الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجة اليقينية في صحة البعث والمعاد بقوله تعالى: {قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أمر تعالى بمجادلة المخالفين باللين وبالطريق الأحسن وألا يخاشن المشركون، وألا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب حتى لا يقابلوكم بمثله، وتحدث النّفرة، فيقال لهم: ربّكم العليم بكم، إن شاء عذّبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح لهم بأنهم من أهل النّار، فلا يحاولون الإيمان أو الإسلام.
ثم بيّن تعالى مهمة رسوله وهي التّبشير والإنذار، وأنه ليس مفوضا في حمل الناس على الإسلام أو إجبارهم عليه، وأنه تعالى العليم بكلّ شيء وبمن في السّموات والأرض، فيختار للنّبوة من يراه أهلا لها.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبات الناس من المشركين وغيرهم ومحاوراتهم معهم الكلام الأحسن للإقناع، والكلمة الطيّبة، وهو ألا يكون بيان الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب والأذى، كما قال تعالى في آية أخرى:{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل 125/ 16]، وقوله تعالى:{وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت 46/ 29].
وعلّة ذلك كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أي إن لم يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإن الشيطان يفسد الأمور بين المؤمنين والمشركين، ويثير الفتنة والشّر، ويوقع المخاصمة والمقاتلة ويغري بعضهم؛ لأنه عدو لآدم وذريّته عداوة ظاهرة بيّنة، ولهذا نهى الشرع أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، فربّما أصابه بها،
روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يشيرنّ
أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار».
وسبب نزغ الشيطان للإنسان ما قاله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً} أي إن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان، وقد أعلن عداوته منذ القدم كما حكى القرآن:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} [الأعراف 17/ 7].
ثم فسّر الله تعالى الطريق الأحسن الألين الذي لا مخاشنة فيه بقوله:
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ.} . أي ربّكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذّبكم فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على شرككم، فهذه هي الكلمة ونحوها التي تقال لهم، ولا يقال لهم: إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشّر. وقوله تعالى:{أَعْلَمُ} بمعنى عليم، نحو قولهم:«الله أكبر» بمعنى كبير، فلا مجال للمقارنة أو الموازنة بينه وبين غيره.
{وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي وما أرسلناك يا محمد عليهم حفيظا ورقيبا ووكيلا موكولا إليك أمرهم، تحاسبهم على أعمالهم، وتقرّهم على الإسلام وتجبرهم عليه، إنما أرسلناك نذيرا وبشيرا فقط، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار، فتلطّف في دعوتهم ولا تغلظ عليهم، ودارهم، ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي وربّك أعرف بكل من هو في السموات والأرض، وأعلم بأحوالهم ومقاديرهم كلّها علم إحاطة وانكشاف: {أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك 14/ 67] فهو أدرى وأعرف بما يستأهل كل واحد منهم.
وفي هذا ردّ على المشركين في جعل النّبوة والرّسالة بمن اصطفاهم وتفنيد لقولهم حين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزّخرف 31/ 43] وحين تضايقوا من تقريب الفقراء كصهيب وبلال وخبّاب وإبعاد السّادة وزعماء قريش.
{وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} أي ولقد فضّلنا بعض الأنبياء والرّسل على بعض بالمزايا والكتب والخصائص، كاتّخاذ إبراهيم عليه السلام خليلا، وموسى عليه السلام كليما، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النّبيين، ونظير الآية:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [البقرة 253/ 2] وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم والإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور.
ولا خلاف أنّ الرّسل أفضل من بقية الأنبياء، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن هما:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ، وَمُوسى، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب 7/ 33]. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى 13/ 42].
{وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} أي فضلناه بإنزال الزّبور عليه، لا بالملك والسلطان، ومما ورد في الزّبور أنّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النّبيين، وأن أمته خير