الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لطائف الشرائع على الإنسان، وإعراضه عنه تكبرا، ثم رد على اليهود والمشركين المعرضين عن الإيمان، السائلين عن الروح تعنتا وتعجيزا.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الأولى بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها، والمعنى: أيها الرسول، أدّ الصلاة المفروضة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط، من بعد زوال الشمس إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل الصلوات الأربعة: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. والدلوك: ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ووسطها وقت الظهر. وإنما وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد أمته أيضا لمكانة المأمور به وهو الصلاة.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي وأقم صلاة الفجر، وتلك هي الصلاة الخامسة. وقد أبانت السنة المتواترة من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله مقادير أوقات الصلاة بدءا وانتهاء، على النحو المعروف اليوم.
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء في وقت تبادل المهام والوظائف. وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة؛ لأنها ركن، كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. ويجوز أن يكون {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة
(1)
.
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» .
(1)
الكشاف: 243/ 2
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
وقد يكون المراد بقوله {مَشْهُوداً} الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة، والمعنى كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة، أو شهود كمال قدرة الله تعالى، من اختلاط الظلمة بالضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، وينتقل العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت بالمنام إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود
(1)
.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} هذا فرض آخر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو صلاة التهجد، والمعنى: قم للصلاة في جزء من الليل وهو أول أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة (المكتوبة).
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «صلاة الليل» ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد:
ما كان بعد نوم. وثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتهجد بعد نومه.
وقوله {نافِلَةً لَكَ} أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، مخصوصة بك دون الأمة، وهي فريضة عليك خاصة، دون غيرك، وأما أمتك فهي لهم مندوبة أو تطوع لهم. وهذا هو الراجح. وقيل: المراد أن قيام الليل في
(1)
تفسير الرازي: 28/ 21
حقه صلى الله عليه وآله وسلم نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما غيره من أمته فإن النوافل تكفّر ذنوبهم. ورد ابن جرير هذا القول؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مأمورا بالاستغفار {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً} [النصر 3/ 110] وكان صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في الاستغفار في اليوم على مائة مرة، وكلما اشتد قرب العبد من ربه، كلما زاد خوفه منه، وإن كان السيد قد أمّنه، وذلك مقام يعرفه أهله.
{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} أي افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، كما قال ابن كثير.
وأجمع المفسرون-كما ذكر الواحدي-على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وهو-كما ذكر ابن جرير-مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة للشفاعة بالناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
وكلمة {عَسى} في كلام العرب تفيد التوقع، وهي هنا للوجوب؛ لأنها تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه، كان غارّا، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فهذه الكلمة من الكريم إطماع محقق الوقوع، وهي من الله باتفاق المفسرين واجب.
والمقام المحمود: هو المكان المرموق، والمركز المعلوم المعدّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كما بينا مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، أما
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيقول:
«أنا لها أنا لها» ، فيشفع بالخلق جميعا لتقديمهم للحساب، وتخليصهم من وهج الشمس الشديد التي تدنو من الرؤوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار.
روى مسلم بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه» .
وروى النسائي والحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلّم نفس إلا بإذنه، فينادي: يا محمد، فيقول: لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهديّ: من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل» .
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر» .
وبمناسبة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة أنزل الله: {وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ..} . أي وقل يا محمد داعيا: ربّ أدخلني في الدنيا والآخرة إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله، وأخرجني إخراجا مرضيا حسنا، مكللا بالكرامة، آمنا من السخط، يستحق الخارج منه أن يوصف بأنه صادق.
وهذا يشمل كل مدخل للنبي وكل مخرج كدخوله المدينة وخروجه من مكة، ودخوله القبر وخروجه منه للبعث، ودخوله مكة فاتحا وخروجه منها آمنا.
وخصص بعضهم الآية بأنها نزلت حين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة، يريد إدخال
المدينة والإخراج من مكة، أو إدخاله مكة منتصرا فاتحا وإخراجه منها آمنا من المشركين.
{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً} أي واجعل لي حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ناصرا للإسلام على الكفر، ومظهرا له عليه، قال الحسن البصري: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له.
وقد أنجز له وعده، وأجيبت دعوته، فتحقق له العصمة الشخصية:
{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة 67/ 5] وانتشار الإسلام وتفوقه على الأديان كلها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة 33/ 9] وانتصار الدولة والملك:
{فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} [المائدة 56/ 5]{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور 55/ 24].
وطلبه السلطة والملك ليس لشهوة السلطة وإنما لحماية حرمات الإسلام؛ لأنه لا بد للحق من قهر لمن عاداه وناوأه، وناصر وحام له، لذا قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ..} . الآية [الحديد 25/ 47] فقرن الله بين الرسالة والبيان وبين الحديد والقوة، وفي الأثر عن عثمان:«إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع.
ثم هدد كفار قريش وأوعدهم بقوله: {وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ} أي وقل للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا مرية فيه، وهو الإسلام، وما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع، واضمحل وهلك الباطل وهو الشرك،
فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء، كما قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} [الأنبياء 18/ 21].
{إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} أي إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، غير ثابت في كل وقت.
وقد تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية حين كسر الأصنام، وهو يفتح مكة.
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول:{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} ، {جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} [سبأ 49/ 34].
وقال الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وحول البيت ثلاث مائة وستون صنما تعبد من دون الله، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأكبّت على وجوهها، وقال:
{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} .
ثم أخبر الله عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه شفاء ورحمة، فقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ والإلحاد، والجهل والضلالة، فالقرآن يشفي من ذلك كله؛ وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدقه واتبعه؛ لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من العذاب،
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» .
{وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً} أي لا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله؛ لتأصل الكفر في نفسه.
ونظير الآية: {قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} [فصلت 44/ 41] وأيضا قوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} [التوبة 124/ 9 - 125].
قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه {وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً} أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
ثم يخبر الله تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله فقال:
{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} أي وإذا أمددنا الإنسان بنعمة من مال وعافية ورزق ونصر ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، وهذا تأكيد للإعراض؛ لأن الإعراض: التولي بالوجه، والنأي بالجانب: لوي الجانب وتولية الظهر، والمراد بذلك الاستكبار والتباعد؛ لأن ذلك عادة المتكبرين.
{وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً} أي وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. والآية مثل قوله تعالى:{وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس 12/ 10]. وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود 9/ 11 - 10].
{قُلْ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} قل يا محمد: كل أحد يعمل على مذهبه وطريقته التي تشاكل وتشبه حاله من الهدى والضلالة.