الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُستدل من البقايا البشرية التي عثر عليها في جهات كثيرة من غرب أوروبا على أن إنسان هذا العصر كان وما زال من السلالات التي تنتمي إلى إنسان نياندرثال، ويعتقد البعض أن أعدادًا كبيرة منه هاجرت إلى أفريقيا -لاشتداد البرد- عن طريق جبل طارق ومالطة وصقلية، وانتشر هذا الإنسان إلى وادي النيل أيضًا1؛ ولكن مع هذا يبدو أنه قد انقرض تمامًا بعد هذا العصر وظهر الإنسان الحديث "أى: الإنسان العاقل Homo Sapiens" في العصر التالي أي: في العصر الحجري القديم الأعلى، ومنذ ذلك الحين أخذت الحضارة الإنسانية في التطور والتشعب إلى وقتنا هذا.
1 د. إبراهيم رزقانة "الحضارة المصرية في فجر التاريخ""القاهرة سنة 1948" ص41.
بدء الاختلاف الحضاري:
أخذت ملكات الإنسان العقلية والفنية تنمو ابتداءً من أواخر الدور الحجري القديم؛ ولكنه ظل كغيره من الكائنات التي عاشت معه يعتمد كلية على ما تجود به الطبيعة من مأوى ولباس وطعام، ونظرًا لأنه كان لا يضمن الحصول عليها بصفة دائمة فقد ظل في حركة دائبة وكان كل ما يقتنيه وما يمتلكه عائقًَا له، ولا يستثنى من ذلك ابناؤه؛ إذ لا شك في أنه كان يحدد من يتبعه منهم؛ ولذا فإن أهم تغيير طرأ على الإنسانية بدأ عندما أخذ الإنسان يتحكم في بيئته الطبيعية، وبعد أن تمكن من الاستقرار فيها حيث أصبح في الإمكان اقتناء الكثير من الأشياء والمنشآت وأصبحت الآثار الثابتة تستحق التجديد في البناء، وأمكن للأطفال أن يعيشوا في الأماكن التي يعيش فيها آباؤهم ويرثونهم ولا يحول حائل دون زيادة عددهم.
ومن العلامات المميزة لأولى مراحل الاقتصاد الزراعي: إقامة القرى المستقرة
كما أن فكرتي بذر البذور بقصد إنتاج المحاصيل وتربية صغار الحيوانات التي من أصل بري لا بد وأنهما تحققتا في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة خلال التاريخ، ويرجح كثير من الباحثين أن المشاريع والاكتشافات التي أدت إلى جعل الزراعة موردًا لمعيشة جماعة قروية مستقرة تعتمد عليها اعتمادًا كليًا قد نشأت في منطقة معينة من العالم القديم ومن ثم انتقلت هذه الأفكار الجديدة وهي بذر البذور الصالحة للزراعة والحيوانات الداجنة إلى مناطق أخرى1 عن طريق الاقتباس وانتقال الثقافة وعن طريق التحركات البشرية، وما زال الباحثون يحاولون التعرف على هذه المنطقة؛ ولكنهم لم يتوصلوا بعد إلى رأي قاطع فيما يختص بذلك، وربما كانت هذه الاكتشافات قد أخذت في الظهور في جهات مختلفة، وفي وقت واحد أو أوقات متقاربة.
ويبدو أن هذه الثورة الجديدة التي تعرف باسم ثورة الدور الحجري الحديث قد استمرت فترة طويلة، كما أنها لم تصل من موطنها أو مواطنها إلى الأماكن البعيدة في غرب أوروبا وفي شرق آسيا؛ إلا بعد فترة تقرب من ثلاثة أو أربعة آلاف سنة. والواقع أن غرب أوروبا شهد عصر البرونز ونشأة المدن الصغيرة قبل أن تصل إليه هذه الأفكار الجديدة، ولا يقصد بهذا الدور فترة زمنية محددة تقع بين تواريخ ثابتة؛ وإنما يقصد به الفترة التي تقع بين الوقت الذي كان الأفراد فيه يعتمدون على حياة الصيد والوقت الذي بدأ فيه اقتصاد يقوم على استخدام كامل للمعادن، أي: إنه يدل على الفترة التي نشأت فيها الزراعة وانتشرت ببطء في كثير من جهات أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا.
واقتصاد الدور الحجري الحديث يعتمد بصفة عامة على زراعة مختلطة بالرعي؛ فأقدم المواقع الأثرية التي عثر عليها من هذا العصر كانت تعتمد على كل من استئناس الحيوان وزراعة الحبوب ولم يعثر على موقع يستدل منه على
1 انظر ص38.
وجود أيهما مستقلًّا عن الآخر، أو أن أهل هذا الموقع اعتمدوا في حياتهم على أحدهما فقط. ومع أن الجماعات التي تعتمد على الرعي وحده تنتشر في العالم الآن؛ إلا أنه لا شك في أن حياة الرعي لم تستقر كنظام يتبع إلا في فترة متأخرة نسبيًّا، أي: بعد مرور بضعة آلاف من السنين على وجود أول مجتمع اعتمد في حياته على الزراعة المختلطة بالرعي.
ومع أن ممارسة الزراعة والمعيشة في قرى مستقرة تعد أولى علامات ثورة الدور الحجري الحديث إلا أن مظاهر حضارية أخرى غالبًا ما تشترك معها ولا بد من الإشارة إليها كمميزات عامة لحضارة الدور الحجري الحديث، ومن هذه: الفئوس المصقولة المصنوعة من الصخور النارية أو الصوان والمنجل المستقيم أحيانًا؛ على أن صناعة الفخار والنسيج سرعان ما برزت أهميتها، وأصبحت أهم ما أوجدته حضارة الدور الحجري الحديث؛ ولكنها مع ذلك من المميزات الثانوية التي تعد من مقتضيات حياة الزراعة بما فيها من جديد.
وكان لا بد لإنسان الدور الحجري الحديث بعد أن يبذر بذوره من أن تتعلق آماله بما تجود به الطبيعة؛ ولذا كان من السهل أن يعتقد أن الأرض ما هي إلا إلهة للخصب والنماء، وتطلع إلى ما حوله من كائنات بحثًا عمن يحاكي هذه الأرض الطيبة؛ فلم يجد خيرًا من الأم الرءوم تحنو على أبنائها، وهكذا شبه الأرض بالأم وتعبد إليها؛ حيث رمز إليها بتماثيل في هيئة آدمية على شكل امرأة في غالب الأحيان، أو في هيئة الحمام أحيانًا1.
وبالطبع لم يقف التطور الحضاري عند الدور الحجري الحديث؛ بل أخذ الإنسان ابتداء من هذا الدور يسرع الخطا نسبيًّا في تطوره الحضاري؛ لأن حياة الزراعة هيأت للإنسان الطمأنينة والأمن أكثر من ذي قبل، إذ كفلت له الرزق
1 كما حدث في سورية في دور بداية استخدام المعادن.