الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ} تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، لا ليعرفهم، بل ليأمر فيهم. {صَفًّا} مصطفين، كل أمة صف، لا يحجب أحد أحدا. {لَقَدْ جِئْتُمُونا} على إضمار القول على وجه يكون حالا، أي قائلا أو عاملا في {يَوْمَ نُسَيِّرُ} . {كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي فرادى حفاة عراة، لا شيء معكم من المال والولد، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى} [الأنعام 94/ 6].
{بَلْ زَعَمْتُمْ} أي ويقال لمنكري البعث ذلك، و {بَلْ}: للخروج من قصة إلى أخرى.
{أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} وقتا للبعث والنشور، لا نجاوز الوعد.
{وَوُضِعَ الْكِتابُ} أي جعل كتاب كل إنسان في يده حين الحساب، في يمينه للمؤمنين وفي شماله للكافرين. {مُشْفِقِينَ} خائفين. {وَيَقُولُونَ} عند معاينتهم ما فيه من السيئات.
{يا وَيْلَتَنا} {يا} : للتنبيه، و {وَيْلَتَنا}: هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، أي يا هلاك أقبل، فهذا أوانك. {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} من ذنوبنا. {إِلاّ أَحْصاها} عدّها وأثبتها، وهو تعجب منه في ذلك. {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً} مثبتا في كتابهم، أو مسطورا في كتاب كل واحد منهم. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب، فلا يعاقب أحدا بغير جرم، ولا ينقص من ثواب مؤمن.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خساسة الدنيا وزوالها، وشرف القيامة ودوامها، وأن التفاخر ليس بالأموال، بل بالعمل الصالح، أردفه بأحوال القيامة، وما فيها من أخطار وأهوال، وتغير معالم الأرض والحشر، والعدل المطلق في رصيد أعمال الناس جميعا بكتب وصحائف شاملة، يتبين منها أن أساس النجاة: هو اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أهوال القيامة وما فيها من الأمور العظام وهي:
1 -
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ.} . أي واذكر يا محمد حين نذهب بالجبال من أماكنها، ونزيلها، ونبددها كالسحاب هباء منثورا، كما قال تعالى:
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً} [طه 105/ 20] وقال:
{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} [الواقعة 5/ 56 - 6] وقال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ} . [المعارج 8/ 70 - 9] أي كالصوف المندوف المنفوش.
وهذا يدل على تبدل الحال، وتغير الوضع الذي كان في الدنيا، وإزاحة الجبال من مواضعها، وجعلها هباء منتشرا كالسحاب.
2 -
{وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً} أي وتنظر أيها الإنسان جميع الأرض ظاهرة بادية، ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم في صعيد واحد، صافون أمام ربهم، لا تخفى عليه خافية. وهذا معنى قوله تعالى في آية نسف الجبال السابقة:{فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه 106/ 20 - 107] أي تصبح الأرض سطحا مستويا، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ولا جبل ولا وادي.
هذان الأمران تسيير الجبال وتسوية الأرض متعلقان بشأن الدنيا.
3 -
{وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب وجمعناكم إلى الموقف، فلم نترك منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال تعالى:{قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة 49/ 56 - 50] وقال: {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود 103/ 11].
أخرج الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا
(1)
، فقلت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
(1)
غرلا، أي غير مختونين، والغرلة: القلفة.
وفي رواية للنسائي: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» وهذا الأمر يدل على إثبات الحشر.
4 -
{وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي ويعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، كما قال سبحانه:{وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر 22/ 89].
لقد أتيتم إلينا أيها الناس جميعا أحياء، كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معكم، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى، كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام 94/ 6].
وهذا تقريع لمنكري المعاد، وتوبيخ لهم أمام الناس، وهو إثبات لمبدأ العرض للحساب على الله تعالى، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم:
{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أنه كائن.
5 -
{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ} أي ووضع كتاب الأعمال: أعمال الناس من خير أو شر، صغير أو كبير، فترى العصاة المجرمين خائفين مما فيه من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة. والمراد بالكتاب: الجنس، وهو صحف الأعمال.
{وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا، مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} أي ويقول أولئك المجرمون: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا، وما لهذا الكتاب لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها، فهو شامل لكل شيء، كما قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ} [ق 17/ 50 - 18]. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ} [الانفطار 10/ 82 - 12].
والآية تدل على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين.
{وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً} أي ووجد الناس ما عملوا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، وقيل: جزاء ما عملوا، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران 30/ 3] وقال سبحانه: {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة 13/ 75].
{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ليس في حكم الله أي ظلم لخلقه؛ إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهي المطلق، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إنه تعالى بمقتضى رحمته يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء من خلقه بقدرته وحكمته وعدله، فيخلّد الكفار في نار جهنم، ويعذب العصاة فيها، ثم ينجّيهم منها، وحكمه في كل حال العدل، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، فلا يكتب على إنسان ما لم يعمل، ولا يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم.
ونحو الآية: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} [النساء 40/ 4]، {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [الأنبياء 47/ 21].
وهذه الآية تبين خاتمة مراحل الحساب بين يدي الله، القائم على مبدأ: أن الجزاء من جنس العمل، وأن صحائف أعمال الناس تشمل الحسنات والسيئات.