الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{الْحَمْدُ لِلّهِ..} . يحمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ أخرج الناس من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، فمعنى قوله:{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
والحمد معناه: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى. والله تعالى محمود على كل حال، ويحمد نفسه أحيانا عند فواتح السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم.
{قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.} . أي مستقيما، وأتى بهذه الصفة بعد نفي الاعوجاج للتأكيد، فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والاختبار. وقيل: معناه: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع.
{لِيُنْذِرَ} أي ليخوف الذين كفروا بالكتاب عذابا شديدا، وعقوبة عاجلة في الدنيا وهو النكال، وآجلة في الآخرة وهو نار جهنم. وقوله:{مِنْ لَدُنْهُ} أي صادرا من عند الله تعالى.
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} بهذا القرآن، الذين دعموا إيمانهم بالعمل الصالح، أن لهم مثوبة جميلة عند الله، وهي الجنة دار المتقين الأبرار، ودار الخلود أبدا للمحسنين الأخيار، فالأجر الحسن: الجنة.
{ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي مستقرين في ثوابهم عند الله وهو الجنة إلى الأبد، وخالدين فيه دائما، لا زوال له ولا انقضاء.
{يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا..} . أي ويحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا، وهم مشركو العرب الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، واليهود الذين اتخذوا عزيرا ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.
وإنما خصّ ذكر هؤلاء مع دخولهم في الإنذار العام المتقدم للكافرين، للدلالة على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
{ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ} أي ما لهم ولا لآبائهم أي أسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه وهو اتخاذ الولد لله أو الوالد، وإنما هو صادر عن جهل مفرط وتقليد للآباء، ومن تسويل الشيطان. وانتفاء العلم بالشيء: إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلا للعلم به.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} أي عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال:
{إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً} أي ما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور، ولا حقيقة له أصلا.
ثم سرّى الله تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام وواساه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه بقوله:
{فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ.} . أي فلعلك قاتل نفسك ومهلكها لأن لم يؤمنوا بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، ولعل هنا للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى النهي، أي لا تهلك نفسك أسفا لعدم إيمانهم، ولا تقتلها غضبا
وجزعا وحزنا عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. والآثار جمع أثر أي على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وللآية نظائر كثيرة منها: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [فاطر 8/ 35] ومنها: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء 3/ 26] ومنها: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ} [النحل 127/ 16].
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية زائلة، وأنها دار اختبار لا دار قرار، فقال:
{إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها..} . أي إنا جعلنا ما على الأرض من زخارف الدنيا من إنسان وحيوان ونبات ومعادن ومنازل ومباهج ومفاتن زينة زائلة لها ولأهلها، لنعاملهم معاملة المختبرين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب. وحسن العمل: الزهد في الدنيا، وترك الاغترار بها، وجعلها وسيلة وجسرا للآخرة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» .
ثم ذكر الله تعالى سبب التوجيه بالإعراض عن الكفار، فقال:
{وَإِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً} أي وإنا لنصير الأرض وما عليها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فقوله:{صَعِيداً جُرُزاً} يعني كالأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها، بعد أن كانت خضراء معشبة. وذلك مثل قوله تعالى:{فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه 107/ 20]. والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. والجرز في اللغة: اليابسة التي لا تنبت، أو الأرض التي لا نبات فيها.