الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث، كما تنازعوا في عددهم، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم:{قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} .
والخلاصة: إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى؛ لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها، وتستند إلى الشائعات، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض، وخفي من أحوال أهلها.
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} هذا من صيغ التعجب والمبالغة، أي إن الله تعالى لبصير بهم، سميع لهم، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب، كأنه قيل:
ما أبصره وأسمعه، أي ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
{ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير.
{وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أي أن الله تعالى له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس، وليس له شريك ولا مشير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي:
1 -
ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة، وأدل على قدرة الله عز وجل، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.
2 -
كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة،
روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم» .
3 -
لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين:{رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً} أي آتنا مغفرة ورزقا، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب.
وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم، أما الزمان الذي كانوا فيه: فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح.
وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين، ويقال: إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس، وهو الظاهر.
4 -
كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (309) سنوات
إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع؛ لأن النائم إذا سمع انتبه، ثم بعثتهم من بعد نومهم، ثم اطلاع الناس على شأنهم.
وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم، وقوله {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} معناه: لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان: الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية.
5 -
إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان: أنهم آمنوا بالله، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح؛ من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار: {رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً} .
وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم، فقال بعضهم: هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟! 6 - لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم: إذ اعتزلتم قومكم، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة.
7 -
كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال، أي عن يمين الكهف وعن شماله، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا؛ لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم، وهو
نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فينسب إلى الله تعالى.
8 -
يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة،
ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان» .
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك: هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع: هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع.
9 -
ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم، إنه كلب أحب قوما، فذكره الله معهم.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال:«فأنت مع من أحببت» .
وأكثر المفسرين: على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه، أو غنمه، واسم «قطمير» كلب أنمر، والصحيح أنه زبيري.
10 -
ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم
آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ.
11 -
بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم، فقال بعضهم:
{لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وقال آخرون: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ} .
12 -
دل قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً.} . الآية على مشروعية الوكالة، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم، فيقتلوهم بالحجارة، وهو أخبث القتل.
والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام،
وقد وكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهما.
والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة في ذلك؛ إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفّه، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة، مثل قوله تعالى:{وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} [التوبة 60/ 9] وقوله: {اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا} [يوسف 93/ 12].
والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له، وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه، وقال:«ان خيركم أحسنكم قضاء» .
13 -
تضمنت هذه الآية: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ.} . أيضا جواز الشركة؛ لأن الورق كان لجميعهم، كما تضمنت جواز الوكالة؛ لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى:{وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} [البقرة 220/ 2].
14 -
أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور، والحساب.
15 -
إن اتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، غير جائز في شرعنا، لما
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج» .
ويجوز الدفن في التابوت، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة، وقد دفن دانيال ويوسف عليهما السلام في تابوت، وكان تابوت دانيال من حجر، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا.
16 -
قوله تعالى: {سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} تنبيه على أن هذا العدد هو الحق؛ لسكوت النص على التعقيب عليه، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين:{رَجْماً بِالْغَيْبِ} .
وقوله سبحانه {قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} أمر دال على أن يردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم عدّتهم إلى الله عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.
وقوله {فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاّ مِراءً ظاهِراً} دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم، فلهذا قال:{إِلاّ مِراءً ظاهِراً} أي ذاهبا، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن، كما جاء في آية أخرى.
وفي قوله سبحانه {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
17 -
السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى؛ للآية {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} .
والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، بأن يقول:
إن شاء الله.
ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين، سنة أو أقل، أو أكثر.
18 -
أخبر تعالى في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ..} . عن مدة لبث أهل الكهف، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات، كانوا في هذه المدة نياما، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عز وجل، كما أمر بذلك في معرفة عددهم؛ لأن الله تعالى أعلم بكل شيء، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات، ولا شريك له ولا مشير، ولا نصير ولا معين ولا وزير.
والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة، لم يطرأ عليها البلى والفناء؛ لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى.
19 -
العبرة من القصة: دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة؛ لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة: أحدها-أنه تعالى قادر على كل الممكنات، والثاني-أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، والثالث-أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.