاء العرش، وبالطبع وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للإسراف في مكافأتهم حتى شعر فريق من الملوك بأن نفوذ كهنة آمون قد أصبح من الخطورة؛ بحيث يهدد سلطان الملك، وقد رأى أمنحتب الثالث بثاقب فكره أن هذا الأمر أصبح يتطلب علاجًا فعالًا وخاصة لأن سلفه تحتمس الرابع قد بدأ يشجع بعض العبادات القديمة، وربما كان لتغلغل النفوذ الآسيوي في البلاط أثره في محاولة التخلص من سيطرة كهنة آمون والإقلال من شأن معبودهم، كما أن اتساع رقعة الإمبراطورية كان مما يدعو إلى التفكير في إيجاد معبود يقبله الجميع ويدينون له عن رضًا وارتياح، وهذا لا يتسنى في حالة الإله آمون؛ إذ كانت عبادته يكتنفها الغموض والإبهام، وعلى ذلك اتجهت الأنظار إلى تشجيع عبادة إله الشمس؛ لأن نعمه وأفضاله كانت ظاهرة واضحة لجميع الشعوب التي شملتها الإمبراطورية. وبالفعل بدأت هذه المحاولات منذ عهد تحتمس الرابع على الأقل؛ إذ إنه أعاد الاهتمام بشأن الإله رع حور آختي، وحاول أن يوحد بين عبادة آمون وعبادة قرص

ص: 175

الشمس؛ حيث يشير في أحد النصوص إلى قرص الشمس على أنه هو الإله آمون، وحينما تولى أمنحتب الثالث كان كهنة الإله آمون ما زالوا يتمتعون بالنفوذ الأعلى؛ ولذا أخذ يشجع الديانات الأخرى وخاصة عبادة الشمس التي كانت ذات مركز عظيم لا من عهد تحتمس الرابع فحسب بل من عهد الدولة القديمة أيضًا. ولم يكتف أمنحتب الثالث بمجرد تشجيع المعبودات القديمة؛ بل أخذ يعلي من شأنها وحاول إيجاد بعض العبادات الجديدة رغبة منه في الإقلال من شأن آمون؛ فأطلق على زورق كان يتنزه فيه اسم "إشراق آتون" وعين أكبر أبنائه، "وكان يدعى تحتمس" كبيرًا لكهنة الإله بتاح في منف، ومع كل فقد ظل نفوذ آمون وكهنته على شدته؛ غير أن مقاومة هذا النفوذ لم تكن لتجد تشجيعًا أو قبولًا لدى عامة المصريين، وعلى ذلك نجد أن أمنحتب الثالث حينما استحدث عبادة شخصه الحي وعبادة زوجته "تي" لم يجرؤ على البدء بهما علانية في مصر؛ بل بدأهما بعيدًا في السودان، وخاصة لأن عبادة الملك الحي لم يسبق لها وجود في مصر.

وكان أمنحتب الثالث ميالًا إلى تشييد العمائر التذكارية والمعابد والمباني الفخمة، ومن أهمها تلك المعابد التي شيدها في طيبة سواء في الشاطئ الشرقي أو الغربي للنيل والقصر الذي بناه لزوجته "تي" على الضفة الغربية للنيل قرب معبده الجنازي، وقد ألحق بهذا القصر بحيرة كبيرة كان يخرج للتنزه فيها مع زوجته في قاربه الذي سماه "إشراق آتون" وهو الذي أشرنا إليه فيما سبق.

وفي أواخر عهده أشرك معه في الحكم ولده الثاني "أمنحتب الرابع" الذي عرف فيما بعد باسم "إخناتون" لأن أكبر أبنائه الذي أشرنا إلى تعيينه كبيرًا لكهنة بتاح توفي دون أن يعتلي العرش، وفي تلك الأثناء كانت مملكة الحيثيين تقوى وتشتد وأخذت تستولي على بعض الإمارات التي كانت خاضعة

ص: 176

لمصر أو حليفة لها، وكان الأمر يتطلب وجود ملك قوي من طراز تحتمس الثالث أو أمنحتب الثاني لكي يحافظ على الإمبراطورية؛ لكن أمنحتب الثالث كان قد أصبح شيخًا محطمًا ولم يلبث أن مات وترك ولده الضعيف يحكم البلاد.

أمنحتب الرابع:

تدل شواهد الأحوال على أن أمنحتب الرابع حينما اشترك مع والده في الحكم كان متأثرًا بفكرة إحياء عبادة الشمس في صورة "آتون"؛ ولكنه كان يفهم هذا المعبود لا على أنه "قرص الشمس" بل على أنه القوة الكامنة فيه، وقد أقام لهذه الديانة معبدًا في طيبة التي كانت تعد مقر عبادة الإله آمون، ولا بد أن كهنة آمون لم يشعروا بالارتياح لهذا الاتجاه ونظروا إليه كخطر يتهدد نفوذهم؛ فأخذوا يثيرون المتاعب في وجه الملك حتى لا يتمادى فيه؛ ولكن الملك كان عنيدًا فاشتط في مسلكه وبدأت الحرب العوان بين الفريقين.

والواقع أن أمنحتب الرابع لم يكن في أول أمره متعصبًا كل التعصب للإله "آتون" بل كان يحترم كافة المعبودات؛ ولكنه كان يميل بصفة خاصة إلى تلك التي تتصل بعبادة الشمس مثل "رع" و"آتوم" و"حور آختي" أي أنه لم يكن مخترعًا لهذه الديانة؛ حيث إنها عرفت من قبل ولكنه رمز إلى معبودها بصورة جديدة جعلته في هيئة قرص الشمس الذي تتدلى منه أشعة تنتهي بأيدٍ تهب رمز الحياة، وفي ذلك إشارة إلى أن القوة الكامنة في الشمس تعطي الحياة للكائنات جميعها.

وعبادة الشمس هذه كانت تختلف عن عبادة آمون من حيث إنها عبادة عامة يمكن أن يشترك فيها العالم؛ لأنها تتعلق بظاهرة طبيعية يدركها البشر جميعًا، وقد جعل إخناتون من نفسه كبيرًا لكهنتها ولم يكن يدخل النساء في خدمتها، ولما بلغ النزاع أشده بين كهنة آمون وبين الملك اشتط هذا الأخير في محاربته

ص: 177

لدين "آمون" متجهًا بكليته نحو "آتون" حتى إنه لم يكن يعترف بآلهة غيره، ولكي يبتعد عن طيبة -مقر الإله آمون- أنشأ عاصمة جديدة توخى أن تكون في بقعة لم يعرف لها إله محلي من قبل، وهذه العاصمة هي تل العمارنة الحالية وقد أطلق عليها اسم "أخيتاتون" كما غير اسمه إلى "إخناتون".

وبلغ من حقده على آمون أن أمر عماله بإزالة اسمه من كل ما يقع تحت أيديهم من الآثار، ولا شك في أن هؤلاء قد بذلوا قصارى جهدهم في تتبع اسم هذا الإله حتى إنهم محوه من أسماء الملوك إن كان يدخل في تركيبها.

وكانت الأناشيد التي وضعت لمدح الإله آتون تشبه بعض مزامير التوراة؛ مما جعل بعض المؤرخين يقارنها بها، ويرى البعض أن إخناتون كان أول مبشر بالتوحيد؛ ولذا اعتبروه عبقريًّا وأنه يمثل أعظم فلاسفة العالم القديم؛ إلا أن هذا غير صحيح؛ إذ إن "إخناتون" كان في أول عهده يحترم كل العبادات، ومع أنه لم يعترف بغير آتون فيما بعد؛ فإنه لم يحارب غير دين آمون وظل يسمح بمباشرة العبادات القديمة الأخرى، ولا شك في أنه أساء التصرف؛ لأنه لم ينل من السياسة التي اتبعها سوى سخط الكهنة والعسكريين حتى إن أهل عصره لقبوه بعد وفاته بلقب "مجرم آتون".

ومهما اختلفت الآراء بشأن هذه الثورة الدينية وفي الحكم على شخصية "إخناتون" فإن أحوال مصر الداخلية وظروفها الخارجية لم تكن لتتفق وقيام مثل هذه الثورة، ولم يكن "إخناتون" بالشخصية المناسبة لتولي عرش البلاد في تلك الآونة على الإطلاق؛ إذ إنه في أغلب الظن كان شخصية ضعيفة مهزوزة وألعوبة في يد أهل بيته، نشأ محرومًا من الصفات التي جعلت من أسلافه ملوكًا ممتازين فلم يؤت من الكفاءة الحربية أو المهارة السياسية ما يمكنه من مجابهة الأحداث والظروف التي تعرضت لها البلاد؛ ولذا حاول أن يغطي ضعفه بالتفرغ

ص: 178

كلية للشئون الدينية ولم يلتفت لأي أمر من أمور الدولة وأهمل الأعباء الملقاة على عاتقه كملك لمصر؛ فأخذت الأحوال في المستعمرات المصرية في جنوب غربي آسيا تزداد سوءًا وخاصة لأن الحيثيين كانوا قد كونوا مملكة قوية عملت على ضم الولايات السورية إلى ممتلكاتها ونجحت في إخضاعها لسلطانها الواحدة تلو الأخرى، كما أن مدنًا كثيرة في فينيقيا وفلسطين أخذت تستقل عن مصر ونشبت الحروب والمنازعات فيما بينها ولم يبق على الولاء لمصر إلا بعض الولايات الضعيفة التي أخذت تستنجد بفرعون وأرسلت له عديدًا من الرسائل ليعمل على حمايتها؛ ولكنه أصم أذنيه ولم يحرك ساكنًا.

ولا شك في أن طائفة من المخلصين وذوي المطامع وجدوا أن الظروف السائدة كانت تدعو إلى التخلص من هذا الملك سواء كان ذلك بغية إصلاح الأمور أو تحقيقًا لأهداف ومطامع خاصة؛ فقد دبر هؤلاء مؤامرات لاغتياله؛ ولكن حراسه كانوا دائمي اليقظة والحذر، ومن المرجح أن إخناتون قد أغضب الكثيرين من المحيطين به؛ بل ويحتمل أن زوجته نفرتيتي قد غضبت منه هي الأخرى حتى إنه في نهاية عهده عزف عن الاتصال بالناس وانتحى بعيدًا عنهم في قصره؛ بينما أقامت نفرتيتي في طرف آخر من المدينة، ولا يعرف حتى الآن كيف انتهت حياته؛ ولكن مما لا شك فيه أنه لم يترك وريثًا للعرش؛ إذ كانت كل ذريته من البنات. ويرى بعض المؤرخين أن الملكة "تي" والدة إخناتون قد ذهبت إليه في أخيتاتون وحاولت إقناعه بمهادنة كهنة آمون، ولكن من المرجح أن جهودها في هذا السبيل لم تكن موفقة كل التوفيق، وقبل وفاته بقليل أشرك معه في الحكم زوج كبرى بناته المدعو "سمنخ كارع".

ولئن كان عهد إخناتون يمثل فترة من فترات الضعف والفوضى؛ إلا أنه كان من جهة أخرى يمثل عهدًا من العهود التي تميزت بظهور نوع من الفن لم يعرف في مصر من قبل، وهو الذي اصطلح على تسميته باسم فن مطابقة الحقيقة

ص: 179

"Realism" حيث أصبح الفنانون يمثلون الأشخاص على حقيقتهم؛ فمثلوا إخناتون بعيوبه الجسمانية ولم يكن هذا متبعًا من قبل وخاصة في تماثيل ونقوش الملوك الذين كانوا يمثلون في صورة أقرب إلى الكمال الجسماني؛ فمهما بلغوا من الكبر كانوا يمثلون في شرخ الشباب، كما أقبل الفنانون على تزيين القصور والمباني بالرسوم والنقوش التي تمثل مناظر الطبيعة في أجمل صورها، ولكن ما أن انتهى عهد العمارنة حتى رجع الفنانون إلى صرامة التقاليد القديمة، وانتهى عهد هذا الفن الجديد.

سمنخ كارع:

ما زلنا نجهل أحداث عهده، ولكن من المتفق عليه أنه رجع إلى طيبة1، وأنه لم يعمر طويلًا وتبعه في الحكم "توت عنخ آمون".

توت عنخ آمون:

كان اسمه "توت عنخ آمون" وهو الصهر الثاني لإخناتون؛ حيث إنه كان متزوجًا من ابنته الثالثة، ويبدو أنه عاش مع نفرتيتي أثناء انفصالها عن زوجها إخناتون، وقد أسرع هو وزوجته بالعودة إلى طيبة بعد وفاة إخناتون وغير اسمه إلى "توت عنخ آمون" واعتلى العرش وهو حديث السن؛ ولكنه لم يعمر طويلًا، إذ إنه مات بعد أن حكم نحو ثمانية أعوام وكان حينئذٍ في الثامنة عشرة من عمره تقريبًا، ومع هذا فقد حظي بشهرة عظيمة وخلد اسمه في التاريخ؛ إذ كان لاكتشاف مقبرته2 دوي هائل في جميع أنحاء العالم نظرًا لما حوته من أثاث وكنوز تعد أثمن عاديات المتحف المصري بالقاهرة.

1 JEA XIV; pp. 3-9.

2 اكتشفت هذه المقبرة في نوفمبر سنة 1922، انظر:

H، Carter، "The Tomb of Tut – Ankh - Amen""London 1923-33".

ص: 180

والظاهر أن ديانة آتون كانت في طريقها إلى الزوال منذ أواخر عهد إخناتون، وأصبحت أضعف من أن تقف على قدميها بعد وفاته؛ لأن أحدًا من خلفائه لم يحاول على الإطلاق أن يهتم بشأنها بل عادوا إلى ديانة آمون الذي أصبح نفوذه أقوى مما كان1، ولا شك في أن ضعف إخناتون وخلفائه كان من أهم العوامل التي أدت إلى ضعف سلطان البيت المالك، وإلى القضاء على ديانة آتون؛ فاستطاع بعض رجال ذلك العهد الوصول إلى مركز الصدارة، ومن أهم هؤلاء "آي" الذي تولى العرش بعد موت توت عنخ آمون وخليفته "حور محب" الذي يعد مؤسسًا للأسرة التاسعة عشرة.

وكان "آي" في بداية الأمر من رجال الحرب ثم تحول إلى الكهنوت قبل أن يعتلي العرش، أما حور محب؛ فكان قائدًا ومشرفًا على بيت الملك وشئون القصر.

ويبدو أن البلاد أخذت تحاول النهوض من جديد منذ أن عاد البيت المالك إلى طيبة، وبدأ توت عنخ آمون بإصلاح بعض المعابد وإنشاء معابد أخرى في مصر والنوبة وإعادة اسم آمون على الآثار التي محي منها، ومن المرجح أن قائد جيشه حور محب استطاع أن يقضي على بعض الثورات التي نشبت في فلسطين، كما يحتمل أنه أعاد ضم بعض الولايات التي كانت مصر قد فقدتها.

1 لا شك في أن الأساليب التي اتبعت في عبادة "آتون" كانت لا تصادف هوًى في نفس المصري القديم، الذي تعود أن يرى صورة مجسمة للإله في هيئة إنسانية أو حيوانية، كذلك كانت معابد آتون مكشوفة وتقام الطقوس فيها أمام الملأ ولا يكتنفها الغموض ولا الإبهام الذي يحيط عبادة الآلهة الأخرى التي كانت معابدها في أجزاء منها على الأقل بعيدة عن رؤية العامة؛ مما يبعث في نفوسهم الرهبة وينسبون إليها الأسرار العميقة؛ ولذا كان من المتوقع أن تختفي ديانة آتون ويعود المصريون إلى الديانة التي ألفوها وهي ديانة آمون.

ص: 181

وقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن أميرة مصرية أرسلت إلى ملك الحيثيين رسالة تذكر له فيها أنها ترملت ولم يترك زوجها وريثًا للعرش، وأبدت رغبتها في أن يرسل إليها أحد أبنائه؛ لكي تتزوجه ويعتلي معها العرش1؛ ولكن حور محب استطاع مقابلة الأمير الذي أرسل إليها قبل وصوله إلى مصر وقتله.

آي:

كان كبيرًا للكهنة ومن الألقاب التي أطلقت عليه لقب "الأب المقدس"، وقد تبع توت عنخ آمون على العرش رغم ما يبدو من تفوق نفوذ حور محب عليه، والظاهر أنه كان يمت بصلة للملكة "تي"2 زوجة أمنحتب الثالث، و"نفرتيتي" زوجة إخناتون أي أنه كان أقرب الأشخاص لسلفه الملك الشاب.

ولم يحكم آي أكثر من ثلاث سنوات أقام فيها بعض المباني، ولا نعرف كثيرًا عن حكمه، ومن المرجح أنه تزوج إحدى أميرات البيت المالك التي يرى بعض المؤرخين أنها أرملة توت عنخ آمون؛ ولكن هذا غير مؤكد، ولعل زواجه بالملكة "تي" أكثر احتمالًا، وربما كانت المقبرة التي هيئت على عجل لكي يدفن فيها "توت عنخ آمون" هي التي كانت أصلًا معده للملك "آي" الذي شيد لنفسه مقبرة أخرى.

1 ظن بعض المؤرخين أن هذه الأميرة هي نفرتيتي زوجة إخناتون، ولكن أصبح من المرجح الآن أنها زوجة توت عنخ آمون "عنخ - س - إن - آمون" انظر:

O، R Gurney، "The Hittites"، "Pelican A 259"، PP، 31-2.

2 يرى البعض أنه كان أخًا غير شقيق للملكة "تي"، انظر:"JEA 43، P. 35".

ص: 182