الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإثم. {مُعَذِّبِينَ} أحدا {حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} يبين له ما يجب عليه. {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم، لإنفاذنا قضاءنا السابق. {أَمَرْنا مُتْرَفِيها} منعميها أي رؤساءها، بالطاعة على لسان رسلنا. {فَفَسَقُوا فِيها} فخرجوا عن أمرنا. {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} بالعذاب. {فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً} أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها.
{وَكَمْ} أي كثيرا. {الْقُرُونِ} الأمم. {خَبِيراً بَصِيراً} عالما ببواطنها وظواهرها.
سبب النزول:
نزول الآية (15):
{مَنِ اهْتَدى} قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته.
وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان؛ وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى، فلا تكليف قبل الشرع، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار؛ وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات، ومخالفة ذلك الأمر، والفسق.
التفسير والبيان:
وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا، وفي
تعاقبهما واختلافهما تحقيق لمصالح الإنسان، ففي الليل سكنه وهدوءه وراحته، وفي النهار حركته وشغله وتقلبه في أنحاء الدنيا للمعيشة والكسب، والصناعة والعمل.
وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء.
فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء، وجعل النهار مبصرا، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
{لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء.
{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية، وآجال الديون والإجارات والمعاملات، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، فلو لم يتغاير الليل والنهار، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير.
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً} [الفرقان 62/ 25] وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس 5/ 10].
{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً} أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا، وشرحا كاملا وافيا، كما قال تعالى:
{ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38/ 6] وقال: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل 89/ 16].
وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر: العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق، يقال:
جعلت هذا في عنقك، أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به.
وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا.
{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً..} . أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها.
ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا: «قال الله: يا بن آدم، بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان: أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك
فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج لك يوم القيامة».
{اِقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ..} . ويقال لك حين تلقى كتابك: اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال: يا بن آدم، أنصفك-والله-من جعلك حسيب نفسك. والقائل: هو الله تعالى على ألسنة الملائكة.
{مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ..} . أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله، فإنما يضرّ نفسه؛ لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، لا يتجاوزه إلى غيره، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه، لا يفارقه.
ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، أو لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه.
وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر، واقتراف الكفر، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم.
وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون: نحن لا نعذب في شيء، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، ويؤكد ذلك قوله تعالى:{قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ} [سبأ 25/ 34].
وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت
مفهوم العقاب عند الرومان والعرب وغيرهم، إذ كانوا يعاقبون غير المجرم.
ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب، لقوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل 25/ 16] وقوله سبحانه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} [العنكبوت 13/ 29] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم.
{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب، كما قال تعالى:
{كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ.} . [الملك 8/ 67 - 9] وقال عز وجل: {وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} [الزمر 71/ 39] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ودعوته إلى الخير، وتحذيره من الشرّ.
وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى:
{وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً..} . أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات، أي الأمر بالفعل، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة، شملت جميع أهل
تلك البلدة. والمترف: هو المتنعم، وهو أولى بالشكر من غيره وأوجب عليه.
ودمرناها: استأصلناها بالهلاك.
والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين، أغنياء كانوا أو فقراء، مترفين كانوا أو غير مترفين، لكن خصّ الأمر بالمترفين؛ لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله:{أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها} أي سلطنا أشرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو كقوله تعالى:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها} [الأنعام 123/ 6].
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، فقال:{وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ..} . أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسله، كما أنتم الآن، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
{وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بهم، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه