الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى نعمه وفضله على خلقه بإرساله الرياح مبشرات بمجيء الغيث، فقال:
{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ومن أدلة وحدانيته تعالى وقدرته ونعمته وآياته الكونية أنه المهيمن على كل شيء في الوجود، فيرسل الرياح مبشرة بالخير والبركة ونزول المطر الذي يحيي الأرض بعد يبسها، وينبت الزرع ويخرج الثمر، وليذيق الناس من آثار رحمته بالمطر الذي ينزله، فيحيي به العباد والبلاد، ولتسيير السفن في البحار بالريح، وللتمكين من ممارسة التجارة والتنقل في البلاد والأقطار للكسب والمعيشة ولشكر الله تعالى على ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها} [إبراهيم 34/ 14].
ثم سلّى الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} أي إن كذبك كثير من قومك أيها الرسول، فلست أول من كذّب، فلقد كذّبت الرسل المتقدمون بالرغم مما جاؤوا به أممهم من الدلائل الواضحات على أنهم رسل من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، فانتقم الله ممن كذبهم وخالفهم، ونجّى المؤمنين الذين صدقوا بالله ورسله، وما جرى على النظير يجري على نظيره قياسا عقليا وشرعيا، فسيكون الانتقام من كفرة قومك كالانتقام ممن تقدمهم. والخلاصة: أن الله تعالى بعد إثبات الأصلين: الوحدانية والبعث، ذكر الأصل الثالث وهو النبوة.
ثم أخبر الله تعالى عن مبدأ عام وهو تأييد المؤمنين بالنصر، وأنه حق أوجبه
الله على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا، كقوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام 54/ 6]. وفي هذا وعيد للكفار بالهزيمة ووعد وبشارة بالظفر للمؤمنين.
روى ابن أبي حاتم والطبراني والترمذي وابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية:
{وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
ثم أبان تعالى كيفية خلقه السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال:
{اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} أي الله هو الذي يسير الرياح على وفق الحكمة ومقتضى الإرادة إلى الجهة المرادة، فتحرك السحاب وتهيجه بعد سكونه، فينشره في السماء ويجمعه ويكثره، فيجعل من القليل كثيرا، ثم يجعله قطعا متفرقة ذات أحجام متنوعة، فتارة يكون السحاب خفيفا، وتارة يأتي السحاب من جهة البحر مشبعا بالرطوبة، ثقيلا مملوءا بذرات الماء، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف 57/ 7].
{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي فتنظر المطر أو القطر يخرج من وسط ذلك السحاب، فإذا أصاب به الله بمشيئته بعض العباد والبلاد، فرحوا بنزوله عليهم ووصوله إليهم، لحاجتهم إليه. فقوله {مِنْ خِلالِهِ} الضمير عائد في الظاهر على السحاب؛ إذ هو المحدّث عنه.
{وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} أي ينزل عليهم هذا المطر بعد أن كانوا قبل نزوله قانطين يائسين من نزوله قبل ذلك، فكانت الفرحة شديدة التأثير في نفوسهم، لمفاجأتهم بالغيث الذي كادوا ييأسون من نزوله. وتكرار كلمة {قَبْلِهِ} أي قبل الإنزال للتأكيد.
ومجمل معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، وكانوا قبل ذلك بفترات متفاوتة متقطعة يترقبونه فيها، فتأخر، ثم انتظروه مرة أخرى فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فصارت أرضهم الهامدة منتعشة بالنبات من كل زوج بهيج.
{فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} أي فانظر أيها الرسول ومن تبعك نظرة تأمل واستبصار واستدلال إلى المطر الذي هو أثر من آثار رحمة الله، كيف يكون سببا لإحياء النبات والزرع والأشجار والثمار، مما يدل على واسع رحمة الله وعظيم قدرته.
ثم نبّه الله تعالى بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال:
{إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، أو من يقدر على إحياء الأرض بعد يبسها بالخضرة والنبات قادر على إحياء الموتى، والله وحده بالغ القدرة على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، كما قال سبحانه:
{قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس 78/ 36 - 79].
ثم بيّن تعالى سوء حال الكافرين، وتنكرهم للمعروف والجميل، وعدم ثباتهم على منهج واحد، فتراهم يفرحون بالخير، ثم ييأسون وينقطع رجاؤهم من الخير إن تعرضوا لسوء، فقال: