الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{لِيَسْئَلَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً} اللام في {لِيَسْئَلَ} قيل: إنها لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصير الأمر إلى السؤال عما فعلوا، كما قال تعالى:{وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف 6/ 7].
قال الرازي: يعني أرسل الرسل، وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب؛ لأن الصادق محاسب، والكافر معذب
(1)
. والظاهر-كما قال أبو حيان-أنها لام التعليل، لام كي، أي بعثنا الرسل، وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها، على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب، فالصادقون المسؤولون على هذا المعنى: هم المؤمنون، والهاء في {صِدْقِهِمْ} عائدة عليهم، ويجوز أن يراد: وليسأل الأنبياء، أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه: أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف بمن سواهم؟
(2)
أو ليسأل المبلّغين الذين بلغتهم الرسل. وعلى هذا، يكون المعنى:
وأخذنا من الأنبياء ميثاقهم في تبليغ الدعوة إلى دين الله، لكي نسأل المرسلين عن قيامهم بواجب التبليغ، ومعرفة ما أجابتهم به أممهم، ولأجل إثابة المؤمنين على إيمانهم وصدقهم، وعقاب الكافرين من أممهم المكذبين رسلهم الذين أعد الله لهم عذابا شديدا مؤلما موجعا هو عذاب جهنم. فقوله تعالى:{وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ} معطوف على قوله: {أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ} .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
(1)
تفسير الرازي: 197/ 25
(2)
البحر المحيط: 213/ 7
1 -
النبي صلى الله عليه وسلم أرأف وأعطف وأشفق على المؤمنين من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة.
2 -
آية {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام؛ منها:
أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي على ميّت عليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح
قال كما جاء في الصحيحين: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» .
وفي الصحيحين أيضا «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» والضياع: مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما يتعرض للضياع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيّم له. وسميت الأرض ضيعة؛ لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعا.
قال بعض العلماء: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه، حيث
قال: «فعلي قضاؤه» .
3 -
جعلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في وجوب التعظيم والبرّ والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وتحريم النظر إليهن، وحجبهن عن الرجال، بخلاف الأمهات. وهذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، فقد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي أخت عائشة، ولم يقل: هي خالة المؤمنين. ولا يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين.
وهن في قول أمهات الرجال خاصة، لا أمهات الرجال والنساء، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّه؛ فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح
(1)
.
(1)
أحكام القرآن: 1497/ 3
وقال القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء؛ تعظيما لحقّهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية:{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة؛ فيكون قوله: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} عائدا إلى الجميع
(1)
.
4 -
قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، وللتوارث بالهجرة؛ لأن المراد بأولي الأرحام ذوي القرابة مطلقا أيا كان نوعهم، والمراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا، وقد فسر الإمام الشافعي رضي الله عنه الآية بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. إلا أن الجصاص يرى فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام، لا من حيث إن الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إن الآية اقتضت أن ذا القرابة مطلقا أولى من غيره، وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض، فهذا له أدلته الخاصة.
ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم (هو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى) أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدم بيت المال عليهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذا الرحم أولى من مولى العتاقة، ويرى بعضهم أن مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو أولى من الرد؛ لأنه من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم،
وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا، ومات وترك بنتا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة. ونوقش
(1)
تفسير القرطبي: 123/ 14
هذا بأنه لم يقل لنا الرواة: هل كان للميت ذو رحم، حتى يتم الدليل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر: «الولاء لحمة كلحمة النسب» ونوقش هذا أيضا بأن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، ولكنه لا يدل على تقديمه على غيره.
5 -
قال قوم: لا يجوز أن يسمّى النبي صلى الله عليه وسلم أبا؛ لقوله تعالى: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين؛ كما
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم» . وقال القرطبي: والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة لا في النسب، وأما قوله تعالى:
{ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} فهو في النسب. وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم» وهي في مصحف أبيّ.
6 -
لا مانع من الإحسان لغير الوارثين في الحياة، والوصية عند الموت لهم؛ لقوله تعالى:{إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} أي إن ذلك جائز.
وقال محمد بن الحنفية: «إنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني»
(1)
أي أنه تجوز الوصية للقريب والوليّ وإن كان كافرا؛ لأن الكافر ولي في النسب لا في الدين، فيوصى له بوصية. ويكون معنى الآية: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم.
7 -
رسالات الأنبياء في الأصول العامة كأصول الاعتقاد والأخلاق واحدة، وهم متناصرون متعاونون فيما بينهم، ويكمّل بعضهم رسالة البعض الآخر؛ لقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ..} . الآية، أي أخذنا عهدهم على الوفاء بما أوحي إليهم، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضا، وذلك
(1)
أحكام القرآن للجصاص: 355/ 3
حكم قديم مسطور حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء، وهو عهد وثيق عظيم على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا.
وقد خص الله تعالى خمسة أنبياء بالذكر (وهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى). تفضيلا لهم؛ لأنهم أولو العزم من الرسل وأئمة الأمم، ولأنهم أصحاب الشرائع والكتب. وقدّم محمدا صلى الله عليه وسلم في الذكر؛ لما
رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ..} . فقال: «كنت أولهم في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم»
(1)
.
8 -
قوله تعالى: {لِيَسْئَلَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} فيه أربعة أوجه
(2)
:
أحدها-ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم؟ الثاني-ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم.
الثالث-ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم.
الرابع-ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، كما قال تعالى:
{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف 6/ 7].
وفائدة سؤال الأنبياء: توبيخ الكفار، كما قال تعالى لعيسى عليه السلام:
{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ} [المائدة 116/ 5].
(1)
لكن فيه راو ضعيف.
(2)
تفسير القرطبي: 128/ 14