الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن المرجح أن هذه الصناعة استمرت في مصر فترة أطول من استمرارها في أوروبا؛ ولكنها أخذت تتطور وتنوعت أدواتها لتفي بأغراض الإنسان المتزايدة وصغرت في حجمها واتخذت أشكالًا هندسية أي: إن الصناعة في مصر في أواخر هذا العهد تميزت بمميزات خاصة؛ ولذا أطلق عليها اسم الصناعة الموستيرية المصرية أو "ما قبل السبيلية"1.
والواقع أن هذه الحضارة تمثل مرحلة مبكرة من حضارة الدور الحجري القديم الأعلى في مصر، ويرى البعض أن الحضارة العاطرية "التي ظهرت صناعاتها في الواحات الخارجية والفيوم خلال هذا الدور" ما هي إلا مظهر من مظاهر الحضارة الموستيرية المصرية؛ بينما يرى فريق آخر من الباحثين أن الحضارة السبيلية هي التي تعد مظهرًا من مظاهر الحضارة العاطرية وأنها ظهرت بعدها؛ ولكن لا يمكن تأكيد أي الرأيين بصفة قاطعة.
ولم يعثر على بقايا يستدل منها على جنس الإنسان الذي عاش في مصر خلال هذه الفترة وإن كان من المرجح أن الإنسان الحديث كان قد أخذ يعيش في وادي النيل بالفعل، كما يستدل على ذلك من أدواته المتقدمة التي تركها خلافًا لما عرف في أوروبا؛ حيث ظل إنسان نياندرثال يعيش في كهوفها طوال هذا العصر، ولكنه انقرض بعد ذلك وحل محله الإنسان الحديث في العصر التالي أي: الدور الحجري القديم الأعلى.
1 الحضارة السبيلية نسبة إلى قرية السبيل قرب كوم أمبو وسنشير إلى هذه الحضارة فيما بعد، انظر ص57-59.
3-
الدور الحجري القديم الأعلى:
ازداد التباين بين أوروبا وأفريقيا؛ فبينما أخذت البرودة تشتد في أوروبا ظل المناخ في إفريقيا ملائمًا لأن يعيش الإنسان في الهواء الطلق؛ ولكنه أصبح أقل
أمطارًا وأكثر جفافًا من فترة الحضارة الموستيرية؛ فانخفض مستوى الماء في الأنهار والمجاري المائية وقلت الحياة النباتية وتبدلت أنواع الحيوانات في مساحات واسعة من العالم القديم وأخذ الإنسان في هجرها؛ إذ رأى أنها تتحول إلى صحارى مجدبة فحصر إقامته في الأماكن القريبة من مجاري المياه، ولم يترك إنسان إفريقيا في هذا الدور آثارًا تعادل في مستواها من الناحية الفنية تلك التي تركها زميله المعاصر له في أوروبا، ولم تتعدد مظاهر حضاراته في المناطق المختلفة التي وجدت بها كما حدث في أوروبا؛ بل سادت كل شمال أفريقيا حضارة واحدة هي الحضارة القفصية "نسبة إلى قفصة في شمال تونس" التي استمرت إلى ما بعد الدور الحجري القديم الأعلى، أي: إلى ما يقابل الدور الحجري المتوسط؛ إلا أن مصر -نظرًا لظروف بيئتها الخاصة- انفردت في حضارتها بمظاهر مميزة؛ مما دعا إلى تسميتها باسم "الحضارة السبيلية" وإن كانت في واقع الأمر متفرعة عن الحضارة القفصية. ويرى البعض أن الحضارة القفصية قد مرت بأربع مراحل تتفق الثلاثة الأولى منها وأقسام الدور الحجري القديم الأعلى، أما المرحلة الرابعة والأخيرة؛ فقد عبروا عنها باسم مرحلة الانتقال إلى الدور الحجري الحديث، أي: أنها تتفق والدور الحجري المتوسط. كما يرى البعض تقسيم الحضارة السبيلية في مصر إلى ثلاث مراحل تقابل حضارات الدور الحجري القديم الأعلى والدور الحجري المتوسط في أوروبا، أي: أن المرحلة الأخيرة منها تمتد إلى ما يقابل الدور الحجري المتوسط، ومهما كان الأمر فإن الآلات التي اتخذت في هذه الحضارة كانت صغيرة على العموم، وتغلب فيها الأشكال الهندسية "شكل9"، ولدقة هذه الآلات أطلق عليها اسم الآلات الميكروليثية "Microlithie"، وقد كشف عن عدة مواقع تنتمي إلى هذه الحضارة في مصر، ومن أهمها قرية السبيل التي نسبت إليها هذه الحضارة كما سبقت الإشارة إلى ذلك1.
1 انظر أعلاه ص55.