الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وظل أمازيس على تشجيع اليونانيين؛ بينما تظاهر بإيقاظ الشعور الوطني، وقد تغالى في تشجيع اليونانيين ومنحهم كثيرًا من الامتيازات، بل وتبرع للمعابد في اليونان نفسها وأهدى لبعض حكامها الهدايا، ومع أن مظاهر النهضة كانت واضحة في عهده؛ إلا أن زيادة عدد الجيش وقوة الأسطول تطلبت كثيرًا من النفقات التي اضطرته إلى الاستيلاء على بعض دخل المعابد فأفادت من ذلك السلطة المركزية بطريق غير مباشر؛ لأنه أضعف نفوذ الكهنة، ومع أنه تمكن من بسط نفوذه على بعض سواحل البحر المتوسط؛ فإنه لم يكن أكبر قوة في الشرق واستمر خطر بابل يتهدده، كما ظهرت قوة جديدة هي مملكة فارس التي تحركت جيوشها وعبرت الفرات لتهاجم ليديا في غربي آسيا الصغرى، وكانت مصر وبابل وإسبرطة قد وعدت بمساعدة هذه المملكة، ولكن مصر كانت هي الوحيدة التي احترمت كلمتها، وبعد أن هزم الفرس مملكة ليديا أخضعوا كلًّا من سورية وفينيقيا أيضًا ولم يبق أمامهم سوى بابل ومصر، وما لبثت بابل أن هزمت وسقطت عاصمتها نينوى على يد كورش ملك الفرس، وبذلك ازداد الخطر على مصر؛ حيث أصبحت وحدها أمام قوة الفرس الهائلة.
عهد الفوضي الأخير
الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون
…
8-
عهد الفوضى الأخير: "سيادة الفرس وحكمهم في مصر":
الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون:
توفي أمازيس فتبعه "بسماتيك الثالث" على عرش مصر، كما توفي "كورش" وتبعه "قمبيز" على عرش فارس، ولما أراد هذا الأخير الاستيلاء على مصر خان أحد القواد اليونانيين بسماتيك الثالث وأرشد الفرس بنفسه إلى الطريق المؤدية إليها، وبذلك تمكنوا من الاستيلاء على الفرما ووصلوا إلى منف،
وفي تلك الأثناء أقبل رسل من الإغريق الذين يعيشون في ليبيا وأحضروا معهم الهدايا إلى قمبيز، ولما تم لهذا الأخير الاستيلاء على مصر عامل بسماتيك معاملة حسنة في أول الأمر؛ ولكن هذا الأخير حاول إثارة المصريين ضد قمبيز؛ فاشتط هذا في معاملته حتى أدى به إلى الانتحار، وقد غزا قمبيز مصر العليا وأرسل حملة إلى النوبة، ويقال: إنه جن في آخر أيامه بسبب فشل حملته على النوبة.
ويعد قمبيز مؤسس الأسرة السابعة والعشرين في مصر، ومع أنه تمكن من إقامة إمبراطورية واسعة؛ إلا أن الأحوال ساءت في فارس نفسها بعد وفاته؛ إذ حدثت ثورة في سورية وكاد خليفته "دارا" -الذي تولى العرش في فارس من بعده- أن يفقد ملكه؛ ولكنه استطاع أن يثبته بعد أن خاض تسع عشرة معركة، وأسر تسعة من الأمراء، ووصل إلى مصر حوالي سنة 517 ق. م.، وحينما قامت ثورة ليبية ولم ينجح الوالي الفارسي في إخمادها قتله دارا، ومع ظاهر هذه القسوة؛ إلا أنه كان معروفًا بالعدل وقد احترم ديانة المصريين وشجع التجارة؛ إذ المعروف أنه كان يهودي عصره، تاجر في كل شيء ومع كل الأقطار، وقد نجح في حفر قناة وادي الطميلات التي تربط بين النيل والبحر الأحمر1 ولكن سلطانه أخذ يضعف في فارس، فانصرف عن شئون مصر وخاصة بعد أن هزمه اليونانيون في معركة ماراثون حيث ركز كل اهتمامه في الانتقام من الأثينيين حتى إنه كلف شخصًا ليذكره بذلك كل صباح بقوله:"مولاي لا تنسَ الأثينيين" وبعد تلك المعركة بأربع سنوات حدثت ثورة في مصر بقيادة "خباش"2 الذي احتل منف وسايس؛ فبدأ دارا يعد العدة للانتقام من مصر واليونان
1 G. Posener، "La Premiére domination perse en Egypte"، "Bibl. De Etudes XI"، pp. 48-879 180-189.
2 Herodotus VII I.
على السواء؛ ولكنه مات وتبعه "أكزركسيس" الذي استطاع القضاء على ثورة خباش وعين أخاه واليًا على مصر، وقد تغالى هذا الوالي في قسوته وشدته حتى أذل المصريين.
ولم يحكم أكزركسيس طويلًا؛ حيث اغتِيلَ بعد فترة وجيزة وتولى بعده "أرتكزركسيس" الذي وجد إمبراطورية واسعة أرهقتها كثرة الحروب والثورات في مختلف الميادين، ومن بينها ثورة قامت في مصر بقيادة "إناروس" الليبي الذي كان في مريوط، و"أميرتايوس" الذي كان مركزه سايس؛ فلما التقى إناروس بالوالي الفارسي كانت الحرب سجالًا بينهما وتراجع الوالي إلى برقة، وطلب كل من الفريقين المدد واتجه إناروس في ذلك إلى أثينا، ولكن النجدة التي أرسلها أرتكزركسيس إلى واليه وصلت قبل النجدة التي طلبها إناروس؛ مما كان له أثره في انتصار الفرس وأسر إناروس وأرسل إلى سوسة حيث قتل هناك؛ وبذلك ظل أميرتايوس الزعيم الوطني الوحيد فعاود العصيان محاولًا الاستنجاد بالأثينيين ولكن النجدة لم تصل إليه، وفي نفس الوقت تهادن الفرس واليونان فلم تجد الثورات المصرية تأييدًا من اليونانيين بل اكتفى هؤلاء بإقناع الفرس بتعيين ولدي إناروس وأميرتايوس ولاة على مصر1، وفي هذه الأثناء زار مصر كثير من أعلام اليونان ومن بينهم هيرودوت.
ولما توفي أرتكزركسيس تبعه "دارا الثاني" الذي استبد هو وولاته في حكم البلاد، وحاولوا فرض عقائد الفرس على المصريين؛ فثار هؤلاء ضدهم كما ثاروا على اليهود في اليفانتين2؛ لأنهم كانوا يعاونون الفرس.
1 Kienitz، op - cit.، pp. 69-73.
2 Kienity، op - cit.، p. 39 n، 2.
ونجحت الثورة مؤقتًا؛ لأن دارا الثاني توفي وخلفه أرتكزركيس الثاني، ولم يكن حكم هذا الأخير مقبولًا تمامًا في أنحاء الإمبراطورية؛ ولذا هزمت فارس في ميادين مختلفة ونجحت حركة التحرير التي قادها "إمرتي" حفيد "أميرتايوس" السابق1 الذي يعتبر مؤسس الأسرة الثامنة والعشرين والملك الوحيد فيها.
وبعد أن حكم هذا الأخير نحو ستة أعوام قتل على إثر ثورة قام بها "نفريتس" أمير منديس مكونًا أسرة جديدة هي الأسرة التاسعة والعشرون التي لم تستمر طويلًا هي الأخرى؛ لأن الفرس بدءوا يهتمون بمصر من جديد، وقد حاول نفريتس جهده أن يتلافى خطرهم فتودد إلى الإغريق للاستعانة بهم عند الحاجة، وتحالف مع الإسبرطيين؛ حيث أرسل إليهم مددًا في حربهم ضد الفرس، وفي نفس الوقت تقدمت القوات المصرية إلى الحدود السورية واحتلت بها بعض المواقع؛ ولكن نظرًا لهزيمة أسطول إسبرطة في حربها ضد أثينا انسحبت قوات إسبرطة من الأقاليم الآسيوية، كذلك اضطرت القوات المصرية إلى التراجع نظرًا لحلول الشتاء.
ويمكن أن يقال: إن الأسرة التاسعة والعشرين بدأت بداية طيبة ولكن سوء الحالة الداخلية ظل على ما هو عليه، ولم يقدر لانتفاضة مصر في عهدها طول البقاء؛ فحينما توفي نفريتس وتبعه "أخورس" على العرش تحالف هذا الأخير مع أمراء ليبيا واليونان وقبرص ضد فارس، ومع أن مصر لم تكن لديها فرصة لتدعيم قواها فإن أخورس أرسل إلى ملك قبرص الذي كان يحارب الفرس مددًا من السفن الحربية والمؤن والمال، واستمر هذا الصراع ثلاثة أعوام؛ ولكنه لم يؤدِّ إلى نتيجة، وبعدئذ رأى قائد الأسطول الفارسي أن يتحالف مع أخورس فاستطاع هذا الأخير أن يتفرغ للإصلاحات الداخلية، ولم تلبث الحال أن تبدلت
1 انظر أعلاه ص232.
في نهاية عهده؛ حيث حدثت ثورة في سمنود بزعامة أميرها "نختنبو" الذي استطاع أن يؤسس الأسرة الثلاثين بعد أن توفي أخورس وخليفته "بساموتس" و"نفريتس الثاني"1.
ولا تذكر النصوص المصرية الكثير عن حكم "نختنبو الأول"؛ ولكن بعض مؤرخي اليونان وخاصة ديودور يسيرون إلى أن نختنبو الأول حارب الفرس وهزمهم، ولكن حروبه هذه لم تكن خارج مصر بل داخل الحدود المصرية، رغم أن نختنبو ذكر في نقوشه التذكارية قائمة ببلدان أجنبية أخضعها؛ غير أن هذه النقوش لا يمكن الأخذ بها؛ وخاصة لأننا نعلم أن الفرس بعد أن هزموا ملك قبرص وجدوا الفرصة سانحة للانتقام من مصر فتقدموا إليها، وعمد نختنبو إلى إقفال مصبات النيل السبعة وحصن كلًّا منها، كما حصن بلوزيوم إلى أقصى حد، ومع ذلك تمكن الفرس من الانتصار على المصريين في الفرع المنديسي؛ ولكنهم أرجئوا الهجوم على منف، وفي هذا الوقت حل الفيضان فساعد المصريين على المقاومة وانتصروا على الفرس الذين تراجعوا إلى بلادهم، وقد أوجد هذا الانتصار حالة من الاستقرار مكنت نختنبو من القيام ببعض الإصلاحات، وأشرك ولده "تيوس" في الحكم.
وحينما اعتلى هذا الأخير على العرش حاول تجديد التحالف مع اليونان؛ فأرسل نقودا إلى ملك إسبرطة وإلى ملك أثينا ليرسلا له جنودًا مرتزقة وتمكن بذلك من تجهيز جيش ضخم يعد أعظم ما عرفته مصر منذ أيام الدولة الحديثة، وسار على رأس جيشه إلى آسيا محرزًا انتصارات ساحقة في سورية حتى ظن أنه سيعيد الإمبراطورية إلى ما كانت عليه في عهد "نكاو"، ولكن أخاه الذي تركه في مصر خانه، وألب عليه المصريين وخاصة الكهنة الذين أحنقهم
1 Herodolus 111، 15.
استيلاء تيوس على أموالهم باستمرار لكي يدفع نفقات جيشه، ثم تمكن هذا الأخ من اغتصاب العرش، ولم يكتفِ بهذا بل استدعى ولده الذي كان يحارب مع عمه؛ فعاد إلى مصر بمعظم الجيش، كما استدعت أثينا قائدها اليوناني "كابريوس""الذي كان معه" فوجد تيوس نفسه وحيدًا واضطر إلى الفرار إلى صيدا حيث احتمى بملك الفرس.
ولما اعتلى العرش في مصر "نختنبو الثاني" الذي كان يحارب مع عمه تيوس في سورية، لم يلبث طويلًا في الحكم حتى حدثت ثورة في منديس "التي كانت مقرًّا للأسرة التاسعة والعشرين" ولولا مقدرة المرتزقة اليونانيين لضاعت الفرصة من نختنبو الثاني، ومع هذا لم يكد يبدأ تنظيم مملكته حتى تولى عرش فارس "أرتكزركسيس الثالث" الذي أراد الاستيلاء على مصر؛ ولكنه فشل في محاولاته الأولى؛ لأن نختنبو الثاني استعان بمرتزقة من الأثينيين والإسبرطيين، وقد أثر هذا النصر على سلطان أرتكزركسيس وحدثت سلسلة من الثورات في فينيقيا ربما كان يشجعها "نختنبو الثاني" مما أثار أرتكزركسيس وجعله -بعد أن يقضي على الثورات- ينظم هجومًا مخيفًا على مصر من البر والبحر، وتقدم في الدلتا سريعا ووصل أسطوله عبر مصب النيل إلى منف؛ ففر نختنبو إلى مصر العليا حيث احتفظ بملكه هناك عامين.
ولا ندري كيف انتهى عهده ولا كيف بسط الفرس سلطانهم على مصر كلها؟ وإن كان من المرجح أن إتمام فتح مصر كان عن طريق حملة ثانوية متممة للحملة السابقة، وعلى أي حال يعد أرتكزركسيس الثالث أول ملوك الأسرة الحادية والثلاثين.
وحينما توفي هذا الأخير تبعه في الملك "أرسيس" الذي استطاع أن يحكم
مصر بأكملها؛ ولكنه لم يستمر سوى ثلاثة أعوام، ثم تبعه "دارا الثالث" الذي كان تاريخه غامضًا لا يعلم عن تاريخ مصر في عهده شيئًا يستحق الذكر، ولكن من المؤكد أن المصريين كانوا في أشد الاستياء من حكم الفرس، كما نتبين ذلك من بردية كتبت في عهد البطالمة، تعرف باسم أخبار الأيام الديمقوطيقية1.
وقد حدثت ثورة في الدلتا بقيادة أحد أمرائها ويدعى "خباش" أو "خباباش" اعترف به كهنة منف ملكًا، وقد وجد في السرابيوم لوحة مؤرخة بالسنة الثانية من حكمه، كما وجدت باسمه بعض الآثار الأخرى من بينها تمثال الوالي2 وكلها تشير إلى جهوده في سبيل تحرير البلاد، ومع هذا يمكننا القول: إن تلك الجهود ذهبت عبثًا؛ لأن مصر -بالرغم من أن الإمبراطورية الفارسية كانت في طريقها إلى الزوال- لم تستقل طويلًا؛ فبعد أن هزم "دارا الثالث" في إسوس على يد الإسكندر الأكبر فقدت فارس معظم قوتها ولم تحاول الدفاع عن مصر حينما جاء إليها هذا الأخير غازيًا.
وكان الإسكندر الأكبر لبقًا؛ إذ تظاهر بمظهر المخلص لمصر من نير الفرس؛ لأن المصريين أنفسهم كانوا يتطلعون إلى ذلك؛ حيث إننا نعلم أن مصريًّا يدعى "تفنخت" من مدينة إهناسيا ذهب إلى ملك مقدونيا واستنجد
1 هذه البردية محفوظة بالمكتبة الأهلية في باريس برقم 215، وقد نشرت هي وترجمتها في مراجع مختلفة، عن هذه المراجع انظر:
Drioton & Vandier. L' Egyqte "40. ed."، P. 616.
2 Sethe، Urk II، pp. 11-22.
بالإسكندر بعد أن شاهد معركة إسوس ليخلص بلاده من الفرس، وقد أحسن هذا معاملة المصريين وأكرم آلهتهم وزار المعابد المختلفة واعترف به الكهنة ملكًا بمعبد آمون بسيوة، ومنذ ذلك الحين أصبحت مصر جزءًا من العالم الشرقي الذي تأثر بالنفوذ الإغريقي، وإن ظلت تحتفظ ببعض مظاهر حضارتها القديمة التي استهوت في بعض نواحيها كل من وفد إليها من كتاب اليونان فكتبوا عنها الكثير، وإن كانوا قد شوهوا بعض الحقائق عنها؛ لعجزهم عن إدراك بعض مظاهرها وفهمها فهمًا تامًّا.