الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى:{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال سفيان: وهذه أشدّ من الأولى.
{قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فقال الخضر بيده هكذا-أي أشار بيده-فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال الخضر:{هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر، حتى يقص الله علينا من أخبارهما» .
التفسير والبيان:
هذه هي القصة الثالثة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وهي تلتقي أيضا مع ما ذكره الله تعالى من تشبيه الحياة الدنيا بماء السماء، وتفاخر الناس بالمال والبنين، كما تلتقي معهما في نبذ الافتخار والتكبر والتعالي على الآخرين، ليكون ذلك درسا بليغا وعظة لرؤساء قريش الذين طلبوا تخصيص مجلس لهم، وطرد الفقراء والمستضعفين من الجلوس معهم في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفة وكبرياء واستعلاء، فقال تعالى:
{وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ..} . أي واذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين، ولو أني أسير حقبا أي دهرا من الزمان. والحقب: ثمانون أو سبعون سنة، والمراد: زمان غير محدود من الدهر.
والمقصود بموسى في رأي أكثر العلماء هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة.
وفتاه: هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان خادما لموسى، ويسمى الخادم فتى في لغة العرب.
و {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} : هو مكان اجتماع البحرين وصيرورتهما بحرا واحدا، وهما في رأي الأكثرين بحر فارس والروم، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب، وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي، أي ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق عند طنجة.
وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر.
{فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أي فلما وصلا مجمع البحرين مكان اللقاء مع العبد الصالح، نسيا حوتهما، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، وغطاه الماء، حتى صار كالقنطرة عليه، وكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا.
{فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} أي فلما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي اليوم التالي في ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه:
آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.
وذلك أن موسى كان قد أمر بحمل حوت مملّح معه، وذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، وسار هو وفتاه، حتى بلغا مجمع البحرين، وكان الحوت في مكتل (قفة) مع يوشع عليه السلام، فسقط في البحر، وجعل يسير في الماء.
وعودة الحياة للحوت بعد موته كانت معجزة لموسى عليه السلام، علامة على مكان وجود الخضر. والخضر: هو لقب العبد الصالح الذي أمر موسى بالتعلم منه، واسمه بليا بن ملكان، والأصح أنه لم يكن نبيا.
أي قال له فتاه: أرأيت
(1)
أي أخبرني ما وقع لي حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من أمر الحوت، فإنه قد اضطرب وعاد حيا ووقع في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا. والمراد بالنسيان: اشتغال قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي من فعله.
{قالَ: ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ} أي قال موسى: هذا هو الذي نطلب؛ لأنه أمارة الفوز بما نقصد.
{فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً} أي رجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما،
(1)
همزة أَرَأَيْتَ همزة الاستفهام، ورَأَيْتَ على معناه الأصلي، وإدخال الهمزة عليه للتعجب، فإن المتعارف بين الناس أنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه: أرأيت ما حدث لي؟
ويقفوان آثرهما. قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة عليها.
{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً، قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أي وجد موسى وفتاه عند الصخرة في مجمع البحرين حين عادا إليها عبدا صالحا من عباد الله، قال الأكثرون: إن ذلك العبد هو الخضر، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟! وقوله: {وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً} يدل على أن تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير وساطة.
فقال: أنا موسى، قال: موسى بن إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أصحبك وأرافقك لتعلمني مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح؟ وهذا سؤال تلطف وأدب، لا إلزام فيه ولا إجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
فأجابه الخضر: {قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي قال الخضر لموسى: إنك لن تقدر على مصاحبتي، ولن تطيق صبرا ما تراه مني؛ لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علمكه لا أعلمه، وكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فلا تقدر على صحبتي.
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي وأؤكد لك أنك لن تصبر على شيء تراه مني، ولم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة وحقيقة أمره التي اطلعت أنا عليها دونك. فقوله:{خُبْراً} أي لم يحط به خبرك، ولم تلمّ بوجه الحكمة فيه وطريق الصواب.
{قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} أي قال موسى:
ستجدني بمشيئة الله صابرا على ما أرى من أمورك، ولا أخالفك في شيء.