الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة الغلام:
{فَانْطَلَقا، حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ} أي ثم خرجا من السفينة، وسارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما-وهذا يشمل الشاب البالغ-يلعب مع الغلمان، فقتله بفتل عنقه أو بضرب رأسه بالحائط، أو بغير ذلك، فقال موسى:
أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس أي بغير قصاص؟ وخص موسى هذه الحالة من مبيحات القتل؛ لأنها أكثر وقوعا.
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} أي لقد أتيت شيئا منكرا. والنكر في حال القتل أعظم قبحا من الإمر في حال خرق السفينة؛ لأن قتل النفس أعظم جرما من خرق السفينة؛ إذ قد لا يحصل الغرق.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه رحلة موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مع فتاه يوشع عليهما السلام للقاء العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام، لتعليمه التواضع في العلم، وأنه وإن كان نبيا مرسلا، فقد يكون بعض العباد أعلم منه.
وفي هذا من الفقه: رحلة العالم لطلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقطارهم، كما كان دأب السلف الصالح.
ونفع هذه القصة بوجه خاص في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار: هو أن موسى عليه السلام، مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه، ذهب إلى الخضر، لطلب العلم مع التواضع له، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر.
ونفع هذه القصة مع قصة أصحاب الكهف: هو أن اليهود قالوا لكفار
مكة: إن أخبركم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه القصة فهو نبي، وإلا فلا، مع أنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع، كذلك لم يمنع كون موسى عليه السلام نبيا صادقا من عند الله أن يأمره الله بالذهاب إلى الخضر، ليتعلم منه.
ودل قوله: {آتِنا غَداءَنا} على تعليم الناس اتخاذ الزاد في الأسفار، ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى، فهذا موسى نبي الله وكليمه قد اتخذ الزاد، مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.
وكان انقلاب الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام، وعلامة على مكان وجود العبد الصالح، لذا قال موسى فرحا لما أخبره فتاه بالأمر:{ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ} أي قال موسى لفتاه: أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا إليه موجود هناك.
والعبد الصالح على الصحيح هو الخضر، وهو نبي في رأي جماعة كثيرين بدليل ما يأتي
(1)
:
1 -
أنه تعالى قال: {آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} والرحمة هي النبوة؛ لقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف 32/ 43] وقوله: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص 86/ 28].
2 -
قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً} وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى.
(1)
تفسير الرازي: 148/ 21، تفسير القرطبي: 16/ 11.
3 -
قال موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً} والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم.
والراجح أن الخضر لم يكن نبيا وإنما هو عبد صالح كما قرر علماء الكلام (التوحيد). والاستدلال بهذه الأدلة ضعيف، أما الدليل الأول: فلا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وأما الدليل الثاني: إن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدل على النبوة. وأما الدليل الثالث: فلا مانع يمنع النبي من اتباع غير النبي في العلوم التي لا تتعلق بالنبوة.
ودل قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً} على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه؛ لأن الفضل لمن فضله الله، فإن كان الخضر وليا فموسى أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى فضله الله بالرسالة. ولقد كان موسى عليه السلام محقا في إنكاره على العبد الصالح؛ لأن الأنبياء لا يقرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير، لذا علّق صبره على ما يحدث من أمر في المستقبل على مشيئة الله، وأنه لا يدري كيف يكون حاله، لا أنه عزم الصبر على المعصية.
وقد ذكر الرازي في قول موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر، ذكر منها اثني عشر نوعا، منها: أنه جعل نفسه تبعا له، واستأذن في هذه التبعية، وأقر على نفسي بالجهل بقوله {تُعَلِّمَنِ} وعلى أستاذه بالعلم، وصرح بأنه يطلب الإرشاد والهداية.
وكان قول الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، تأديبا وإرشادا لما يقتضي دوام
الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق.
وفي خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، كأن يخاف ظالما على ما يملكه، فيخرّب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض.
وفي قول موسى {لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، ولو نسي مرة ثانية له أن يعتذر أيضا.
وقتل النفس أشد من خرق السفينة، لذا قال موسى في القتل:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} وقال في الخرق {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} والنكر أعظم قبحا من الإمر، كما تقدم.
وكان عتاب الخضر في المرة الثانية أشد، لقوله {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} وزيادة {لَكَ} لزيادة التأنيب والتقريع على عدم الصبر في المرة الثانية.
ويأتي تمام القصة وما يستنبط منها في الجزء التالي بمشيئة الله.
تم هذا الجزء ولله الحمد