الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبدو أن النشاط التجاري للأشوريين في كبادوشيا ظل مزدهرًا حوالي ثلاثة أجيال؛ ولكنه انتهى فجأة في حكم الملك أنيتا، ولا ندري هل كان ذلك نتيجة لانتصارات هذا الملك أم أن كارثة حلت بمدينة آشور نفسها في ذلك الوقت؟ وليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأن السكان المحليين لم يكونوا على علاقات ودية مع التجار الأشوريين؛ بل على العكس من ذلك ربما كان هؤلاء يرحبون بمثل أولئك الذين كانوا يحملون لهم ثمار الحضارات المتقدمة من بلاد النهرين.
وإذا ما أردنا تتبع علاقة الملك أنيتا المشار إليه بمملكة حاتي؛ فإننا نجد أنه كان يحكم في مدينة كوسارا أي: إن هذه المدينة كانت مقره في العصور الحيثية المبكرة إن لم تكن هي عاصمته الإدارية كذلك؛ ولذا يعتقد بعض العلماء أن الأسرة المالكة الحيثية كانت من سلالة أنيتا؛ إلا أن هذا الاعتقاد فيما يبدو لا يتفق مع ما نعرفه عن تدمير حاتوساس والعداء الذي أظهره أنيتا لها؛ مما يدل على أنه كان ينتمي إلى تقاليد تختلف عن تقاليد الملوك الذين اتخذوا حاتوساس عاصمة لهم فيما بعد، كذلك لم نعثر في نصوص ملوك الحيثيين على ما يثبت أن أحدًا منهم ادعى بأن أنيتا كان أحد أسلافه.
الدولة القديمة:
كان الملوك الحيثيون في العصور المتأخرة يميلون إلى انتسابهم إلى ملك يدعى لابارناس، أي أن التاريخ الحيثي يبدأ به على الرغم من أنه لم يكن فيما يبدو أول ملوك أسرته؛ بل ولم يوجد لهذا الملك أي نص؛ وإنما ذكرت أعماله في نص لأحد خلفائه نتبين منه أن لابارناس كان يتزعم أولاده وأقاربه في بقعة صغيرة "وكلما خرج إلى القتال أخضع أعداءه بالقوة وجعل بلادهم مغلوبة على أمرها ومد حدوده إلى البحار"، والظاهر أنه وصل بحدود بلاده إلى أقصى اتساع بلغته
المملكة حتى في أزهى عصور الإمبراطورية المتأخرة، كما يرجح أن عاصمته لم تكن حاتوساس بل كوسارا القديمة.
وخلف لابارناس على العرش حاتوسيليس الذي كان يتولى الحكم في كوسارا، وقد ألقى فيها خطابًا يعد مصدرنا الرئيسي عن الحالة السياسية في ذلك العهد، ومنه نتبين أن العاصمة في نهاية حكمه كانت حاتوساس وأن اسمه الأصلي لم يكن حاتوسيليس الأول بل كان لابارناس مثل أبيه، أي: إنه نقل عاصمة ملكه وغير اسمه، ولا بد أن تغيير العاصمة كان يرجع إلى أسباب إستراتيجية؛ إذ بدأت المملكة الحيثية في الاتساع جنوبًا وشرقًا في عهده والعهود التالية، أي أن الجيوش الحيثية قد خرجت من خلف حواجزها الجبلية واخترقت سلاسل جبال طوروس المنيعة التي لا يوجد بها إلا عدد قليل من الممرات، وربما كان الدافع إلى ذلك هو ثراء السهول الجنوبية وازدهارها وقدم حضارتها، وربما كانت أول مملكة اصطدم بها حاتوسيليس هي مملكة يامخاد الأمورية1 التي كانت عاصمتها حلب وكانت تسيطر على شمال سورية، ولا شك في أن هذه المملكة قد خضعت للحيثيين؛ ولكنها ثارت وخرجت عن سلطانهم بعد ذلك.
ولما تولى العرش مورسيليس الأول خلفًا لحاتوسيليس دمر يامخاد ولم يكتف بفتح سورية الشمالية؛ بل تتبع الفرات جنوبًا وقضى على المملكة الأمورية الكبرى في بابل حوالي سنة 1600 ق. م. وبذلك انتهت الأسرة البابلية الأولى التي كان حامورابي أعظم ملوكها.
ويبدو أن النظام الداخلي في المملكة الحيثية لم يكن قد وصل إلى درجة من الاستقرار تهيئ لها الصمود، فقد ظهرت فيها علامات الاضطرابات منذ عصر الملك حاتوسيليس؛ إذ إن أفراد البيت المالك ثاروا عليه بقيادة ولي عهده ولكنه
1 انظر أعلاه ص273-274، 278.
استطاع أن يسحق الثورة وأنكر ولي عهده ونفاه وعين مكانه مورسيليس الذي كان أصغر منه، وخلفه بالفعل على العرش؛ ولكن كثرة تغيب هذا الملك الشاب في حملاته الحربية شجعت على حدوث المؤامرات ضده؛ حيث قتله صهره حانتيليس -الذي كان متزوجًا بأخته- بعد عودته من بابل، وبدأ عهد مليء بحوادث القتل والدسائس استمر أجيالًا عدة حتى آلت المملكة إلى حالة قريبة من الفوضى.
وقد توالت الأزمات وحلت الكوارث الخارجية في عهد حانتيليس؛ فالحوريون المقيمون بالجبال المحيطة ببحيرة وان "wan" والذين كان مورسيليس قد غزاهم من قبل، هاجموا الجزء الشرقي من المملكة الحيثية وتقدموا فيه حتى وصلوا إلى قرب العاصمة من الناحية الشمالية، ودمروا في طريقهم بعض المدن؛ مما جعل الملك يضطر إلى تقوية حصون حاتوساس نفسها.
وقد فقد حانتيليس وخلفاؤه معظم الأراضي التي كان أسلافهم قد استولوا عليها في الجنوب، ولم يتحسن الحال نوعًا إلا عندما اعتلى العرش تليبينوس الذي كان مغتصبًا؛ ولكنه كان على عكس أسلافه يمتاز بالمهارة؛ إذ نجح في تقوية مركزه بالتخلص من الذين نافسوه على السلطة ونجح في إنهاء حالة الفوضى التي استمرت حوالي خمسين عامًا، وذلك بسن قانون لاعتلاء العرش وتقوية الدولة الحيثية من الداخل ويعد هذا أعظم أعمال تليبينوس، ومن المحتمل أن القانون الذي أصدره عن كيفية اعتلاء العرش والتعليمات الخاصة بسلوك الملوك والأمراء هو الذي اتبع فيما بعد حتى آخر أيام الإمبراطورية.
أما سياسته الخارجية فتتلخص في أنه اكتفى بتأمين حدوده الدفاعية وتقويتها وطرد الغزاة البرابرة من شمال العاصمة وشرقها، كما يحتمل أنه أعاد غزو بعض الأراضي التي خرجت عن سلطان الحيثيين، وقد عقد معاهدة مع مملكة كيزواتنا "Kizzuwatna" وهو أول من ذكر أنه عقد معاهدة مع دولة أجنبية، وهذه