الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا..} . أي وما منع أكثر الناس ومنهم مشركو مكة أن يؤمنوا بالله، ويتبعوا الرسل، حين مجيء الوحي المعجز الذي يستهدف الهداية والإسعاد والنجاة إلا استغرابهم وتعجبهم من بعثة البشر رسلا، غير متصورين كون الرسول من جنس البشر المرسل إليهم، وأنه كان لا بد من أن يكون من الملائكة، وهذا تحكم فاسد وتعنت باطل. والآية مثل قوله تعالى:
{أَكانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ} [يونس 2/ 10] وقوله سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا} ؟ [التغابن 6/ 64]. والآيات في هذا كثيرة.
ثم أجابهم الله تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، وعلى منطق الأمور، فقال:{قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ.} . أي قل لهم يا محمد: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفقهوا عنه ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف لجنسه، ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معه حول أحكام التشريع وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة، كما قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} [الأنعام 9/ 6].
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، لذا قال تعالى:
{كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة 151/ 2] وقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران 164/ 3] وقال عز وجل: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة 128/ 9].
والخلاصة في معنى الآية: إنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون عليها مطمئنين فيها، كما أنتم أيها البشر فيها، لنزلّنا عليهم من عالم السماء رسولا من جنسهم، وأنتم البشر رسولكم منكم، لكن يمكن أن يكون البشر رسولا لغير البشر، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول إلى الإنس والجن؛ لأنه يمكنهم تلقي الوحي عنه وفهم الخطاب منه. وأما تلقي النبي الوحي من جبريل عليه السلام فهذا يتطلب استعدادا خاصا لا يتهيأ لغير نبي أو رسول.
ثم أرشد الحق تعالى إلى حجة أخرى هي:
{قُلْ: كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي إن القول الفصل بيني وبينكم، وإقامة الحجة الدامغة عليكم أن الله شاهد علي وعليكم، وحكم بيني وبينكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة 44/ 69 - 46] وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} [الأنعام 21/ 6].
{إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي إن الله سبحانه عليم بأحوال عباده، يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وخبير بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الضلالة، مطلع على ما في قلوبهم، فهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن قبول الحق. وفي ذلك تهديد ووعيد، وإيناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم يخبر الله تعالى عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، فقال:
{وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.} . أي من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب.
والمقصود إيناس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية،
لعلمه السابق بأنهم صائرون لذلك لميل نفوسهم إلى الحق، وجب أن يصيروا مؤمنين؛ لأن علم الله لا يتغير، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل، لما علم الله منهم سوء الاختيار، والإصرار على الغواية والضلال، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال، كما قال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} [الكهف 17/ 18].
ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له، أي إن الإنسان، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله، أو الضلال والشك، كما بيّن تعالى:{إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ: إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً} [الدهر 3/ 76]{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد 10/ 90].
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور، مسحوبين على وجوههم، كما قال تعالى:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ} [القمر 48/ 54] عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صمّا لا يسمعون، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، كما قال تعالى:
{وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء 72/ 17] قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكما وعميا وصما عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك.
أخرج الشيخان وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «قيل:
يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم».
وأخرج الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم» وفي معناه
أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد، قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار».
{مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} أي منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، بأن تأكل جلودهم ولحومهم وتفنيها، فيسكن لهبها، ثم يبدلون غيرها، فترجع ملتهبة مستعرة، ويتكرر الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم بالبعث، كما قال تعالى:
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذاباً} [النبأ 30/ 78].
وعلة تعذيبهم ما قال تعالى: {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.} . أي إن ذلك الجزاء والعقاب الذي جازيناهم به من البعث عميا وبكما وصمّا هو جزاؤهم الذي يستحقونه على كفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم آياته أي أدلته وحجته على وجوده ووحدانيته وعلى البعث، وعلى قولهم منكرين وقوع البعث: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا بالية وترابا منتشرا، نعود خلقا جديدا آخر؟ أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في أنحاء الأرض، نعاد مرة ثانية؟ فنبههم الله على قدرته على البعث بأنه خلق السموات والأرض، فقال:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.} . أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي أبدع خلق السموات والأرض على غير مثال سبق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك:{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ} [غافر 57/ 40]، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها} [النازعات 27/ 79] فدل هذا على أن خلق الإنسان أو إعادته أهون وأيسر من خلق السموات والأرض، وأن الإعادة أهون عليه من الابتداء.
لكن للبعث والقيامة أو الموت وقتا محددا، فقال تعالى:{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} أي وجعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا معينا، ومدة مقدرة، لا بدّ من انقضائها، وبعد مضي تلك المدة تكون القيامة أمرا محتما لا شكّ فيه.
{فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً} أي وبالرغم من إقامة تلك الحجة الدامغة عليهم أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وجحودا للثابت الصحيح، وإنكارا للبعث.
وسبب عدم إجابتهم لمطالبهم من القصور والجنات والعيون هو الشح، فقال الله تعالى:{قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.} . أي قل لهم يا محمد:
لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، أي الفقر، كما قال ابن عباس، أي خشية الزوال والذهاب والنفاد والفراغ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم.
{وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} أي بخيلا منوعا، كما قال سبحانه:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً} [النساء 53/ 4]. أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله تعالى، لما أعطوا أحدا شيئا، ولا مقدار نقير، وهو الخيط في