المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا- العناصر السامية: - معالم تاريخ الشرق الأدني القديم

[محمد أبو المحاسن عصفور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌محتويات الكتاب

- ‌قائمة بالأشكال والرسوم:

- ‌الاختصارات الواردة بالكتاب:

- ‌الفصل الأول: منهج التاريخ:

- ‌الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها

- ‌مدخل

- ‌أولاً في الدور الحجري القديم الأسفل

- ‌مدخل

- ‌ الحضارة الأبفيلية:

- ‌ الحضارة الأشولية:

- ‌ثانيًا: في الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌الحضارة الموستيرية:

- ‌بدء الاختلاف الحضاري:

- ‌التطور الحضاري والشرق الأدنى:

- ‌الفصل الثالث: مصر

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية

- ‌الدور الحجرى القديم

- ‌الدور الحجرى القديم الأسفل

- ‌ الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌ الدور الحجري القديم الأعلى:

- ‌ الدور الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجرى الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارات الوجه القبلي:

- ‌حضارات الوجه البحري:

- ‌عصر ما قبل الاسرات

- ‌مدخل

- ‌التوقيت المتتابع أو التأريخ التتابعي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه القبلي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه البحري:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌عهد الدولة القديمة

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الأولى:

- ‌الأسرة الثانية:

- ‌الأسرة الثالثة:

- ‌الأسرة الرابعة:

- ‌الأسرة الخامسة:

- ‌الأسرة السادسة:

- ‌عصر الاضمحلال الأول

- ‌مدخل

- ‌الأسرة السابعة:

- ‌الأسرة الثامنة:

- ‌ملوك إهناسيا "الأسرتان التاسعة والعاشرة

- ‌ الدولة الوسطى:

- ‌منتوحتب الأول:

- ‌منتوحتب الثاني:

- ‌منتوحب الثالث

- ‌الأسرة الثانية عشر

- ‌أمنمحات الأول:

- ‌سنوسرت الأول:

- ‌أمنمحات الثاني:

- ‌سنوسرت الثاني:

- ‌سنوسرت الثالث:

- ‌أمنمحات الثالث:

- ‌أمنمحات الرابع:

- ‌عصر الاضمحلال الثاني

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌الأسرة الرابعة عشرة:

- ‌ عهد الدولة الحديثة:

- ‌إجلاء الأجانب وتكوين الإمبراطورية:

- ‌الأسرة الثامنة عشرة:

- ‌الأسرة التاسعة عشرة:

- ‌الأسرة العشرون:

- ‌ عصر الاضمحلال الثالث:

- ‌الأسرة الحادية والعشرون ونفوذ الكهنة:

- ‌مصر تحت حكم الأجانب:

- ‌الصراع الأشوري النبتاوي على مصر:

- ‌عصر النهضة المؤقتة

- ‌الأسرة السادسة والعشرون

- ‌عهد الفوضي الأخير

- ‌الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون

- ‌الفصل الرابع: بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌العصر قبل التاريخي

- ‌مدخل

- ‌مصادر تاريخ بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌ المصادر غير العربية:

- ‌ أهم الجهود الأثرية:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القسم الجنوبي:

- ‌بلاد اليمن:

- ‌ثانياً القسم الشرقي

- ‌مجان

- ‌ دلمون أو تلمون "البحرين

- ‌الفصل الخامس: الاقليم السوري

- ‌مدخل

- ‌أولاً العصور قبل التاريخية

- ‌العصر الحجرى القديم

- ‌العصر الحجري القديم الأسفل

- ‌العصر الحجري القديم الأوسط:

- ‌العصر الحجري القديم الأعلى:

- ‌ العصر الحجري المتوسط:

- ‌ العصر الحجري الحديث:

- ‌ دور بداية استخدام المعادن "عصر النحاس والحجر

- ‌ثانياً العصور التاريخية

- ‌الدول التي أثرت في تاريخ سوريا

- ‌الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية

- ‌مدخل

- ‌أولًا- العناصر السامية:

- ‌ثانيًا- العناصر غير السامية:

- ‌الفصل السادس: آسيا الصغرى

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌الدور الحجري القديم:

- ‌الدور الحجري الحديث:

- ‌دور بداية استخدام المعادن:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌الدولة القديمة:

- ‌عصر الإمبراطورية:

- ‌الممالك الحيثية الجديدة:

- ‌سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون

- ‌الحيثيون في فلسطين:

- ‌الفصل السابع: العراق

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌ العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارة جرمو:

- ‌حضارة حسونة:

- ‌حضارة سامراء:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌حضارة حلف:

- ‌حضارة العبيد:

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌حضارة جمدة نصر:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌السومريون

- ‌مدخل

- ‌عصر فجرات الأسرات

- ‌الساميون

- ‌مدخل

- ‌سرجون الأول:

- ‌خلفاء سرجون:

- ‌ عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية

- ‌ تنافس الأموريين والعيلاميين "سيادة مدينتي أيسين ولارسا

- ‌ مملكة أشنونا:

- ‌ البابليون:

- ‌الدولة البابلية الأولى:

- ‌مملكة بابل الثانية "دولة أرض البحر

- ‌مملكة بابل الثالثة "الدولة الكاشية

- ‌الأشوريون

- ‌مدخل

- ‌ العهد الأشوري القديم:

- ‌ العهد الأشوري الوسيط:

- ‌ العهد الأشوري الحديث:

- ‌ العهد البابلي الأخير "المملكة الكلدانية

- ‌الفصل الثامن: إيران

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجري الحديث:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌ عيلام:

- ‌‌‌ الإيرانيون:الميديون والفرس:

- ‌ الإيرانيون:

- ‌الميديون:

- ‌الأخمينيون "الفرس

- ‌ملحق تاريخي

- ‌المختار من المراجع العامة:

- ‌فهرس أبجدي:

الفصل: ‌أولا- العناصر السامية:

عاصمتها حلب في أواخر القرن السادس عشر ق. م، ثم اشتد التنافس بينها وبين المصريين من أجل السيطرة عليه ابتداء من أواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد1، ثم تكونت فيه عدة ممالك حيثية صغيرة خلال القرن الحادي عشر ق. م.2.

وهكذا نجد أن الإقليم السوري كان ميدانًا لصراع دول وشعوب مختلفة أثرت في تاريخه أيما تأثير.

1 انظر فيما بعد ص278، 312-316.

2 انظر فيما بعد ص318-320.

ص: 274

‌الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية

‌مدخل

ب- الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية:

أشرنا إلى أن موقع الإقليم السوري كان عظيم الأثر في تاريخه وحضارته؛ إذ إنه جعله عرضة لوفود بعض العناصر التي لعبت في تاريخه دورًا مهمًّا، وأهم هذه العناصر هي:

ص: 274

‌أولًا- العناصر السامية:

وفدت هذه العناصر إلى الإقليم السوري في موجات متتابعة، واستقرت في أنحاء مختلفة منه "خريطة رقم 4" وظلت تسود فيه خلال الجزء الأكبر من تاريخه القديم.

وقد تركت هذه الشعوب بصماتها في التاريخ؛ حيث احتكت بالشعوب المجاورة، وتأثرت بها وأثرت فيها من الناحية الحضارية، ومع أن بعض هذه

ص: 274

خريطة رقم 4

ص: 275

الشعوب لم يستدل عليها إلا من التوراة؛ إلا أن لغاتها انتشرت في الشرق الأدنى حتى أصبحت دولية، كما أن الكتابة التي توصل إليها البعض الآخر استخدمتها الشعوب غير السامية التي عاشت في الشرق الأدنى، بل وينسب إلى الفينيقيين أنهم أول من عرفوا الهجائية التي انتقلت منهم إلى اليونان الذين نقلوها بدورهم إلى أوروبا؛ فهي تعد إذًا أساس الهجائيات الأوروبية الحديثة1.

ولم يكن انتشار هذه الشعوب في الإقليم السوري بدرجة واحدة ولم يسيطر أحدها على الإقليم بأكمله؛ على أنه يمكن القول إجمالًا أن الأموريين ظلوا يشكلون غالبية السكان "فيما عدا السواحل" من منتصف الألف الثالث ق. م. إلى منتصف الألف الثاني ق. م. تقريبًا؛ بينما سكن الكنعانيون "الفينيقيون" الذين جاءوا مع الأموريين في هجرة واحدة على السواحل، وظل نشاطهم بها حتى منتصف الألف الأول ق. م. تقريبًا، ومن منتصف الألف الثاني ق. م. توغلت العناصر الآرامية في شمال ووسط سورية، وفي نفس الوقت تقريبًا كان العبريون يحاولون دخول جنوب الإقليم السوري والتركز حول البحر الميت تقريبًا.

وعلى العموم يمكن إجمال المعالم الرئيسية لتاريخهم على النحو التالي:

1-

الأموريون:

هم أول شعب سامي عاش في سورية، وقد جاءوا من بلاد العرب في هجرة واحدة مع الكنعانيين حوالي منتصف الألف الثالث ق. م. وأخذوا يتجولون في شمال سورية قبل أن يستقر بهم المقام في أواسط حوض الفرات، وكانت هذه المنطقة تسكنها جماعات سومرية عند وفود الأموريين ثم ما لبث

1 انظر ص280.

ص: 276

هؤلاء أن أصبحوا يمثلون غالبية السكان، وبعد انتصار سرجون الأول "ملك أكد" على لوجال زاجيري1 حوالي سنة 2371 ق. م. اجتاح بلاد الأموريين؛ ولكن هؤلاء نجحوا في بداية الألف الثاني قبل الميلاد في تأسيس سلسلة من الدول في فلسطين وسورية وبلاد النهرين؛ فما إن حل القرن العشرون قبل الميلاد حتى أصبحت منطقة الفرات الأوسط أمورية في سكانها وحضارتها وحكومتها؛ حيث أسسوا دولة عاصمتها ماري جنوب مصب الخابور، وانتشرت إماراتها من أشور شمالًا إلى لارسا جنوبًا، ومن البحر المتوسط غربًا إلى مرتفعات عيلام شرقًا، والظاهر أن بعض الجهات التي قطنوها في أول الأمر تعرضت لحملة مصرية في عهد ساحورع أحد ملوك الأسرة الخامسة2؛ حيث إن النقوش التي تركها على جدران معبده تبين انتصاره على آسيويين مثلوا بملامح تغلب فيها الصفات الأرمينية "رأس مستديرة وأنف ضخم" وهي صفات كانت سائدة بين الأموريين أيضًا، ومن المرجح أن بعض مواطنهم تعرضت لبعض المتاعب؛ فجاءت جماعات منهم تطلب الاستقرار في مصر، ويتضح هذا من نقوش مقبرة "خنوم حتب" أحد أشراف مصر الوسطى في عهد سنوسرت الثاني من السلالة الثانية عشرة؛ حيث مثلت إحدى القبائل التي لها نفس الملامح وقد جاءت تطلب السماح لها بالإقامة في مصر3، وربما كان الأموريون يمثلون الغالبية بين الشعوب التي اجتاحت سورية وتسللت إلى مصر وسيطرت عليها وهي التي عرفت باسم الهكسوس4.

وقد شهد مطلع النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد تحولًا في النشاط

1 ملك مدينة أوما، انظر فيما بعد "عصر فجر الأسرات السومري" بالعراق.

2 انظر أعلاه ص114-115.

3 انظر أعلاه ص143.

4 انظر أعلاه ص150 وما بعدها.

ص: 277

الدولي إلى سورية الوسطى التي كان الأموريون يلعبون الدور الرئيسي فيها؛ لأن الدولة الحيثية أصبحت من القوة بحيث أخضعت الجزء الشمالي من سورية لسلطانها بعد أن كانت تسيطر عليه مملكة يامخاد الأمورية التي كانت عاصمتها حلب، وفي تلك الأثناء كانت مصر قد أخذت تبني إمبراطوريتها في عهد الدولة الحديثة، ووقع جزء من سورية تحت سيطرتها، وهكذا انحصرت بقية الإمارات الأمورية في سورية الوسطى وخاصة في الجزء الشمالي من لبنان والإقليم الداخلي حول دمشق، وظلت هذه الإمارات تتأرجح بين الخضوع للحيثيين أو الولاء لمصر، وظل الحيثيون في تقدمهم؛ بينما أخذت المستعمرات المصرية تزداد سوءًا في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة وانكمشت الممتلكات المصرية حتى أصبحت قاصرة على الجزء الجنوبي من سورية، وأخذ الحيثيون يسيطرون على شمال سورية ووسطها إلى أن انتهى نشاط الأموريين منها واقتصر على جنوبها؛ حيث تأرجحت بعض الولايات الأمورية بين الولاء لمصر وبين الولاء للحيثيين، كما أن الولايات استقلت لفترات قصيرة ساد الصراع خلالها فيما بينهم إلى أن قضى الأشوريون والبابليون ثم الفرس على كيانهم ودخلوا الإقليم السوري بعد ذلك تحت سيادة الإسكندر، ومن الجدير بالذكر أنهم لم يتركوا وثائق مهمة بلغتهم الخاصة؛ بل استعملوا البابلية القديمة، ويكاد لا يظهر في وثائقهم من لغتهم سوى أسماء الملوك والحكام وبعض أسماء الأماكن السورية، ويبدو أن لغتهم كانت اللهجة الكنعانية التي انتشرت في شرق الإقليم السوري، كما يبدو أن الفينيقية كانت هي الأخرى اللهجة الكنعانية التي انتشرت في غرب هذا الإقليم.

ب- الكنعانيون أو الفينيقيون:

أشرنا إلى أن هؤلاء وفدوا مع الأموريين في هجرة واحدة؛ ولكن هؤلاء الكنعانيين استقروا على الساحل؛ حيث أطلق عليهم اليونان اسم "الفينيقيين"، ولم تمكنهم طبيعة المنطقة التي عاشوا فيها من تأسيس دولة قوية موحدة

ص: 278

بل انتظموا في جماعات صغيرة يحكم كلًّا منها ملك ويتركزون حول مدن محصنة، تحميها أسوار وأبراج قوية تلجأ إليها تلك الجماعات عند مهاجمتها، وبعض هذه الجماعات كانت تحتل -إلى جانب أماكن استقرارها على الساحل- جزرًا صغيرة في مواجهتها، حتى إذا ما اشتد الهجوم عليها التجأت إلى تلك الجزر التي كانت محصنة هي الأخرى، أي أن هذه الجماعات كانت تتبع وسائل دفاع مزدوجة استطاعت بفضلها بعض مدنهم أن تقاوم طويلًا هجمات كثيرة تعرضت لها، ووقفت صامدة أمام الغزاة رغم حصارهم لها سنوات متتالية.

وكثيرًا ما كان يكثر التطاحن بين هذه المدن وتنشب بينها الحروب، ومع ذلك فإنها كثيرًا ما كانت تتحد أمام المهاجمين من الشعوب الأخرى، وقد تحصل إحداها على الزعامة وتتمتع بنوع من السيادة على الآخرين1؛ ولكن هذه الأحلاف كانت لا تستمر طويلًا وخاصة لأن بعض المدن كانت تحاول الانتفاع على حساب البعض الآخر.

وكان الفينيقيون أول أمة بحرية في التاريخ، أخذوا يجوبون البحار ويؤسسون الطرق البحرية بين الشرق والغرب وأنشئوا المستعمرات ونشروا حضاراتهم وحضارات غيرهم بين مختلف الجهات، وكانوا تجارًا نموذجيين ألفت الشعوب القديمة رؤية سفنهم؛ ولذا نجدها ممثلة في نقوش المصريين والأشوريين. ومن أهم ما قاموا به الدوران حول إفريقيا في عهد نخاو "ثاني ملوك الأسرة السادسة والعشرين المصرية"2، كما ينسب إليهم أنهم وصلوا إلى بريطانيا وكانوا يتاجرون معها؛ إذ كانوا يحصلون منها على القصدير في نظير الخزف والملح والأواني النحاسية، وأهم المستعمرات التي أسسوها كانت في قبرص وصقلية وسردينيا وأسبانيا وأوتيكا "تونس" وقرطاجة وبلاد اليونان،

1 مثل الحلف الذي تكون بزعامة قادش أيام تحتمس الثالث، انظر ص166.

2 انظر ص228.

ص: 279

وكانت قرطاجة أكثر هذه المستعمرات نجاحًا؛ فقد تطورت حتى أصبحت تنافس الوطن الأم في القرن الثامن قبل الميلاد، وكونت منذ القرن السادس ق. م إمبراطورية واسعة امتدت من حدود ليبيا إلى جبل طارق وشملت بعض جزر البحر المتوسط حتى نازعت روما السيادة على هذا البحر، وبلغ من تسلطها عليه أن تردد القول بأن الرومان لم يكونوا يستطيعون غسل أيديهم في مياهه دون إذن من قرطاجة، وتطورت الحرب بين روما وقرطاجة إلى أن دمرت هذه الأخيرة على يد الرومان، وأشعلوا فيها النيران لمدة سبعة عشر يومًا حتى أتت عليها في سنة 146 ق. م.

ويبدو أن الفينيقيين كانوا أول من استعمل الأبجدية الراقية1 التي لا شك في أنهم اقتبسوها من الكتابة المصرية، كما أنهم تأثروا بالمصريين في كثير من أمورهم كالآداب والعقائد وفن العمارة وعادات الفن وغير ذلك؛ إذ إن من المرجح أن النفوذ المصري كان سائدًا في الساحل الفينيقي من حوالي 2400-1200 ق. م. وكانت أول مدينة تحتل مركزًا رئيسيًا في العلاقات المصرية الفينيقية هي جبيل "ببلوس" حيث كانت مصر تستورد منها خشب الأرز والخمور والزيوت في نظير الذهب والمصنوعات المعدنية وورق البردي، وقد دخلت سورية تحت سلطان فراعنة الدولة الحديثة على العموم؛ ولكنها خرجت عن سيادتها بعد ذلك.

ولم يكن التأثير الحضاري لبلاد النهرين على سورية أقل من التأثير المصري، وكان ملوك بلاد النهرين الأقوياء يحصلون على خشب الأرز من هذا الإقليم، كما حدث في عهد جوديا ملك لجش، بل ويحتمل أن سورية الشمالية خضعت لسرجون الأول ملك أكد وإلى نارام - سن "ثالث خلفائه حوالي 2238 ق. م."،

1 عثر في أوجاريت على ألواح طينية كتبت بهجائية مسمارية في لهجة كنعانية، وتتشابه في بعض موادها مع بعض نصوص الآداب العبرية، انظر أيضًا ص282.

ص: 280

على أن خضوعها بصفة حاسمة لدول بلاد النهرين لم يحدث إلا في عهد الأشوريين حينما انهارت الدولة الحيثية؛ فقد استطاع تجلات بلاسر الأول ملك أشور أن يفرض سلطانه عليها، وما لبث الآراميون أن غزوا ممتلكاته فيها ولكن أشور ناصر بال "أحد خلفائه" تمكن من استرجاعها، وفي عهد وريثه شلمناصر الثالث تكون حلف ضده من المدن السورية ومن ملك دمشق "853 ق. م"؛ ولكنه انتصر عليه، إلا أن انتصاره لم يكن حاسمًا.

وحينما اعتلى تجلات بلاسر الثالث عرش أشور قام بعدة حملات لفتح سورية، ثم استطاع ولده شلمناصر الخامس أن يجتاح المدن الفينيقية فيما عدا صور؛ ولكن في عهد سنحريب تمكنت أشور من الاستيلاء على معظم الإقليم السوري بما في ذلك صور نفسها، وفي عهد خلفه أسرحدون قامت صيدا بالثورة؛ ولكنه خربها وقتل ملكها وأخضع بعض مدن فينيقية أخرى كانت صور تتزعمها، وبعدئذ استطاعت صور أن تتخلص من السيادة الأشورية فترة قصيرة؛ إلا أن أسرحدون وخلفه آشور بانيبال تمكنا في النهاية من مد إمبراطوريتهما إلى البحر المتوسط، بل وإلى مصر أيضًا.

وحينما أصبح الكلدانيون حكام بابل بعد أشور أدعوا أنهم ورثوا السيطرة على سورية، أما مصر فقد تخلصت من سيادة بلاد النهرين وأرادت أن تفرض سيادتها على سورية، وكانت المدن الفينيقية أميل للاعتراف بسلطان مصر منها إلى الاعتراف بالسيادة البابلية. وفي عام 587 ق. م. وصل نبوخذ نصر ملك بابل إلى سورية وأعاد فتح البلاد الفينيقية وفلسطين، وحاصر صور ثلاثة عشر عامًا حتى خضعت له.

وبعدئذ أخضع الفرس الإقليم السوري ومصر لسلطانهم، وقد ازدهرت بعض المدن الفينيقية في عهدهم؛ حيث سمحوا لكل منها بالاستقلال الذاتي ثم كونت هذه المدن اتحادًا مركزه طرابلس، وفي عهد أرتكزركسيس الثاني ثارت المملكة

ص: 281

الفينيقية التي تكونت من هذا الاتحاد؛ ولكن الملك الفارسي استطاع القضاء عليها.

هذا ولم يترك الفينيقيون إلا وثائق قليلة بالهجائية الفينيقية رغم أن اختراع الهجائية ينسب إليهم، ولعل السبب في ذلك أنها كتبت على البردي أو مواد قابلة للتلف، وإلى جانب هذه وجدت وثائق كتبت بالخط المسماري البابلي.

ج- الآراميون:

كان هؤلاء من الرُّحَّل الذين عاشوا في شمال شبه جزيرة العرب ثم هاجروا إلى سورية، وما إن حل منتصف الألف الثاني قبل الميلاد إلا ووصلوا إليها، وفي خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق. م. اجتاحت جماعات منهم سورية الشمالية والوسطى ووقفت جبال لبنان حائلًا دون طغيانهم على السهل الساحلي في الغرب. ومنذ حوالي سنة 1200 ق. م أصبحت دمشق مركزًا لدولة آرامية تأثرت بحضارة الأموريين والكنعانيين، كذلك تأسست عدة مدن ودويلات آرامية في أجزاء أخرى من الإقليم السوري وبلاد النهرين.

وكانت دمشق أهم هذه الدويلات، عاصرت تأسيس المملكة العبرانية؛ فكانت محصورة بين هذه المملكة جنوبا وبين مملكة أشور شمالًا، وقد استمر عداء الآراميين للعبرانيين نحو قرنين من الزمان. ومن الدويلات الآرامية التي كانت تنازع العبرانيين مملكة صوبة التي كانت إلى جنوب زحلة في سهل البقاع، وقد انتصر داود ملك العبرانيين على هذه المملكة كما احتل دمشق، ثم تناوبت دمشق وصوبة السيادة بعد ذلك؛ فبعد أن كان ملك دمشق تابعًا لصوبة قام بمحاربة العبرانيين طوال عهد سليمان1 وانتقلت السيادة بعدئذ

1 سفر الملوك الأول 11: 25.

ص: 282

إلى دمشق التي حالفها الحظ بانقسام مملكة العبرانيين إلى مملكتين "إسرائيل ويهودا" سنة 922 ق. م؛ حيث أخذت تؤلب إحدى هاتين المملكتين ضد الأخرى، وتمكن ملك دمشق بنحدد الأول "789-843 ق. م." من أن يأخذ من ملك يهودا كنوزًا ثمينة من المعبد ومن القصر الملكي في أورشليم ثم هاجم إسرائيل وأخضعها "اسميًّا على الأقل" لسلطانه، وحينما تحالفت المدن السورية ضد شلمناصر الثالث1 كان ملك دمشق يرأس الحلف الذي لم يتمكن الأشوريون من الانتصار عليه انتصارًا حاسمًا، وبعد نحو سبعين عامًا أصبحت دمشق من الضعف بحيث هاجمها يربعام الثاني ملك إسرائيل؛ وذلك لأن هجمات أشور ضعضعت قوتها، وفي عهد تيجلات بلاسر الثالث اجتاح الأشوريون معظم المدن السورية وحاصروا دمشق وأسقطوها في سنة 732 ق. م. وقتل ملكها، وبذلك انتهت السيادة الآرامية.

وحينما سيطر الفرس على سورية ومصر ازدهرت دمشق وأصبحت أهم المدن السورية، كما اتخذت الإمبراطورية الفارسية اللغة الآرامية إلى جانب الفارسية، واستخدمت الهجائية الآرامية شعوب أخرى حتى أصبحت واسعة الانتشار وتشعبت إلى لهجات يمكن ضمها في فرعين للآرامية، أحدهما يضم اللهجات الشرقية، والآخر يضم اللهجات الغربية، وما زالت بعض الجماعات في سورية وبلاد النهرين وأرمينية تستعمل الآرامية.

د- الشعب العبراني:

نزح العبرانيون من شبه جزيرة العرب إلى سورية عن طريق كنعان في نفس الوقت الذي وصلها فيه الآراميون تقريبًا، فتسلسل العناصر السامية التي وصلت

1 انظر أعلاه ص281.

ص: 283

إلى الإقليم السوري كان على النحو التالي: الأموريون تركزوا بادئ الأمر في الشمال، والكنعانيون في الساحل، والآراميون في المنطقة الداخلية، والعبرانيون في الجنوب.

ولا يوجد من الوثائق والنصوص ما يشير إلى تاريخ العبرانيين سوى نذر يسير أو إشارات عابرة في كتابات الأقوام الذين احتكوا بهم وما روته التوراة عن تاريخهم، ورغم ما يبدو فيها من اضطراب وزيف؛ فإنها تعد أوفى ما كتب عنهم حتى إن المؤرخين يعتبرونها المصدر الرئيسي لتاريخهم؛ ولذا اعتمدوا عليها في كتابة هذا التاريخ.

وإذا ما أخذنا لما ترويه التوراة عنهم نجد أنها تذكر أن هؤلاء العبرانيين أتموا هجرتهم إلى فلسطين على ثلاث مراحل، أقدمها كانت إلى الصحارى القريبة من شمال بلاد النهرين، ويرجح أنها كانت في نفس الوقت الذي حدثت فيه تحركات الهكسوس في شرق البحر المتوسط أي: في القرن الثامن عشر ق. م. والثانية توافق هجرة الآراميين أي: حوالي القرن الرابع عشر ق. م. والثالثة كانت في أواخر القرن الثالث عشر ق. م. وفيها خرجوا من مصر إلى جنوب شرق فلسطين بعد جولة ليست بالقصيرة في شبه جزيرة سيناء.

وحينما وصلت هجرتهم الأولى إلى الإقليم السوري كان السواد الأعظم فيه من الأموريين والكنعانيين بالإضافة إلى بعض العناصر غير السامية كالحوريين والحيثيين وغيرهم، وقد استطاع هؤلاء العبرانيون أن يختلطوا بهؤلاء جميعًا وأن يتعلموا حياة الاستقرار بعد أن كانوا من المتجولين المغامرين، واتخذوا اللغة الكنعانية بدلًا من لغتهم الأصلية، كما تأثروا بكثير من مظاهر الحضارة والثقافة الكنعانية؛ ولذا يمكن اعتبارهم ورثة للكنعانيين أو أخلافًا لهم حيث تذكر

ص: 284

الأساطير العبرانية أن جدهم الأكبر إبراهيم "أو قبيلتهم الأصلية" أتى من أور الكلدانيين عن طريق حران واستقر مؤقتًا قرب حبرون "الخليل" الأمر الذي يعتقد المؤرخون أنه يتفق مع الهجرة الأولى، وأن حفيده يعقوب "ابن إسحاق" عاش عدة سنوات في فدان آرام ثم انتقل إلى مصر، ويحتمل أن هذا هو ما يتفق مع هجرتهم الثانية، وحينما وقع الاختيار على إسحاق ليكون صاحب الشأن بينهم غيَّر اسمه إلى إسرائيل كما غير أخوه عيسو اسمه هو الآخر إلى أدوم وسمى ورثته بالأدوميين، ومن أبناء يعقوب كان يوسف الذي وصل إلى مكانة مرموقة في مصر1، وبعد أن عاش أحفاد يعقوب فيها عدة أجيال أخرجوا منها وكان يقودهم موسى، وهذه هي هجرتهم الثالثة التي تعد بداية التاريخ الحقيقي للإسرائيليين.

ولا يعرف تاريخ هذه الهجرة الأخيرة بالضبط رغم أن كلمة إسرائيل وردت على لوح حجري من عهد مرنبتاح2 بن رعمسيس الثاني، وقد ظل أفرادها يتجولون طويلًا في سيناء؛ حيث قاسوا كثيرًا، وتزوج موسى من ابنة كاهن مدين "في جنوب سيناء" الذي كان يدين بوحدانية يعبد فيها يهوه وهو أحد آلهة العرب الشماليين، ثم اتخذت هذه الجماعة الإسرائيلية مكانًا لها في جنوب شرقي الأردن استعدادًا لدخول فلسطين، وكان عددها يقدر بحوالي 6000 أو 7000 نفس ومرت في طريقها بدويلات صغيرة في جنوب وشرق وشمال شرقي البحر الميت، ولم تحاول مهاجمة هذه الدويلات؛ ولكنها حاربت إمارة سيحون الأمورية "في شرق الأردن" وانتصرت عليها، كما انتصرت على إمارة باشان التي كان ملكها عوج بن عنق المشهور في التوراة على أنه كان من العمالقة،

1 يحتمل أن أحد ملوك الهكسوس هو الذي قرب يوسف إليه باعتباره من أصل سوري مثله.

2 انظر ص193.

ص: 285

واستولوا على بعض المدن الكنعانية المحصنة في فلسطين وأحرقوها وقتلوا أهلها حتى الأطفال؛ ولكن بعض المدن الأخرى استعصت عليهم مثل جزر وأورشليم وبيت شأن، وهذه الأخيرة لم تسقط في أيديهم إلا حوالي سنة 1000 ق. م. أو بعد ذلك بقليل.

وبعد أن استقروا في الجهات التي وصلوا إليها اختلطوا بسكانها ومن بينهم أقرباؤهم الذين كانوا قد فضلوا البقاء فيها من قبل ولم يهاجروا إلى مصر، ثم تغلغلوا في أماكن أخرى، وبعدئذ قسموا الجهات التي سيطروا عليها بين إحدى عشرة قبيلة من القبائل الاثنتي عشرة التي تضمهم، أما القبيلة الباقية وهي قبيلة "لاوي الكهنوتية"؛ فقد تفرغت للشئون الدينية ووزعت على القبائل الأخرى، وهذا هو ما يعرف بعصر القضاة.

وهؤلاء القضاة كانوا أبطالًا وحكامًا قادرين قادوا قبائلهم في حروبهم ضد أعدائهم واشتهر منهم كثيرون، من بينهم شمشون الجبار؛ حيث روت عنه الأساطير العبرانية الشيء الكثير فيما يتعلق بحروبه مع الفلسطينيين الذين كانوا أشد أعداء العبرانيين، وهم من شعوب البحر التي جاءت من منطقة إيجة في أواخر القرن الثالث عشر ووصلوا إلى سواحل سورية الجنوبية واستقروا بها "ومن اسمهم اشتق اسم فلسطين" وقد حاولوا الدخول إلى مصر في عهد رعمسيس الثالث1؛ ولكنه هزمهم وحال دون توغلهم إليها، ومن مدنهم الخمسة الرئيسية كونوا اتحادًا بزعامة أشدود، وفي حوالي سنة 1050 ق. م. حاربوا العبرانيين وانتصروا عليهم وأخذوا منهم تابوت العهد2 ونقلوه إلى أشدود.

1 انظر ص200.

2 تروي الأساطير أن تابوت العهد صندوق طويل من الخشب صنعه موسى عليه السلام "كان يوضع في أقدس مكان من المعبد العبراني بعد بنائه" وكان به لوحان من الحجر منقوشان بالوصايا العشر، وقبل أن يشيد المعبد كان العبرانيون يحملون هذا التابوت معهم في ترحالهم.

ص: 286

ويبدو أن العبرانيين حينما وجدوا أن جيرانهم كان يحكمهم ملوك طلبوا إلى زعيمهم الديني "صموئيل" أن يعين عليهم ملكًا فاختار "شاءول"؛ ولكن هذا كان ضعيفًا مسنًّا، ازداد نفوذ الفلسطينيين في عهده وتسلطوا على مدن داخلية بعيدة مثل بيت شان، وحينما حارب الفلسطينيون العبرانيين انتصروا عليهم وقتلوا ثلاثة من أبناء شاءول وأصيب هو نفسه بجراح خطيرة فانتحر.

وتشير التوراة إلى أن داود كان حاملًا لدرع شاءول وأنه اختير ملكًا من بعده وهو يعد المؤسس الحقيقي للمملكة العبرانية؛ فمع أنه بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين؛ إلا أنه نجح في التخلص من سلطانهم وتمكن من توسيع مملكته إلى حد لم تبلغه في أي وقت آخر1، واختار حصن أورشليم ليكون عاصمة له، وفي عهده ظهر الأدب العبري الذي يعتبر من أرفع الآداب التي خلفها الشرق القديم، ودونت في عهده الحوادث والحوليات الملكية في أسلوب حيوي لم يكتب مثله من قبل.

وورث سليمان ملك أبيه داود، وفي عهده وصلت المملكة إلى غاية المجد والأبهة، وتنسب إليه التوراة أنه عاش2 بين مظاهر الترف كملك شهواني3 مستبد فحذا حذوه العبرانيون، وأن أعماله العمرانية كانت عظيمة للغاية ومنها هيكله الشهير الذي كان عبارة عن معبد ملكي ملحق بالقصر

1 من بين الإمارات التي أخضعها "إيدوم" وقد أسرف قائده في ذبح الذكور من أبنائها؛ ولكن أمير إيدوميا حديث السن يدعى "حداد" هرب إلى مصر؛ حيث أكرم فرعونها وفادته، ومع ذلك عاد إلى فلسطين على غير إرادة الفرعون وأصبح عدوًّا مدى الحياة لسليمان، انظر: سفر الملوك1، الإصحاح 11 الآيات 14 وما بعدها.

2 سفر الملوك الإصحاح العاشر 14-29، وأخبار الأيام الثاني إصحاح 9.

3 سفر الملوك، الإصحاح الحادي عشر 1-5.

ص: 287

تم إنشاؤه في سبع سنوات1 ثم أصبح بعد ذلك مركزًا عامًّا لعبادة العبرانيين، وقد نشطت التجارة في عهده وعم الرخاء حتى أجمعت الأساطير والقصص على إعلاء شأنه؛ وإن كانت بعض الوثائق التاريخية توحي بأن فلسطين كانت تعترف بالسيادة المصرية في ذلك العهد، وقد تزوج سليمان من ابنة فرعون "الذي يرجح أنه بسونس الثاني آخر ملوك السلالة الحادية والعشرين"، وحينما استولى الفرعون على حصن جزر الكنعاني أعطاه مهرًا لابنته زوجة سليمان2، وتذهب التوراة إلى أن نفقات هذا الأخير وتبذيره وسوء إدارته كانت سببًا في انقسام المملكة من بعده؛ حيث اجتمع ممثلو القبائل العبرانية الاثنا عشر بعد وفاته لتنصيب ولده رحبعام ملكًا وأبدوا له رغبتهم في أن يخفف عنهم عبء الضرائب التي فرضها عليهم والده، فرفض ذلك بقسوة وتهور. وعلى ذلك رفضت عشر قبائل أن تعترف به ملكًا وانتخبت "يربعام" بدلًا منه وعرفت مملكتهم باسم إسرائيل، أما القبيلتان الباقيتان فخضعتا لرحبعام وعرفت المملكة التي تكونت منهما باسم "يهودا" وقد تنافست المملكتان واستحكم العداء بينهما وكان الصراع بينهما سجالًا؛ فكانت كل منهما تتفوق على الأخرى أحيانًا حتى انتهى الأمر بانهيارهما.

إسرائيل:

كان "عمري" من أشهر ملوك إسرائيل "ويدل اسمه على أنه كان من أصل عربي أو نبطي" بنى السامرة وحصنها واتخذها عاصمته الجديدة وبني فيها قصرًا.

1 سفر الملوك، الإصحاح السادس 1-38.

2 سفر الملوك1، الإصحاح 3 الآية 1، والإصحاح 8 الآية 16.

ص: 288

وحينما تولى العرش "آحاب" بن عمري وسع في قصر أبيه وزخرفه، وقد عرف هذا القصر باسم بيت العاج؛ حيث عثر فيه على أثاث منزل من العاج يبدو أن كثيرًا منه كسي بالذهب، وكانت علاقة آحاب بن عمري مع جيرانه ودية فقد حالف مملكة دمشق في معركتها ضد أشور وتزوج من ابنة ملك صور وصيدا، وهذه كانت قوية الشخصية فرضت سيطرتها على زوجها كما أرادت فرض عبادة يهوه على إسرائيل.

وبعد فترة وجيزة قام أحد الضباط واسمه ياهو بالثورة، وتمكن من الاستئثار بالملك وجعل عبادة يهوه العبادة الوحيدة في إسرائيل؛ ولكن هذا الملك لم يكن موفقًا في سياسته الخارجية؛ حيث خضع لشلمناصر الثالث ملك آشور وقدم له الجزية، ولفرط ضعف كل من إسرائيل ويهودا في ذلك العهد قامت إمارة من الإمارات بالثورة ضد إسرائيل، وفي نفس الوقت قامت ثورة أخرى ناجحة ضد مملكة يهودا؛ ولكن ما لبثت قوة إسرائيل أن تجددت في عهد يربعام الثاني وهو ثالث ملك من سلالة ياهو؛ حيث أمكنها أن توسع حدودها الشمالية على حساب الآراميين.

وظلت إسرائيل تنعم بالهدوء إلى أن اعتلى تجلات بلاسر الثالث عرش أشور الذي ما لبث أن أخضع سورية وحولها إلى مقاطعات أشورية، وفرض الجزية على إسرائيل التي انكمشت مساحتها حينئذٍ، وبعد بضع سنوات رفض هوشع ملك إسرائيل الاستمرار في دفع الجزية؛ فهاجمه شلمناصر الخامس وريث تجلات بلاسر المذكور وحاصر السامرة ثلاث سنوات؛ ولكنها لم تسقط إلا في يد خلفه سرجون الثاني الذي سبى أحسن رجال إسرائيل وعددهم 27080 ونقلهم إلى ميديا؛ فتلاشت مملكة إسرائيل إلى الأبد "720 ق. م."؛ حيث إن الباقين من الرجال لم يكونوا إلا قسمًا صغيرًا من سكان المملكة يقع غرب نهر الأردن،

ص: 289

أما المسبيون فقد اندمجوا مع غيرهم في المناطق التي نقلوا إليها، ولم يكتفِ سرجون وخلفاؤه بذلك بل نقلوا قبائل من بابل وعيلام وسورية وبلاد العرب محل الإسرائيليين وأسكنوهم في السامرة وما حولها؛ فامتزج هؤلاء بالسكان واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه، وأصبح يطلق على الجميع اسم السامريين؛ ولكن ما لبث النزاع أن نشب بين اليهود والسامريين بعد عودة بعض أنبيائهم من السبي؛ حيث إن هؤلاء دافعوا عن فكرة النقاوة العنصرية.

يهودا:

اعتلى العرش فيها عددٌ من الملوك مساوٍ لعدد ملوك إسرائيل "أي: 19 ملكًا" إلا أن هذه المملكة استمرت مدة أطول من المدة التي عاشتها إسرائيل بنحو قرن وثلث من الزمان، وفي عهد ملكها رحبعام تعرضت لغزو مصر على يد فرعونها شيشنق الذي كان قد زوج ابنته من يربعام ملك إسرائيل، ولم يتمكن رحبعام من صد هذا الغزو؛ فاستطاع شيشنق أن يخرب المدن وأن ينهب أورشليم1، وحينما توقف نشاط كل من أشور ومصر أفادت كل من إسرائيل ويهودا من استقرار الأمور وعمدت يهودا إلى تنظيم جيشها كما أصلحت حصونها ووسعت حدودها ونظمت شئونها الداخلية؛ إلا أنها بعد زوال مملكة إسرائيل أصبحت عرضة للهجمات المباشرة من آشور، وبالرغم من تزايد الخطر على يهودا لم يتبع ملوكها سياسة حكيمة؛ فعندما اعتلى العرش ملكها حزقيا استجاب لتشجيع مصر رغم تحذير النبي أشعيا له وتحدى أشور بالتحالف مع المدن الفلسطينية وغيرها من المدن المجاورة ضدها فتوالت على يهودا حملات سرجون وخلفه سنخريب الذي حاصر أورشليم ولكنها لم تسقط في يده، ومع ذلك فقد أجبرت يهودا على دفع الجزية بعد أن خضعت كلها فيما عدا أورشليم لسلطان أشور

1 انظر أعلاه ص208.

ص: 290

واستمرت أشور في توسعها فخضعت لها مصر في عهد آسرحدون وأشور بانيبال1، وتقلصت مملكة يهودا وظلت تدفع لها الجزية بانتظام.

وما إن دب الضعف في أشور حتى استقلت مصر وحاولت يهودا أن تعيد وحدتها مع إسرائيل، وبعد أن سقطت نينوى على يد الدولة البابلية الجديدة وميديا سعت مصر إلى إعادة إمبراطوريتها ثانية في سورية، وقام ملكها نخاو بحملة وصل فيها قرب أعالي الفرات، وقد قاومه يوشع ملك يهودا؛ حيث اعتبر نفسه تابعًا لبابل الجديدة وريثة آشور ولكنة قتل في مجدو، وبعدئذ ترددت يهودا بين الخضوع لبابل وبين التحالف مع مصر، واختار يواقيم ملكها حينئذ التحالف مع مصر، وكان جزاؤه أن دخل نبوخذ نصر أورشليم وقيده بالسلاسل ليحمله معه إلى بابل، ولكنه قضى نحبه وتبعه في الحكم ولده الذي لم يمكث سوى ثلاثة شهور ثار فيها على بابل؛ فجاء نبوخذ نصر إلى أورشليم وسبى الملك ونساءه وموظفيه وسبعة آلاف من الجنود وألفًا من مهرة الصناع ونقلهم إلى بابل وعين صدقيا وهو عم الملك السابق ملكًا على يهودا، وظل هذا الأخير يتظاهر بالولاء لبابل بضع سنين ثم حاول الاستقلال فجاءت الجيوش البابلية وخربت أورشليم وهرب الملك؛ ولكنه أدرك في أريحا وجيء به إلى معسكر نبوخذ في ربلة؛ حيث قُتِل أبناؤه أمامه ثم سملت عيناه وحمل إلى بابل، وسبى الأشوريون عظماء المدينة وغيرها من البلاد "وكان عددهم خمسين ألفًا تقريبًا؛ فلم يبق في يهودا إلا جماعة من البائسين"، ودمروا كل مدينة مهمة ما عدا صور التي قاومت الحصار نحو عشر سنوات ثم خضعت بعد ذلك، ولما حاولت الثورة أخمدت ثورتها بسهولة، وعلى ذلك أصبحت سورية كلها في يد الكلدانيين.

ولما صارت الإمبراطورية الفارسية تتحكم في معظم أقطار الشرق الأدنى

1 انظر أعلاه ص223 وما بعدها.

ص: 291