الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً} أي فالله ربكم الذي ربّاكم وأوجدكم وأنعم عليكم أعلم من كل أحد بمن هو أسدّ مذهبا وأوضح طريقا واتباعا للحق، وسيجزي كل عامل بعمله. وفي الآية تهديد ووعيد للمشركين.
والآية مثل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ} [هود 121/ 11 - 122].
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ..} . أي ويسألك المشركون عن حقيقة الروح التي تحيى بها الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، مصدره إحساس الحواس وملاحظة المرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
دلت آية {أَقِمِ الصَّلاةَ..} . على فرضية الصلوات الخمس المفروضة، وعلى أوقاتها في الجملة التي فصلتها وحددتها السنة النبوية.
2 -
في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} فوائد وهي أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة، ووجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه. وأبانت السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الحث على تطويل القراءة فيها، ووصف قرآن الفجر بأنه مشهود معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام، وهو دليل قوي على أن التغليس (الصلاة وقت الظلمة) أفضل، وهذا قول مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس.
واجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الصبح وكذا في صلاة العصر، كما جاء في الحديث المتقدم لا يعني أن هاتين الصلاتين ليستا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، كما فهم بعض العلماء، وإنما هما من النهار، بدليل الصيام فيه.
3 -
كانت صلاة التهجد (قيام الليل) مطلوبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نافلة زيادة وكرامة له، واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذّكر دون أمته، فقال جماعة: كانت صلاة الليل فريضة واجبة عليه؛ لقوله {نافِلَةً لَكَ} أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة، ثم نسخت، فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض.
وقال آخرون: صلاة الليل تطوع في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أمته، فيكون الأمر بالتنفل على جهة الندب، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في الدرجات، وأما غيره من الأمة فتطوعهم كفارات لذنوبهم، وتدارك الخلل الذي يقع في الفرض.
4 -
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى للناس يوم القيامة، ولأجل ذلك
قال فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر» قال النقّاش: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر.
وقال ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا للأنبياء وللعلماء. وذكر أبو الفضل عياض خمس شفاعات: العامة، ولإدخال قوم الجنة دون حساب، ولإخراج عصاة الأمة من النار، وللحيلولة دون إدخال بعض المذنبين من
موحّدي الأمة النار، ولزيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
وقال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات.
ومع الشفاعة لواء الحمد،
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» .
5 -
وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم المقام السامي المرضي الحسن في الدنيا والآخرة، فيشمل كل دخول وخروج كإدخاله المدينة مهاجرا، ومكة فاتحا، وفي القبر مغفورا له آمنا، وإخراجه من مكة مهاجرا، وإخراجه من القبر للبعث مطمئنا موصوفا بالصدق.
6 -
ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام قوة الحجة، والسلطان والقهر والقدرة والعصمة من الناس، فكانت له حجة بينة ظاهرة ينتصر بها على جميع من خالفه، ورزقه الله السلطة والتفوق والنصر على أعدائه، وأظهر دينه على الدين كله أي على الأديان والشرائع، وعصمه من أذى الناس ومكرهم.
7 -
أيد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بما أنزله عليه من القرآن والإيمان والحق الذي لا مرية ولا جدال فيه، فبه جاء الحق، وهو الإسلام والقرآن، واضمحل الباطل وهو الشرك والشيطان.
8 -
في آية {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ} دليل على كسر نصب المشركين والأصنام وجميع الأوثان. قال القرطبي: ويدخل بالمعنى: كسر آلة الباطل
وما لا يصلح إلا لمعصية الله، كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى
(1)
.
قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصّور المتخذة من المدر (الطين المتحجر) والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيّرت عما هي عليه وصارت سبيكة أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها.
9 -
القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد سماعه الكافرين الظالمين أنفسهم إلا خسارا لتكذيبهم وزيادتهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. قال قتادة:
ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية.
وللعلماء قولان في كونه شفاء:
أحدهما-أنه شفاء للقلوب: بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى.
الثاني-شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم-فيما رواه الأئمة-الاستشفاء بالقرآن، والرقية بالفاتحة بقراءتها سبع مرات على لديغ، وإعطاء قارئها عوضا عن الرقية ثلاثين شاة.
وأجاز سعيد بن المسيب ما يسمى بالنّشرة: وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله تعالى، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يمسح به المريض، أو يسقيه.
وقال الإمام مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على
(1)
تفسير القرطبي: 314/ 10
أعناق المرضى على وجه التبرك بها، إذا لم يرد معلّقها بتعليقها مدافعة العين، أي قبل أن ينزل به شيء من العين. ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم.
وكره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده.
قال القرطبي: والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، إن الفاعل الحقيقي المؤثر هو الله تعالى، أما الأدعية المأثورة، وتلاوة آيات الشفاء، والفاتحة والمعوذات وغير ذلك فهي من وسائل الفرج والبرء بإذن الله تعالى، بشرط تعظيم القرآن في الصدور، والإيمان الصادق به، والبعد عما لا يتناسب مع تعظيم آيات الله تعالى. ولا يعني هذا الاكتفاء بالرقى عن المداواة والعلاج بالأدوية الناجعة، فذلك كله من الوسائل التي أذن الشرع بها، بل وأوجبها لصيانة حق الحياة. أما ما يفعله بعض العوام من إهمال علاج المريض المحموم أو المبتلى بداء خطير مثلا، اعتمادا على مجرد التلاوة لشيء من القرآن أو التميمة، فهذا جهل بحقائق الدين، وإهدار لقدسية العلم الذي عظمه الله، ورفع شأن علمائه وأتباعه.
وأما ما روي عن ابن مسعود: «إن التمائم والرقى والتّولة من الشرك، قيل:
ما التّولة؟ قال: ما تحبّبت به لزوجها» فيجوز أن يريد بما ذكره تعليق غير القرآن أشياء مأخوذة عن العرّافين والكهّان؛ إذ الاستشفاء بالقرآن معلّقا وغير معلّق لا يكون شركا.
10 -
إن هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وكذلك شأن الإنسان عموما النسيان وكفران النعم إلا من عصمه الله، فتراه إذا كان منعما مترفا بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل، وإذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط؛ لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.
11 -
إذا أفلس نداء العقل والقلب والوجدان، لتعطيل الفكر والبصر
بآيات الله كالمشركين، فلم يبق معهم إلا التهديد والوعيد، وإهمال هؤلاء المعطلين عقولهم، وتركهم يعملون على شاكلتهم من الهدى والضلال وما هو الأولى بالصواب في اعتقادهم. والله تعالى أعلم بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.
12 -
سأل المشركون عن الروح الذي هو سبب الحياة، فأجابهم القرآن جوابا مبهما يدل على أن خلق الروح من الله، وهو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، تاركا تفصيله، ليعرف الإنسان يقينا عجزه عن علم حقيقة نفسه، مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه جاهلا حقيقتها، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك ومعرفة مخلوق مجاور له، للدلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز، وبذلك ثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة للإنسان، ولكن لا يلزم من كونها مجهولة نفيها.
وأما حقيقة الروح فللعلماء فيها قولان:
القول الأول للرازي وابن القيم في كتاب الروح: إن الروح جوهر بسيط مجرد، وجسم نوراني مخالف بطبعه للجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} .
والقول الثاني للغزالي وأبي القاسم الراغب الأصفهاني: الروح ليس بجسم ولا جسماني، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.
13 -
لم يؤت العالم كله من العلم إلا القليل، ويظل الكثير مختصا بعلم الله تعالى، قال القرطبي: والصحيح أن المراد بالخطاب في قوله تعالى: