المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأسرة التاسعة عشرة: - معالم تاريخ الشرق الأدني القديم

[محمد أبو المحاسن عصفور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌محتويات الكتاب

- ‌قائمة بالأشكال والرسوم:

- ‌الاختصارات الواردة بالكتاب:

- ‌الفصل الأول: منهج التاريخ:

- ‌الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها

- ‌مدخل

- ‌أولاً في الدور الحجري القديم الأسفل

- ‌مدخل

- ‌ الحضارة الأبفيلية:

- ‌ الحضارة الأشولية:

- ‌ثانيًا: في الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌الحضارة الموستيرية:

- ‌بدء الاختلاف الحضاري:

- ‌التطور الحضاري والشرق الأدنى:

- ‌الفصل الثالث: مصر

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية

- ‌الدور الحجرى القديم

- ‌الدور الحجرى القديم الأسفل

- ‌ الدور الحجري القديم الأوسط:

- ‌ الدور الحجري القديم الأعلى:

- ‌ الدور الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجرى الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارات الوجه القبلي:

- ‌حضارات الوجه البحري:

- ‌عصر ما قبل الاسرات

- ‌مدخل

- ‌التوقيت المتتابع أو التأريخ التتابعي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه القبلي:

- ‌حضارات ما قبل الأسرات في الوجه البحري:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌عهد الدولة القديمة

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الأولى:

- ‌الأسرة الثانية:

- ‌الأسرة الثالثة:

- ‌الأسرة الرابعة:

- ‌الأسرة الخامسة:

- ‌الأسرة السادسة:

- ‌عصر الاضمحلال الأول

- ‌مدخل

- ‌الأسرة السابعة:

- ‌الأسرة الثامنة:

- ‌ملوك إهناسيا "الأسرتان التاسعة والعاشرة

- ‌ الدولة الوسطى:

- ‌منتوحتب الأول:

- ‌منتوحتب الثاني:

- ‌منتوحب الثالث

- ‌الأسرة الثانية عشر

- ‌أمنمحات الأول:

- ‌سنوسرت الأول:

- ‌أمنمحات الثاني:

- ‌سنوسرت الثاني:

- ‌سنوسرت الثالث:

- ‌أمنمحات الثالث:

- ‌أمنمحات الرابع:

- ‌عصر الاضمحلال الثاني

- ‌مدخل

- ‌الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌الأسرة الرابعة عشرة:

- ‌ عهد الدولة الحديثة:

- ‌إجلاء الأجانب وتكوين الإمبراطورية:

- ‌الأسرة الثامنة عشرة:

- ‌الأسرة التاسعة عشرة:

- ‌الأسرة العشرون:

- ‌ عصر الاضمحلال الثالث:

- ‌الأسرة الحادية والعشرون ونفوذ الكهنة:

- ‌مصر تحت حكم الأجانب:

- ‌الصراع الأشوري النبتاوي على مصر:

- ‌عصر النهضة المؤقتة

- ‌الأسرة السادسة والعشرون

- ‌عهد الفوضي الأخير

- ‌الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون

- ‌الفصل الرابع: بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌العصر قبل التاريخي

- ‌مدخل

- ‌مصادر تاريخ بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌ المصادر غير العربية:

- ‌ أهم الجهود الأثرية:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القسم الجنوبي:

- ‌بلاد اليمن:

- ‌ثانياً القسم الشرقي

- ‌مجان

- ‌ دلمون أو تلمون "البحرين

- ‌الفصل الخامس: الاقليم السوري

- ‌مدخل

- ‌أولاً العصور قبل التاريخية

- ‌العصر الحجرى القديم

- ‌العصر الحجري القديم الأسفل

- ‌العصر الحجري القديم الأوسط:

- ‌العصر الحجري القديم الأعلى:

- ‌ العصر الحجري المتوسط:

- ‌ العصر الحجري الحديث:

- ‌ دور بداية استخدام المعادن "عصر النحاس والحجر

- ‌ثانياً العصور التاريخية

- ‌الدول التي أثرت في تاريخ سوريا

- ‌الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية

- ‌مدخل

- ‌أولًا- العناصر السامية:

- ‌ثانيًا- العناصر غير السامية:

- ‌الفصل السادس: آسيا الصغرى

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌الدور الحجري القديم:

- ‌الدور الحجري الحديث:

- ‌دور بداية استخدام المعادن:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌الدولة القديمة:

- ‌عصر الإمبراطورية:

- ‌الممالك الحيثية الجديدة:

- ‌سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون

- ‌الحيثيون في فلسطين:

- ‌الفصل السابع: العراق

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌ العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري الحديث

- ‌مدخل

- ‌حضارة جرمو:

- ‌حضارة حسونة:

- ‌حضارة سامراء:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌حضارة حلف:

- ‌حضارة العبيد:

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌حضارة جمدة نصر:

- ‌العصر التاريخى

- ‌مدخل

- ‌السومريون

- ‌مدخل

- ‌عصر فجرات الأسرات

- ‌الساميون

- ‌مدخل

- ‌سرجون الأول:

- ‌خلفاء سرجون:

- ‌ عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية

- ‌ تنافس الأموريين والعيلاميين "سيادة مدينتي أيسين ولارسا

- ‌ مملكة أشنونا:

- ‌ البابليون:

- ‌الدولة البابلية الأولى:

- ‌مملكة بابل الثانية "دولة أرض البحر

- ‌مملكة بابل الثالثة "الدولة الكاشية

- ‌الأشوريون

- ‌مدخل

- ‌ العهد الأشوري القديم:

- ‌ العهد الأشوري الوسيط:

- ‌ العهد الأشوري الحديث:

- ‌ العهد البابلي الأخير "المملكة الكلدانية

- ‌الفصل الثامن: إيران

- ‌مدخل

- ‌العصور قبل التاريخية:

- ‌العصر الحجري القديم:

- ‌العصر الحجري المتوسط:

- ‌العصر الحجري الحديث:

- ‌عصر بداية استخدام المعادن:

- ‌فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام:

- ‌العصر التاريخي

- ‌مدخل

- ‌ عيلام:

- ‌‌‌ الإيرانيون:الميديون والفرس:

- ‌ الإيرانيون:

- ‌الميديون:

- ‌الأخمينيون "الفرس

- ‌ملحق تاريخي

- ‌المختار من المراجع العامة:

- ‌فهرس أبجدي:

الفصل: ‌الأسرة التاسعة عشرة:

‌الأسرة التاسعة عشرة:

حور محب:

سبق أن أشرنا إلى أنه كان قائد الجيش وأنه وصل إلى مكانة ممتازة، وكانت تؤهله لأن يكون أنسب رجال عصره لاعتلاء العرش بعد "توت عنخ آمون" لولا أن "آي" كان فيما يبدو ممن يمتون بصلة القرابة للبيت المالك.

والظاهر أن حور محب قضى معظم حياته قبل اعتلاء العرش في مدينة منف، وفي أثناء الفترة التي كان فيها قائدًا للجيش بنى لنفسه مقبرة فيها، ولم يعثر من هذه المقبرة إلا على بعض أحجار قليلة.

وقد شاهد الفوضى التي سادت عهد إخناتون وظلت آثارها عقب وفاته؛ ولكنه أظهر ولاءه وإخلاصه للعرش في أكثر من مناسبة، وخاصة في عهد "توت عنخ آمون" ونال لديه حظوة كبيرة، وحينما مات الملك "آي" لم يكن هناك من هو أكفأ منه، وأراد أن يكتسب شرعية اعتلائه للعرش، فتزوج من الأميرة "موت نزم" التي يظن أنها كانت أخت نفرتيتي.

ولما تولى الملك كانت الفوضى ما زالت ضاربة أطنابها والفساد منتشرًا في كافة الشئون؛ ولذا حرص كل الحرص على إزالة أسبابها؛ فسَنَّ القوانين ووضع من التشريعات ما ينص على محاربة الرشوة ومنع الظلم والقسوة وخاصة فيما يتعلق بمعاملة الرقيق وصغار المواطنين، وحرم تعطيل أي أمر من الأمور التي تتعلق باقتصاديات الدولة، كما حرم السرقة واستغلال العمال أو الفلاحين في العمل دون موافقة سادتهم، وقد فرض أقسى أنواع العقوبات على كل من يرتكب إحدى الجرائم، كذلك أصدر أمره بعمل كثير من الإصلاحات الإدارية وأصلح المحاكم وتشدد في عقوبة القضاة الذين يحيدون عن العدالة ونظم أمور الجيش ووضع نظامًا دقيقًا للبروتوكول.

ص: 183

وربما كان في استطاعته أن يوجه نشاطه نحو الشئون العسكرية وأن يقوم ببعض الحملات الحربية؛ ولكنه آثر أن يتفرغ للإصلاح الداخلي؛ فعقد معاهدة بينه وبين ملك الحيثيين حتى يتجه بكليته إلى محاربة الفساد الداخلي الذي كان منتشرًا في كافة الميادين، حتى إن بعض السرقات حدثت في المقابر الملكية ولذا أمر بالتفتيش عليها، وكان من نتيجة ذلك أن أعيدت محتويات مقبرة "توت عنخ آمون" بعد اكتشاف سرقتها، وكدست محتويات المقبرة فيها على عجل، ثم ختمت بختم الجبانة بعد إغلاقها للمرة الأخيرة إلى أن تم الكشف عنها، كذلك أمر حور محب بإصلاح المعابد وترميمها، وبنى لنفسه مقبرة في وادي الملوك تعد من أكبر مقابر طيبة.

ولا بد أنه نجح فيما كان يهدف إليه من استتباب الأمن والقضاء على الفساد؛ لأن مصر تمكنت بعد ذلك من العودة إلى نشاطها الخارجي، واستطاعت أن تحصل على انتصارات باهرة.

وقد حكم حور محب نحوًا من ثلاثين عامًا ولم يترك وريثًا للعرش، والظاهر أن رجال الجيش كانوا قد سيطروا على البلاد؛ لأننا نجد أن الذي يخلفه على العرش وهو رعمسيس الأول كان هو الآخر من قواد الجيش قبل أن يتولى الملك.

رعمسيس الأول:

كان هذا الملك من مدينة صان الحجر التي كانت مقرًّا لعباده الإله "ست" وكان قائدًا من قواد الجيش كما سبق أن أشرنا، وكذلك كان ولده الذي تلاه في الحكم من القواد أيضًا، وكان كل منهما يشغل مركز الوزير.

ومع أن حكم رعمسيس الأول لم يتجاوز العامين؛ إلا أنه امتاز بالنشاط في تشييد المباني وبالحزم في إدارة البلاد، وقد بنى معبدًا في بوهن، ويحتمل

ص: 184

أن ذلك كان على إثر حملة قام بها إلى السودان في السنة الثانية من حكمه.

سيتي الأول:

كان سيتي عند موت أبيه قد تجاوز سن الشباب، وقد تقلد عدة وظائف في عهد حور محب كما أصبح ساعد والده الأيمن في أثناء حكمه؛ ولذا سار في سياسته على نهجه وأمر بإتمام ما لم يتمه من المباني وبإصلاح الآثار المخربة التي لم يتم إصلاحها. وقد حدثت ثورة في بداية عهده على حدود مصر الشرقية استطاع أن يخمدها ونقش تفاصيل انتصاراته على جدران معبد الكرنك؛ حيث بين فيها أنه هزم بدو سيناء وجنوب فلسطين، والظاهر أن بعض الولايات قد أصابتها عدوى الثورة بعد ذلك بتحريض من مملكة الحيثيين، وتجمعت جموع الثائرين في مدن مختلفة تمهيدًا للاجتماع في مكان سري يقومون منه بثورتهم الجماعية؛ إلا أن سيتي أحبط محاولتهم، إذ أرسل لكل مدينة فرقة من فرق الجيش وتم له النصر؛ فخضعت له فلسطين وفينيقيا وجنوب سورية، ثم حدثت ثورة في ليبيا أسرع بتأديبها على حدود مصر الغربية، ومن المرجح أن ذلك كان في السنة الثانية من حكمه.

والظاهر أن سيتي تكهن بأن الحالة ستظل سيئة في آسيا طالما استمرت دولة الحيثيين في دسائسها ضد مصر؛ ولذا سار للقاء الجيوش الحيثية ودارت بينه وبينهم معركة في شمال قادش عاد منها إلى مصر منتصرًا؛ ولكن يبدو أن هذا الانتصار لم يكن حاسمًا ولم يقضِ على قوة الحيثيين وإن كان قد أوقف مؤامراتهم ضد مصر في الولايات السورية.

ص: 185

وتشير النقوش التي نقشت على بعض آثاره إلى أنه أخضع نارهارينا "أي: أعالي الفرات" والمملكة الحيثية وألاسيا "قبرص"؛ ولكن يبدو أنه نقل هذه الأسماء من النقوش القديمة وخاصة تلك التي تبين انتصارات تحتمس الثالث وعلاقاته مع تلك الجهات. ويشير نص مؤرخ بالسنة الرابعة أو الثامنة إلى أنه قام بحملة إلى النوبة أخضع فيها بعض أجزائها ولكن يشك في ذلك أيضًا1، وحتى مع فرض قيامه بهذه الحملة إلى النوبة؛ فإنها كانت قليلة الأهمية بالنسبة لحملاته الأولى في آسيا، ولتلك التي وجهها ضد الليبيين.

ومن المحتمل أنه عقد معاهدة مع ملك الحيثيين احترم فيها كل فريق حدود الفريق الآخر، وساد السلام بينهما، وبذلك تمكن سيتي من التفرغ للإصلاحات الداخلية، فشيد الكثير من المباني2 التي امتازت بالروعة وجمال النقوش وبعضها يعد من أجمل ما تركه الفراعنة من آثار، وقد اهتم سيتي باستغلال المناجم والمحاجر وخاصة مناجم الذهب، وإلى عهده ترجع أقدم وثيقة جغرافية في التاريخ؛ حيث توجد بردية في متحف تورين مبين عليها موقع منجم الذهب القريب من معبد الراديسية، وقد بينت في هذه الخريطة الطرق المختلفة وبعض المعلومات التي تساعد على التعرف على الطريق المؤدية إلى تلك المناجم، كذلك أمر سيتي بحفر كثير من الآبار في الصحراء لمساعدة المسافرين إلى مناطق استغلال المعادن والمحاجر.

هذا وقد حكم سيتي الأول سبعة عشر عامًا مات في أثنائها ولي عهده؛ ولذا اعتلى العرش من بعده ولده الثاني رعمسيس الثاني.

1 JEA. 25، p. 142.

2 من هذه مقبرته ومعبده في البر الغربي للأقصر ومعبد أبيدوس وغيرها.

ص: 186

رعمسيس الثاني:

حظي رعمسيس الثاني بشهرة لم يحظ بمثلها أي فرعون آخر؛ نظرًا لأن حكمه الطويل -الذي بلغ نحوًا من 67عامًا- هيأ له الفرصة لتشييد عدد ضخم من المباني التي خلدت اسمه في التاريخ.

وفي أول عهده أمر بإتمام المباني التي كان والده قد بدأها، ومن أهم هذه معبد أبيدوس الذي نقشت به لوحة الأجداد المشار إليها عند الكلام على المصادر التاريخية1 ومعبد القرنة2، كذلك أقام بعض المباني المختلفة مثل الرامسيوم ومعبده في الأقصر فضلًا عما شيده في الكرنك وفي جهات أخرى من مصر والنوبة، كما نجح في حفر بئر في الطريق المؤدية إلى مناجم الذهب بالنوبة.

ومن المحتمل أن مملكة الحيثيين عملت على نقض المعاهدة التي سبق أن أبرمتها مع مصر في عهد والده، حيث أخذت هذه المملكة في تشجيع أمراء سورية على الثورة؛ مما جعل رعمسيس الثاني يذهب إلى آسيا في السنة الرابعة3 من حكمه ويوطد مركزه هناك ويطمئن على خطوط مواصلاته وعلى حاميات الموانئ، ثم رجع مصر؛ حيث أخذ يعد العدة لمقابلة الجيوش الحيثية التي توقع الاصطدام بها في سورية. وبالمثل أخد ماتيلا -ملك الحيثيين- يستعد لملاقاته فضم إلى قواته كثيرًا من قوات أمراء وملوك المنطقة، الذين أرادوا التخلص من سلطان

1 انظر أعلاه ص90.

2 هو المعبد الجنزي الذي بناه على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر.

3 يشير رعمسيس الثاني في لوحة عثر عليها في أسوان إلى أنه في السنة الثانية من حكمه قضى على الآسيويين والحيثيين وبابل وأجانب الشمال التمحو والنوبيين؛ ولكن يبدو أنه لم يقم في هذه السنة بأي حملة إلا إلى النوبة فقط انظر: "Breasted، A R III، 45، 478-479".

ص: 187

مصر، كما استعان بكثير من الجنود المرتزقة، وجمع كل هذه القوات في قادش استعدادًا للقاء رعمسيس الثاني الذي استعان هو الآخر بالجنود المرتزقة، وتقدم في السنة الخامسة من عهده نحو عدوه وكان يجهل الموقع الذي تجمعت فيه الجنود الآسيوية؛ فلما وصل إلى وادي نهر العاصي قبض رجاله على جاسوسين زعما أن ملك الحيثيين قد تقهقر بجيوشه نحو حلب، وكان جيش رعمسيس الثاني مقسمًا إلى أربع فرق يقود إحداها بنفسه؛ فلما علم رعمسيس بما زعمه الجاسوسان أسرع في تقدمه خلف عدوه إلى الموقع المزعوم دون أن ينتظر أن تلحق به بقية الفرق؛ فلما عبر نهر الأورنت "العاصي" عسكر بجيشه أمام قادش بينما كان ملك الحيثيين وحلفاؤه يختفون وراء التلال المجاورة لها، وسرعان ما علم هؤلاء بوصول رعمسيس الثاني فقاموا بحركة التفاف حول المدينة إلى الجهة الأخرى من النهر، وما إن أخذت الفرقة الثانية من فرق الجيش المصري في عبور النهر إلا وعبر من خلفها هؤلاء المتحالفون وهاجموها على غرة؛ فأصاب الذعر رجالها وجعلوا يفرون إلى المعسكر المصري طلبًا للنجاة وتتبعهم رجال الحيثيين؛ حيث أذهلت المفاجأة رجال الفرقة المصرية المعسكرة التي كان يقودها رعمسيس بنفسه، ولم يجد رعمسيس بدًّا من الاندفاع في الهجوم بفلول فرقتيه دفاعًا عن نفسه، ومع أن كثيرًا من رجال الفرقتين تخلوا عن الدفاع عنه إلا أن البقية الباقية التفت حوله كحرس خاص حينما شاهدوا شجاعته الفائقة وثبتت قلوبهم والتحموا مع العدو، وفي تلك الأثناء وصلت نجدة من شباب فلسطين المجندين تحت إمرة بعض الضباط المصريين، وبذلك أنقذ الملك ورجاله من كارثة محققة وخاصة لأن جيوش المتحالفين كانت قد أخذت في الانشغال عن القتال الصحيح، واتجهت للسلب والنهب في معسكر المصريين.

ومع أن القتال انتهى في ذلك اليوم بنجاة الفرعون ورجاله إلا أن النصر

ص: 188

لم يكن حاسمًا لأي من الفريقين، وقد وصلت الفرقتان الأخيرتان من جيش رعمسيس بعدئذٍ إلى ميدان المعركة وتحفز الجميع لمعركة فاصلة في اليوم التالي؛ ولكن ملك الحيثيين عرض الصلح واتفق الطرفان على عقد معاهدة يحترم فيها كل منهما حدود الآخر، ولا يتدخل في شئون رعاياه.

وقد عاد رعمسيس بجيوشه إلى مصر ولم يستول على قادش كما كان يأمل، أي أن الإمبراطورية المصرية أصبحت قاصرة على فلسطين ولبنان والجزء الجنوبي من سورية وبعض الموانئ، ومع ذلك فقد أذاع في طول البلاد وعرضها بأنه انتصر على أعدائه وأباد منهم عشرات الألوف، ووضعت قصيدة نقشت على كثير من آثاره وهي تصف معركة قادش وشجاعة رعمسيس في قتاله وحيدًا ضد جيش المتحالفين وانتصاره عليهم بفضل مساعدة الإله آمون له. ويجب ألا يغيب عن الذهن أن ادعاء رعمسيس الثاني الانتصار يتنافى مع الواقع، ومن المعقول أنه إذا كان هناك انتصار مصري على الإطلاق؛ فإنما يتمثل ذلك في نجاة الملك فحسب، ومما يؤيد ذلك أن المصادر الحيثية تشير -على العكس من ذلك- إلى انتصار خاتوسيل "ملك الحيثيين" وإلى هزيمة المصريين، ولا شك في أن شواهد الأحوال تدل على أن المصادر الحيثية أصدق من المصادر المصرية فيما يختص بهذه الموقعة، وخاصة لأن الحيثيين كانوا يحاولون السيطرة على مملكة الأموريين؛ ولكن ملكها بنتشينا وقف إلى جانب مصر ولم يخضع لتهديد الحيثيين وحلفائهم؛ فلما نشبت المعركة اختفى اسم بنتشينا كملك على الأموريين وحل محله سابيلي الذي اعترف بسيادة الحيثيين، وهذا يؤكد أن النصر كان حليفهم.

ولا بد أن هذه المعركة كانت ذات أثر كبير؛ لأنها هزت النفوذ المصري في آسيا هزًّا عنيفًا؛ فلم يكد يمضي عامان حتى كانت فلسطين قد ثارت على مصر، وامتدت الثورة حتى وصلت الحدود المصرية نفسها؛ فسارع رعمسيس إلى إخماد

ص: 189

الثورة وأخضع فلسطين كلها من جديد، كما أخضع بلاد الأموريين لسلطانه واستولى على حصن دابور وعلى مدينة تونيب وامتد سلطان مصر إلى فينيقيا، وربما فرض رعمسيس سيادته كذلك على جزر البحر المتوسط حيث أشار إليها على جدران معبد الرامسيوم ضمن البلاد التي أخضعها، وإن كان يبدو أنه تغالى كثيرًا؛ إذ دون أسماء بعض الأقطار التي يحتمل أنها خطبت وده بالهدايا، على أنها أصبحت خاضعة له.

وقد استقرت الأمور في آسيا بعض الوقت؛ ولكن حدث أن نشب نزاع عائلي على العرش في البيت المالك الحيثي، وكان هذا النزاع حافزًا لرعمسيس على التدخل لمصلحة أحد المتنازعين؛ ولكن منافسه فاز بالعرش، وفي نفس الوقت أخذت مملكة آشور تظهر على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا، وبدأت تبسط سلطانها على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا، وبدأت تبسط سلطانها على ما جاورها؛ وعندئذٍ رأى خاتوسيل "الملك الحيثي الذي تمكن من الوصول إلى العرش" أن يكتسب صداقة مصر حتى يتفرغ للصراع ضد آشور؛ فعقد معاهدة صلح مع رعمسيس الثاني في السنة الحادية والعشرين من حكم هذا الأخير، وقد كتبت هذه المعاهدة على لوح من الفضة بالخط المسماري، وترجمت إلى اللغة المصرية في نسختين وجدت إحداهما بالكرنك والثانية بالرامسيوم، كما عثر على الأصل الحيثي في بوغاز كوى، وهي تنص على تأكيد الصداقة بين مصر وخيتا وألا تعتدي إحداهما على الأخرى وأن تسلمها المجرمين الفارين من بلادها، واستشهدت كل من المملكتين على التمسك بنصوص هذه المعاهدة بآلهة بلادها العظمى، وقد ظلت تلك المعاهدة قائمة يحترمها الجانبان وزاد من توثيقها فيما بعد أن رعمسيس تزوج في السنة الرابعة والثلاثين من حكمه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من الوصيفات الآسيويات، وانتهز والدها والكثيرون من رجاله فرصة هذه المناسبة وقدموا لزيارة مصر، وبذلك حل السلام بين البلدين إلا أنهما تعرضا لمتاعب أخرى فيما بعد

ص: 190

حيث نشب النزاع العائلي من جديد في البيت المالك الحيثي، ثم انهارت دولتهم أمام ضغط عناصر هندو أوروبية تدفقت من أواسط آسيا في عربات ضخمة تجرها الثيران، وقد توفي رعمسيس الثاني قبل أن تهدد هذه العناصر مصر تهديدًا مباشرًا؛ فكان الدفاع عنها من نصيب ولي عهده مرنبتاح، على أن خطرها على مصر لم ينتهِ بعد ذلك تمامًا بل تجدد في عهد رعمسيس الثالث الذي تمكن من كفاحهم ودحرهم.

ومما تجدر ملاحظته أن رعمسيس الثاني مات بعد أن بلغ من العمر أكثر من تسعين عامًا، ولما كان مولعًا بتخليد أعماله؛ فقد أتاح له حكمه الطويل فرصة تشييد عدد من الآثار المعمارية يفوق ما شيده أي فرعون آخر، وكان بعض المؤرخين يرى أنه لم يكن صاحب الفضل في إقامة كل هذه العمائر؛ إلا أننا نلاحظ أنه رغم اغتصابه لآثار بعض من سبقه من الملوك، قد أقام من الآثار عددًا أكبر مما أقامه أي فرعون آخر، وكان نشاطه في ذلك لا يقف عند حد؛ فلا نكاد نجد منطقة أثرية في مصر دون أن يرد فيها اسمه كما أنه أكثر الملوك نشاطًا في إقامة المعابد في النوبة، التي تميزت في معظمها بالموقع الفريد وروعة التصميم وتتجلى عظمتها بصفة خاصة في معبدي "أبو سمبل".

والظاهر أن كثرة مشاغله في آسيا قد جعلته يؤمن بأن طيبة كعاصمة ذات موقع لا يتناسب مع الظروف الدولية القائمة فهي شاسعة البعد عن مجريات الأحداث العالمية؛ ولذا أنشأ عاصمة جديدة في شرق الدلتا أطلق عليها اسم "بررعمسيس" وما زال المؤرخون مختلفين في تحديد موقعها على وجه الدقة، كذلك نجد أنه أنشأ مدينة عسكرية في هربيط أدخل فيها عبادة شخصه وهو حي.

وكان رعمسيس الثاني مزواجًا تزوج بالكثيرات، ومنهن بعض بناته

ص: 191

وقد أنجب كثيرًا من الذكور والإناث لم يجمع المؤرخون على عددهم، وقد مات كثير من أبنائه الذكور أثناء حياته ومنهم أكبر أبنائه؛ فلم يخلفه على العرش إلا ولده الخامس عشر وهو مرنبتاح الذي كان -مع ذلك- يقرب من الستين من عمره حينما تولى العرش.

ولا شك في أن رعمسيس الثاني يعد مسئولًا إلى حد كبير عن كثير من عوامل الضعف التي انتابت البلاد وكانت لها آثارها فيما بعد؛ فتورطه في الاستعانة بالجنود المرتزقة الأجانب كان ذا أثر بعيد؛ إذ إن خلفاءه تغالوا في استخدامهم فضعفت الروح العسكرية لدى المصريين، حتى إن فرقة من الجيش المصري في نهاية الدولة الحديثة كانت لا تضم سوى خمسمائة من المصريين من مجموع أفرادها الذين يبلغون الألفين، في حين أن بقية أفرادها كانوا من الليبيين والنوبيين ومن شعوب البحر المتوسط، وقد زاد زواجه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من امتزاج الدماء المصرية بالدماء الآسيوية وخاصة في القصر الملكي بين كبار رجالات الدولة وأضعف الروح المصرية الخالصة، كذلك كان لتشييده عاصمة جديدة في الدلتا -مع بقاء طيبة متمتعة بالسيادة الدينية كمقر للإله الرسمي في الإمبراطورية- أثره في ابتعاد السلطة الدينية عن الإشراف الفعلي للسلطة الزمنية؛ مما أتاح الفرصة للكهنة كي يستغلوا نفوذهم بعيدين عن الرقابة الإدارية، كما كان في قرب بررعمسيس -العاصمة السياسية- من مواطن الصراع في الشرق الأدنى "مع ظهور قوة فتية في غربي آسيا" تهديد دائم لأمن الدولة وسلامتها، ومما زاد الحالة سوءًا شدة ولع رعمسيس الثاني بإقامة المباني الضخمة ومغالاته في الإكثار منها؛ حيث أدى هذا إلى إنهاك موارد الدولة واستنفادها، وفوق ذلك كله كان امتداد أجل رعمسيس الثاني نفسه إلى أن أصبح شخصًا مسنًّا للغابة سببًا في عجزه عن القيام بأعباء دولته على الوجه الأكمل؛ ولذا يمكن أن يقال: إن رعمسيس الثاني ترك لخلفائه إمبراطورية قد أصابها الوهن وأصبحت في طريقها إلى الانهيار.

ص: 192

مرنبتاح:

سبق أن ذكرنا أن مرنبتاح كان يقرب من الستين من عمره حينما اعتلى العرش ومع هذا فقد كان ملكًا عالي الهمة، لم تحل شيخوخته دون قيامه بجهود مشكورة في سبل المحافظة على إمبراطوريته؛ فلما قامت ثورة في آسيا في السنة الثالثة من حكمه لم يتوانَ في إخمادها وسجل ذلك على لوحة ورد بها اسم إسرائيل لأول مرة؛ مما دعا إلى الزعم بأنه هو الفرعون المقصود في قصة موسى الواردة في الكتب السماوية، ولكن لا يمكن تأييد هذا الزعم لعدم وجود وثائق تاريخية كافية لتأكيده1، وسواء قام بإخماد هذه الثورة بنفسه أو أرسل أحد قواده فإن اهتمامه بالقضاء عليها يدلنا على أنه لم يشأ التهاون في حق مصر أو التفريط فيه.

وقد أنقذ مرنبتاح مصر من الهجوم الشامل الذي شنه عليها الليبيون وحلفاؤهم في السنة الخامسة من حكمه، وكان الهجوم على ما يبدو نتيجةً لهجرات

1 ما زالت الاختلافات كبيرة بين المؤرخين بشأن تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر؛ فبعضهم يرى أنه تم في عهد الهكسوس، وبعضهم يرى أنه تم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وحتى في هذا يختلفون؛ فمنهم من يعتقد أنه حدث في عهد تحتمس الثالث، ومنهم من يظن أنهم أخرجوا من مصر في عهد أمنحتب الثاني أو الثالث، ومنهم من يرى أنهم خرجوا على إثر ثورة إخناتون الدينية، كما أن منهم من يرى أنهم خرجوا في عهد مرنبتاح؛ حيث يرجح أنهم أخذوا يتذمرون في أواخر عهد رعمسيس الثاني "فرعون في الكتاب المقدس"؛ لأنهم كانوا طائفة لا تميل إلى الأعمال الشاقة التي تطلبتها مبانيه العديدة، وسخر لها العديد من أفراد الشعب ولم يستثنهم من ذلك، كما أنهم لم ينجحوا في الخروج من مصر إلا في عهد مرنبتاح كما أشرنا.

ص: 193

بعض الشعوب الهندو أوروبية التي تجمعت على ساحل إفريقيا الشمالي، ثم اتجهت مع القبائل الليبية إلى أن وصلوا إلى منطقة في غرب الدلتا وتوغلوا فيها حتى اقتربوا من كفر الزيات؛ إلا أن مرنبتاح تمكن من هزيمتهم هزيمة ساحقة حتى فروا على أثرها، ووقع منهم آلاف الأسرى في أيدي المصريين، والظاهر أن فلول الليبيين اتجهت نحو الجنوب بغية الوصول إلى وادي النيل في منطقة النوبة؛ ولكن المصريين استطاعوا أن يردوهم كذلك.

ولم يطل حكم مرنبتاح أكثر من ثماني سنوات مات بعدها، وترك العرش فريسة للاختلافات العائلية التي نشبت بسبب كثرة عدد الأمراء الذين أنجبهم رعمسيس الثاني، وقد أدى هذا إلى اغتصاب البعض للعرش ولم يحدث في عهدهم ما يستحق الذكر سوى أن أحدهم وهو مرنبتاح سابتاح ذهب في حملة إلى النوبة لتثبيت حاكمها في منصبه عندما قامت هناك ثورة ضده، ومن هذا نستنتج أن النوبة ظلت على صلتها بمصر، وأنها كانت من الأهمية؛ بحيث انتقل إليها الفرعون بنفسه لكي يثبت حاكمها في منصبه، كما يدل ذلك من جهة أخرى على أن الحكم المصري لم يكن ليقابل فيها دائمًا بالرضا؛ وإنما كان أحيانًا يجد معارضة شديدة إما من النوبيين أنفسهم أو من رجال الإدارة المصريين الذين كان يرأسهم ذلك الحاكم.

وأواخر عهد هذه الأسرة يمثل فترة غامضة لا نعلم عنها إلا أسماء بعض الملوك ومدة حكم كل منهم، ومنها نتبين أن غالبيتهم لم يحكموا سوى فترة قصيرة جدًّا وما زال ترتيب حكمهم مشكوكًا فيه، بل ولا نعرف كذلك كيف انتهت هذه الأسرة؛ وإنما يبدو أن الفساد قد عم أنحاء البلاد وتفاقمت الحالة بسبب وجود عدد كبير من المرتزقة الذين كانوا يتقاضون أجورا باهظة ويتطلعون دائمًا إلى الاشتراك في الحروب جريًا وراء الأسلاب والغنائم، ولما فقدت مصر مستعمراتها في آسيا نقصت إيراداتها وعجزت عن إرضائهم، وخاصة بعد أن زال

ص: 194