الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشدد في انحسار، والمستقبل للخطاب الإسلامي المتسامح:
س: بمناسبة الحديث عن الاجتهاد أثار كتابك (الإنصاف فيما جاء في الأخذ من اللحية من الخلاف) الذي تناول الحكم الشرعي للأخذ من (اللحية) الكثير من ردود الفعل المعارضة لاجتهادك وفتواك، وكان بيان اللجنة الدائمة الإفتاء أقوى تلك الردود، فقد ذهب البيان إلى مطالبتك بالتراجع عن فتواك، كيف تقرأ هذا النوع من ردود الفعل خاصة بيان اللجنة بوصفها جهة رسمية معنية بالفتوى؟ وكيف تعاملت مع هذا البيان تحديدًا وهل تراجعت عن فتواك؟
ج: لم أستغرب الرد من اللجنة، ولا من غيرها، فهو حق شرعي لأهله، ويجب علينا معشر طلبة العلم أن يكون لدينا الاستعداد لتقبل الرد، والنظر فيه في موضوعية، وإنصاف، وألا ننظر إلى الرد على أنه تنقيص للمردود عليه، فكل يؤخذ من قوله ويترك، مع وجوب تحري العدل والإنصاف، وترك التجريح، وإن كنت أرى أن المؤسسات الرسمية يجب ألا تدخل في أي نزاع فقهي، وليكن دورها في الرد على المخالفات العقدية المنهجية.
ولم يكن بيان اللجنة بالرد العلمي أكثر من كونه عرضًا لقول الفقهي الذي تختاره اللجنة، لأن اللجنة لم تتعرض لأي من الأدلة التي ذكرتها، ولم تجب عنها، ولا تستطيع اللجنة ولا غيرها أن تنكر أن هذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وأنه كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها، خاصة أن بعض أعضاء اللجنة حنبلي المذهب، بل لا يستطيع أحد أن ينكر أنه مذهب عامة السلف.
وإني أتفهم السياق الذي جاء به رد اللجنة، فالكتاب أحدث لدى العامة صدمة، نتيجة للجهل في فقه المسألة، وغياب هذا القول عن المحاضرات والدروس العلمية، مع أن القول الذي طرحته هو قول عامة السلف، وقد تصور بعضهم أنني أريد أن أفسد لدى الناس ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأن هذا الكتاب إن ترك دون رد قد يكون بداية المراجعات كثيرة، هي من مسلمات الدين، خاصة أن
وقت خروج الكتاب - ولم يكن ذلك مقصودًا - تزامن مع ما يطرح في الصحافة المحلية، وفي الإنترنت عن مواضيع كثيرة بدأ الجدل فيها يطرح بصوت مسموع، وكان هناك ربط غير محمود بين الكتاب وبين ما يطرح في الساحة.
وحين أكثر الناس على اللجنة جاء الرد من اللجنة كرد فعل، واستجابة لهذه الضغوط، ومحاولة لمعالجة آثار الكتاب الذي بدأ يظهر أثره ليس لدي عامة الناس، بل على طلبة العلم منهم، وجاء رد اللجنة في هذا السياق، وقد قال بعض طلبة العلم يكفي أن يخرج من اللجنة ما يدل على أن ما يراه الدبيان في هذه المسألة خطأ، وليس بصواب بصرف النظر عن قوة الرد من الناحية العلمية، فالعامة يثقون في اللجنة أكثر مما يثقون في بحث الدبيان.
فإن سألت ما موقفي من رد اللجنة؟ فإني لم أرد على اللجنة ردًّا علنيًا، لأن الموضوع كان لا يحتاج إلى ردود من هنا وهناك، يشحن النفوس، ويوغر الصدور، ولكنه أيضًا كان يتطلب نقاشًا صريحًا وشجاعًا وواضحًا مع اللجنة استكشف فيه جوابهم عن الأدلة التي سقتها، فكتبت رسالة علمية كانت أكثر وضوحًا من كتاب الإنصاف، وأرسلتها إلى بعض أعضاء اللجنة، وادعيت فيها أن القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقًا قول لا يعرف عن السلف، بل هو نجدي النشأة، وبدعة ابتدعوها، ما كتبه الله عليهم، وحين توقعت أنهم قد أطلعوا على الكتاب ذهبت لمقابلتهم، وان معي بعض طلبة العلم، ليكون الحديث موثقًا، ودار مع بعضهم نقاش في غاية الصراحة، وأستطيع أن أقول لك بأنني لم أكن واثقًا من القول الذي اجتهدت فيه اتهامًا للنفس بالتقصير والقصور، وخوفًا من أن يكون هناك دليل لم أطلع عليه، خفي علي، وعلمه غيري من أهل العلم والفضل، حتى تناقشت معهم في المسألة، فخرجت وأنا أكثر ثقة بالقول الذي تبنيته، وقد طلبت منهم عالمًا واحدًا من السلف يرى تحريم الأخذ من اللحية مطلقًا، ولم يوقفني أحد على هذا، وكان جل اعتمادهم على تقدير المصالح والمفاسد، وأن الناس قد
يتهاونون، ولم أتجرأ على الأخذ من لحيتي حتى عرفت ما عندهم، وقد طلب مني بعضهم ألا أطبع الكتاب الجديد، وقد سألته، هل فيه خطأ علمي يمكن يصححه؟ فقال: لا، ولكن لا مصلحة في نشره، وتقديرًا للنصيحة، ومحبة في تجاوز المسألة تركت الكتاب مخطوطًا في مكتبتي إلى حين، وقد قدم لي بعضهم ما يشبه الاعتذار، بأنه لم يكن يعرفني، ولم يكن يتصور أنني طالب علم، وأنه عندما رآني، وناقشني ذهب كل ما في نفسه، وقد اكتفيت بهذا.
ثم من يقول إن العلماء وطلبة العلم الشرعي مرتهنون في آرائهم وفتاويهم الرغبة الجماهير أو ما يسمى - بحسب أدبيات الفقه الإسلامي - "السلطة العوام"، وهو ما أدى إلى انحسار الاختلاف في الأمور الاجتهادية وشيوع التقليد، بل وصل الأمر أحيانًا إلى تغييب بعض الأحكام الفقهية بدعوى مراعاة السائد، ما تعليقك على هذا الرأي؟
يتأثر المجتهد حينما يجتهد بعوامل كثيرة، منها ما يدركه ويقع تحت حسه، ومنها ما لا يدركه.
فتتأثر نتيجة المجتهد في أعراف وعادات المجتمع الذي عاش فيه، فإن كانت موافقة للشرع كانت معينة له، وإن كانت مخالفة اعتبرت من أكبر العوائق التي تعيق الباحث في التوصل إلى الصواب فهو ينحاز إلى هذه الأعراف والعادات دون أن يشعر، وهذا ما يعاني منه طلبة العلم الذين يعيشون في مجتمعات بدعية، ولو كان الألباني رحمه الله قد عاش في هذه البلاد، أتراه سيقول بجواز كشف الوجه؟
يتأثر المجتهد كذلك بالفتاوى العامة السائدة في عصره، ولذلك عندما أفتي الشيخ ابن محمود رحمه الله في جواز الرمي قبل الزوال، وطلب منه التراجع،
وعرضت الفتوى على الشيخ السعدي رحمه الله، مع كونه رجحها قال: لا أرى أنه ينبغي الإفتاء بها لتعارضها مع الفتوى العامة.
كما يتأثر الباحث بمتابعة الرمز، وكل من له قدر كبير في النفوس، والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنهم غير معصومين من الخطأ قالوا: هم أعلم بالدليل منكم، وأنتم أولى بالخطأ منهم، وأعرف أحد طلبة العلم، وقد توجه في الرد على بعض العلماء في مسألة فقهية، وحين مشي في المشروع اطلع على أن الشيخ ابن باز رحمه الله يوافق هذا العالم برأيه في المسألة فقام الباحث بتمزيق الرد بعد أن شرع فيه.
ولقد خطب عمار في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكف الناس عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال: والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم، إياه تطيعون، أم هي، أخرجه البخاري في الصحيح، فلم يؤثر هذا في كثير من الناس، بل روي أن بعضهم أجابه قائلا: فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار.
كما يتأثر المجتهد بما يسبق إلى نفسه أثناء البحث، فإذا اطلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق، ويتحمل خلافه، فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق وإن كان ضعيفا، والعقل كثيرًا ما يستفتي القلب عندما يريد أن يحكم بين الأدلة المحتملة والمتعارضة، وربما يشتبه على المجتهد ما يقضي به قلبه بما يقضي به عقله كما ذكر ذلك المعلمي.
الفقيه المجتهد يخشى من تسلط الخواص والعوام ويخضع في اجتهاداته لأعراف المجتمع وتقاليده:
ج: كما يخاف الباحث أحيانًا من تسلط الخواص والعوام والساسة إذا خرج منه ما يخالفهم، وهذا ما قاله لي بعض أعضاء اللجنة عندما قال لي:
لست بحاجة إلى أن تثير الناس عليكم في هذه المسألة؟ فقلت له: أنا لا أتقصد مخالفة الناس، ولا أسعى لموافقتهم، والخلاف الفقهي في الأمة أمر قدري، لا يمكن لي دفعه، وما زال الناس يختلفون في الفقه من وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
س: صدر لك مؤخرًا الأجزاء الكاملة الموسوعة "الطهارة في الفقه الإسلامي"، ما الجديد الذي تحمله هذه الموسوعة؟ وألا ترى أن ما تضمنته من مسائل فقهية يصب في خانة الإعادة والتجميع، وأن الموسوعة لا تحمل إضافة جديدة إلى مكتبة الفقه الغنية بالمراجع التراثية؟
ج: شهادتي مجروحة، ومع ذلك أقول: إذا كان هذا الحكم صادرا من أهله نتيجة دراسة ونقد موضوعي، فإني سأكون أول المستفيدين من هذا، ولكن هذا سيتطلب أدلة وشواهد، وليست دعوى تلقى هكذا.
ولقد أثنى على الموسوعة علماء كبار، فبلغني عن الشيخ الغديان عضو هيئة كبار العلماء أنه يعتبر الكتاب من أفضل ما ألف فيه هذا العصر، وأن فيه انضباطا من الناحية الأصولية والفقهية.
وباركهـ شيخنا محمد بن عثيمين، وطلب مني الاستمرار فيه، وكان ذلك أثنا زيارته في مرض موته رحمه الله، وأثنى عليه الشيخ ابن جبرين، وشيخنا سليمان العلوان، وقد قرأ كتاب الحيض والنفاس، ولم يراجعني في حديث واحد صححته، أو ضعفته، هذا من حيث الجملة.
وأما من حيث التفصيل، فالموسوعة إذا قارنتها بالموسوعات الفقهية الموجودة أدركت مدى الإضافة الحقيقية، فخذ مثلًا المغني لابن قدامة، ستجد أن أحكام الطهارة تشكل نصف المجلد الأول، بينما تشكل الطهارة في كتاب المجموع للنووي المجلد الأول والثاني فقط، وهما أوسع ما كتب في تاريخ الفقه الإسلامي،
بينما تمثل أحكام الطهارة في الموسوعة ثلاث عشر مجلدًا، وهو فارق لا يستهان به وأستطيع أن ألخص الإضافات الموجودة في الموسوعة بالآتي:
الأول: طريقة عرض الأقوال والأدلة تختلف عن طريقة ابن قدامة والنووي، فكنت أعرض الأقوال في معزل عن الأدلة بعبارة معاصرة من عندي، مختصرة قدر الإمكان لسهولة حفظها، وأوثق ذلك من أمهات الكتب المعتمدة في كل مذهب وفقا لشرط البحث الأكاديمي العلمي، ليعرف على وجه الدقة الأقوال في المسألة، وعرض مسائل البحث بشكل عصري على طريقة الأبواب، والفصول، والمباحث، والفروع، والمسائل وهكذا.
ثانيا: أعرض الأدلة مع مناقشتها، وغالب ما أكتبه في مناقشة الأدلة، والرد عليها هو من عبارتي، وكثير منها من تأملاتي، وكان الترجيح في غالب المسائل مبنيًّا على الدليل، وكان من ثمرة هذا المنهج كتاب الإنصاف، ولو جمع الإنسان المسائل التي خالفت فيها الفتوى السائدة لخرج بعشرات المسائل.
ثالثا: اعتنيت بدراسة آثار الصحابة والتابعين، ومدى صحة ما ينسب إليهم من الأقوال في المصنفات، ودراستها دراسة حديثة، وهذه إضافة حقيقية، وهي تغفل من البحوث المعاصرة مع أنها هي الجانب العملي التطبيقي في فقه السلف.
رابعًا: درست كتاب الحيض والنفاس مستنيرًا فيها بأقوال الأطباء، مقارنًا مع أقوال الفقهاء، وكنت أحسم الخلاف الفقهي فيما أجمع عليه الأطباء، وأرجح فيما اختلفوا فيه، ولذا جاء كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، وفي شهادة المتخصصين أنه أفضل ما كتب في الموضوع.
خامسًا: راجعت عشرات الأحاديث التي صححها بعض العلماء المتأخرين والمعاصرين، وخالفتهم في ذلك دون أن أنبه على أي استدراك، وتركت ذلك ليدركه المتخصص والباحث، لأن هذا هو ما يوافق طبيعتي، ولم أكن مهووسًا
في بيان أخطاء العلماء وأوهامهم، ولو كنت أشير إلى هذا العرف القارئ حجم الاستدراك الموجود في الموسوعة، بل تعرضت لتضعيف أحاديث لم أسبق إليها، وكان بعضها في صحيح البخاري، وبعضها في صحيح مسلم وفقًا للقواعد، وقد تقبل ذلك طلبة العلم وأهل الشأن.
سادسا: اشتملت الموسوعة على كتابين لسنن الفطرة، أحدهما في السواك، وقد تعرضت للدراسات الطبية في تفوق السواك على غيره، وكان الكتاب من أجمع ما ألف في أحكام السواك بشهادة مجموعة من طلبة العلم.
سابعًا: في الرواة المختلف فيهم كنت أعتمد على أمهات كتب الجرح والتعديل، وأسوق حجج كل قول، وأخرج برأي من خلال دراسة كل ما قيل في الرجل، ولم أعتمد على حكم الحافظ ابن حجر في التقريب كما يفعل الكثير، وربما درست أحاديث الراوي للحكم عليه، وهذا من أصعب ما يقوم به طالب العلم، وقد درست عنعنة قتادة في الصحيحين باستعراض جميع أحاديثه في الصحيحين، والخروج منها بحكم، بناء على التتبع والاستقراء.
لا مستقبل للخطاب الليبرالي لأنه في بيئة غير بيئته وليس له جذور:
وكان الذي يحد من توسعي أني أدرس عبادة من العبادات، والعبادات مجال الإضافة فيها محدود، وسيجد القارئ في موسوعة أحكام المعاملات المالية إضافات حقيقية، لم أسبق إليها، ومجالًا أرحب وأوسع من دراسة العبادات، وقد أنجزت منها حتى الآن عشرة مجلدات، وتتبعت المعاملات المعاصرة والقديمة.
وكل هذا لا يعني أن البحث سالم من التقصير والقصور، كما هو الشأن في أي عمل بشري، وحسبي أني بذلت وسعي، والنقد مركب سهل كل يحسنه،
وأحسن منه أن يتبني الإنسان مشروعًا جادًا، ويصبر عليه، ويقدمه للأمة، وما أقل هؤلاء!
س: هناك من يقول إن الخطاب الديني الإسلامي يحتاج إلى إصلاح في بنيته الفكرية وأحيانًا يستخدمون مفردة "تجديد" للتعبير عن حاجة هذا الخطاب إلى مواكبة العصر، فأين تقف من هذه الدعوة؟ وبشكل عام هل الخطاب الديني الإسلامي السائد يعبر كما ينبغي عن الإسلام وتعاليمه العظيمة؟ ويؤدي الغرض للتعريف بالإسلام والدعوة إليه في هذا العصر العولمي؟
ج: إذا كان الكلام عن الخطاب الديني اليوم، ففيه الخطاب المتشدد، بل والغالي أحيانًا، وهذا الخطاب يعيش قطيعة مع عصره، ولا يمكن أن يكون له البقاء، وهو في انحسار، وسيظل تأثيره محدودًا في الناس.
يقابله: الخطاب التوفيقي المائع غير المنضبط، وهذا لا يختلف عن الخطاب الأول.
والمستقبل في الساحة الإسلامية إنما هو للخطاب المعتدل المنضبط بمنهج الشرع، الصادق مع نفسه ومع الآخرين، المتمسك بالثوابت، والمتسامح في المتغيرات، ولن يكون هناك مستقبل لا للخطاب الغالي لأنه يتآكل مع نفسه ويصادم الطبيعة البشرية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، ولا مستقبل الخطاب الليبرالي، لأنه في بيئة غير بيئته، وليس له جذور، ولا للخطاب التوفيقي، لأن مصيره إلى الذوبان والانحلال.
لا سبيل للسنة والشيعة سوى التعايش، والاقتتال الطائفي في العراق دوافعه سياسية:
س: الصراعات الدموية في العراق القائمة في جزء كبير منها على المذهبية والطائفية والتي انتقلت تداعياتها الفكرية إلى الدول الإسلامية طرحت تساؤلات
عديدة وعميقة بشأن علاقة الطوائف الإسلامية ببعضها خاصة السنة والشيعة وبرزت دعوات من علماء ينتمون إلى الطائفتين تنادي بالعمل على تخفيف حدة العداء والسعي إلى تأسيس قواسم مشتركة للتقارب بين الطائفتين، بملاحظة ما تحويه كتب التراث الفقهي لكلا الطائفتين من أحكام عن الطائفة الأخرى، وبالنظر إلى طبيعة الخلاف العقدي بين الطائفتين كيف تنظر إلى مثل هذه الدعوات؟
ج: الدعوة للتقارب، إن كان المقصود منها التوفيق بين المنهجين فلا أعتقد أن مثل هذا سيكتب له النجاح، وسيكون مبنيًّا على الخداع والنفاق، لأن الفارق بين السنة وبين الشيعة ليس في مسائل فرعية يمكن للمسلم أن يتجاوز فيها الخلاف، وإن كان المقصود من التقارب هو التعايش، فإن تاريخنا الإسلامي يثبت أن هذا ممكن وممكن جدًّا، ولا سبيل لنا غيره، فكان التشيع موجودًا على مر العصور الإسلامية، ولم يكن هنا منهج عند أهل السنة يدعو إلى قتال الشيعة لكونهم شيعة، وقيم العدل ودفع الظلم مطلوبة حتى مع الحيوان فضلًا عن الإنسان.
وأعتقد أن الاقتتال الطائفي في العراق دوافعه سياسية أكثر منها طائفية، وأنا أحمل الاحتلال الأمريكي، والساسة العراقيين، والمليشيا المسلحة (بدر وجيش المهدي وتنظيم القاعدة) بالإضافة إلى التدخل الإيراني، وأما الشعب العراقي بعشائره وكافة طوائفه فهو شعب موحد في غالبه.
وأرى أن إيران تعبث في العراق لمصالحها الخاصة، وقد أساء مشروعها الطائفي في العراق إلى مشروعها السياسي في المنطقة القائم على دعم المقاومة، ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي، ولقد بعث هذا في نفس المراقبين الخوف من أن تجر المنطقة كلها إلى نزاع طائفي لا يستطيع أن يتنبأ الإنسان بنتائجه على أمن واستقرار المنطقة.
س: شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما يمكن اعتباره تاريخًا مؤثرًا في مسار الأعمال الإسلامية في الخارج (الخيرية والدعوية) إضافة إلى
تداعياتها في الداخل المحلي على ما اصطلح بتسميته بـ "الصحوة الإسلامية"، وأدت أحداث العنف التي حدثت في المملكة بعد هذا التاريخ إلى النظر إلى نتاج الخطاب الصحوي بوصفه السبب وراء تلك الأحداث، بعد هذا السياق الزمني كيف تنظر إلى تأثيرات أحداث سبتمبر على المجال الدعوي والخيري الإسلامي في الخارج؟ وكيف تنظر إلى الصراع الفكري بين من يوصفون بالتيار الديني والآخر الليبرالي في المجتمع السعودي؟
ج: أحداث الحادي عشر من سبتمبر من الظلم أن نحملها نتاج الخطاب الصحوي، فليس هو السبب وراء تلك الأحداث، ومن قام به قام به دون أن يأخذ رأي أحد من الأمة، فهو محسوب على من قام به، ولا يتجاوز به ذلك، وإذا أردت أن تنظر في الأسباب فإنك لا تستطيع أن تستبعد سياسات أمريكا غير العادلة في المنطقة، ودعمها لإسرائيل، وليس الخطاب الصحوي.
وأعتقد أن نقل العنف إلى داخل البلاد الإسلامية كالخليج والمغرب، والجزائر ولبنان وباكستان كان هذا هدفًا أمريكيا بالدرجة الأولى، ولعلك تذكر الحملة الظالمة في الإعلام الأمريكي على الحكومة السعودية وعلى باكستان في السنوات الأولى من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولم تتوقف تلك الحملة حتى بدأ الصراع بين تلك الدول وبين هذه الجماعات، وقد فقدت تلك الجماعات تعاطف الناس معها حين وجهت سلاحها إلى الداخل وتخوف العقلاء من العبث في أمن واستقرار تلك المجتمعات من التحول إلى الفوضى الذي لن يستفيد منه أحد، وسيتضرر منه الجميع، ولا يستطيع أحد أن يعرف مقدار الضرر إلا إذا عاش فعلا في مجتمع الجوع والخوف كما قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
س: تزامنت بداياتك العلمية والدعوية مع بروز عدد من طلاب العلم الشرعي منهم د. سلمان العودة، الفقيه إبراهيم الدبيان، ، د. سليمان الضحيان، وغيرهم، ما الذي تحمله لهؤلاء؟ وما الرسالة التي توجهها لهم؟
أحمل لهؤلاء ذكريات جميلة في مرحلة من عمر الإنسان، وفي أجمل مراحله، وهو حماس الشباب، وتطلعاتهم في بناء مجتمع فاضل، وقد خضنا تجربة ضخمة أرجو أن نكون قد استفدنا منها فيما يعود علينا وعلى مجتمعنا وشبابنا بالخير.
ويكفي أننا بعد هذه التجربة خرج كل واحد منا، وقد اتجه ليعمل فيما يحسن، ويخفف من الأمور التي لا يحسنها، أو تشكل عائقًا كبيرًا في مشروعه الخاص.
والرسالة التي يمكن أن أوجهها لبعضهم بعد أن تجاوزنا حماس الشباب أن ننقل تلك التجربة بصدق إلى أولئك الشباب الذين لم يجربوا، وأن نكون صادقين مع غيرنا بالقدر الذي نكون صادقين به مع أنفسنا.
لا يعجبني أبدًا أن يزين بعضنا للشباب تجربة السجن، وأنا أعلم منه، ويعلم من نفسه مقدار الضيق الذي كان يجده وهو في السجن، وينبغي أن يتذكر قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
على أن سعي المرء للإصلاح ليس محصورًا في الجانب السياسي، الذي هو أسوأ ما في تاريخ هذه الأمة على مر العصور، وتغيير الأمة لا يجب أن يكون من خلال القفز على المراحل، ولينظر المرء إلى ما يحسنه، فيتوجه إليه، ويشتغل به، وينفع به، والأمور التي لا يحسنها، أو لا يستطيع أن ينفع فيها، فينبغي أن يتجاوزها، ولا يقف عندها.
وقد عرفت نفسي، ووجدت متعتي في البحث العلمي الأكاديمي، وعرفت أنني أملك في هذا المشروع ما لا يملكه كثيرون غيري، وتفرغت له، وتركت ما سواه، ولم أذهب إلى مشاريع الآخرين لأشتغل بها عن مشروعي، وقد أنتج