الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم، وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضارّ، المتصرف في خلقه بما يشاء، وتلك المخلوقات هي نعم إلهية على الإنسان، سواء في البر والبحر، ودلائل القدرة الإلهية، فهو تعالى الذي يزجى الفلك في البحر، وينجي من الغرق، ومن تمام نعمته: تكريم الناس ورزقهم وتفضيلهم على جميع الخلق، مما يستوجب الإفراد بالعبادة.
التفسير والبيان:
ربكم اللطيف بعباده هو الذي يوفر مصالح خلقه ويسهل لهم سبل الحياة، فيجري ويسيّر لكم السفن في البحر بمختلف القوى كالريح أو الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية، لنقل الأشخاص للسياحة أو للارتزاق بين بلاد الدنيا، ونقل البضائع والسلع التجارية من إقليم إلى إقليم، وطلب الرزق من فضل الله، إنه كان بكم رحيما، أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.
ومن رحمته تعالى وفضله ما أخبر به: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ.} . أي وإذا أصابكم أيها الناس ضر أو شدة وجهد في البحر، ذهب عن تصوراتكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من دون الله من صنم أو ملك أو بشر إلا إياه سبحانه، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لسواه لكشف الضر عنكم.
وذلك كما حدث لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين فتح مكة، وركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتها ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه:
والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤفا رحيما، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
{فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي فلما أمنتم وأنقذكم، وأوصلكم إلى شاطئ البر والسلامة، واستجاب دعاءكم، أعرضتم، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه، وعدتم إلى الإشراك به.
وعلة ذلك ما قال تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً} أي وكانت سجية الإنسان وطبعه أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله تعالى.
ثم ناقشهم تعالى محذرا من جحود النعمة فقال:
{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ.} . أي أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقام الله وعذابه، بأن يخسف بكم جانب البر الذي تقطنون فيه بتغييبه في باطن الأرض، أو أن يرسل عليكم حاصبا، وهو المطر الذي فيه حجارة من السماء أو الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار، كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} أي لا تجدون بعدئذ ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه، ومن يتوكل بصرف ذلك عنكم. وجانب البر: ناحية الأرض.
والحاصب أخبر تعالى عنه في آيات، مثل:{إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر 34/ 54] ومثل {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر 74/ 15].
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ..} . أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا، بعد ما اعترفتم في البحر بتوحيدنا، وخرجتم إلى البر، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية، فيرسل عليكم وأنتم راكبون في السفن ريحا قاصفا تقصف السواري، وتغرق
المراكب، فالقاصف: ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها، ولها قصيف أي صوت شديد، كأنها تتقصف أي تتكسر.
{فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ} أي يغرقكم بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.
{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً} أي نفعل ما نفعل بكم، ثم لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا، انتصارا منا، ودركا للثأر من جهتنا، أي لا تجدوا أحدا يأخذ بثأركم بعدكم. وقوله {تَبِيعاً} أي نصيرا يأخذ بالثأر، أو يطالب بالحق.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَلا يَخافُ عُقْباها} [الشمس 15/ 91]. وفي قوله وعيد شديد وتهديد بسوء العاقبة.
ومن تمام نعمة الله وفضله ورحمته تكريم الإنسان في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.} . أي ولقد كرمنا بني آدم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا
(1)
، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحناهم السمع والبصر والفؤاد للفقه والفهم، وجمّلناهم وميزناهم بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى الصناعات والزراعات والتجارات، ومعرفة اللغات، ويفكرون في اكتشاف خيرات الأرض، والإفادة من الطاقات، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلي، وما في الكون من وسائل النقل وأسباب الحياة والمعيشة، والتمييز بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.
وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي الوقت الحاضر على القطارات والطائرات وغيرها، وفي البحر أيضا على السفن الكبيرة والصغيرة، وهو حمل لا يصح لغير بني آدم بإرادته وقصده وتدبيره.
ورزقناهم من الطيبات، أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، والخلاصة: أن
(1)
وهذا كرم نفي النقصان، لا كرم المال.