الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهلاك، قال مجاهد: كل نبي أبو أمته. ثم أردف ذلك بعلو منزلته وسمو مهمته وهو تبليغ دعوة الله، وفاء بالميثاق (العهد المؤكد) الذي أخذه الله عليه وعلى سائر الأنبياء من قبله.
التفسير والبيان:
{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي إن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أرأف بجماعة المؤمنين من أمته وأعطف عليهم من أنفسهم؛ إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، كما
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها تقّحم الفراش»
(1)
ولأنه ينزّل لهم منزلة الأب، فالنفس قد تأمر بالسوء، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو لا يأمر إلا بالخير ولا ينطق إلا بالوحي.
فإذا كان زيد يعتز بدعوته لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تكسبه جاها كبيرا في الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين أصبحوا جميعا يعتزون بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم العامة لهم، وقد نزلت الآية تسلية لزيد، وبيانا للانتقال من الأبوة الخاصة لزيد إلى الأبوة العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا، لا فرق فيها بين الابن الصلبي وغيره فهو يرعاهم حق الرعاية ويهديهم الطريق المستقيم.
وجعلت الولاية مطلقة لتشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية.
وما دام محمد صلى الله عليه وسلم أولى من النفس، فهو أولى من جميع الناس بطريق الأولى، وحكمه مقدّم على اختيارهم لأنفسهم، ومحبته مقدمة أيضا على حب النفس التي بين الجنبين، كما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء 65/ 4].
(1)
نص الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، وأنا أخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه» . قال العلماء: الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار.
وثبت في صحيح البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»
وروى البخاري في صحيحة أيضا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا-عيالا-فليأتني، فأنا مولاه» .
وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» .
ومبعث هذا ما علم الله تعالى من توافر شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
{وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} أي إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، أي في تحريم زواجهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستحقاق التكريم والتعظيم والتوقير، وأما في غير ذلك فهن أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين، ولا يحل النظر إليهن ولا الخلوة بهن، ولا ارثهن ونحو ذلك.
وهذا بالنسبة للرجال، فهم كأمهاتهم، وأما النساء فلا يقال لهن عند البعض: أمهات المؤمنات، لذا قالت عائشة رضي الله عنها لمن قالت لها:
يا أمه: أنا أم رجالكم، لا أم نسائكم. وسيأتي بيان الخلاف.
ويثبت هذا الوصف لجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى المطلّقة، لكن صحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. واختار الرازي والغزالي
القطع بحل المرأة التي اختارت الدنيا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التخيير الآتية.
ثم بيّن الله تعالى بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ} حكم الميراث، وبقوله:
{إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ} حكم الوصية، ليبين الفرق بين ولاية النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وولاية المؤمنين لأقاربهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، فلا توارث بينه وبين أقاربه، لولايته العامة، والمؤمنون يرث بعضهم من بعض إذا كانوا ذوي قرابة، وهم أولى ببعضهم في النفع بميراث وغيره، إلا في حال بر صديق أو محتاج بالوصية، فيصير أولى من قريبه، فتقطع الوصية الإرث، فقال:
{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} أي وذوو القرابات مطلقا، سواء أكانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام أولى بمنافع بعضهم بالتوارث وغيره من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار، أي بحق الدين وهو الإيمان، أو بحق الهجرة، وذلك في فرض الله وشرعه وما كتبه على عباده، أو في القرآن، أو في اللوح المحفوظ.
وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} كما ذكر الزمخشري إما بيان راجع لأولي الأرحام (أي الأقرباء) والمعنى: وأولو القرابة من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بنفع بعض أو بميراثه من الأجانب. وإما لابتداء الغاية، والمعنى:
وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدّين، ومن المهاجرين بحق الهجرة
(1)
. وعلى هذا المعنى الثاني وهو المشهور تكون الآية إبطالا لما كان في بدء الإسلام من التوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، بسبب الأخوّة التي
آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه وخارجة بن زيد، وآخى
(1)
الكشاف: 531/ 2
بين عمر وشخص آخر، وآخى بين عثمان ورجل من بني زريق، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك
(1)
.
ويؤكد هذا المعنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عباس:
«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» والمراد: بطل حكم الهجرة وزالت الأحكام المترتبة عليها كالتوارث بها.
{إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} أي ذهب الميراث بالتآخي، وبقي حكم الوصية والنصر والبر والصلة والإحسان، أي إلا أن توصوا إلى أصدقائكم الذين توالونهم وتودونهم من المؤمنين والمهاجرين وصية، والمعروف هنا:
الوصية، ومن المعلوم أن الدّين والوصية مقدّمان شرعا على الميراث، كما قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ} [النساء 11/ 4].
ومعنى الآية: إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
{كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} أي إن هذا الحكم (وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدّل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ما، لمصلحة مؤقتة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري التشريعي.
وبعد بيان مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين، أبان الله تعالى سمو مهمته وعلو منزلته في تبليغ الشرائع، والدعوة إلى دين الله ورسالة ربه، ووفائه بتلك المهمة، عملا بمقتضى ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله، وكأنه تعالى من بداية السورة إلى هنا قال لنبيه تعليما للأمة، اتق الله، ولا تخف أحدا، واذكر
(1)
تفسير ابن كثير: 468/ 3
أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون شرائع الله، ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع، فقال:
{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} أي واذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ولا سيما أولو العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في الآية في أنهم يبلغون رسالة الله إلى أقوامهم، ويقيمون دين الله تعالى، ويتناصرون ويتعاونون فيما بينهم بإكمال بعضهم رسالة من تقدمه، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ، مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا:}
{أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} [آل عمران 81/ 3] أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نبي بعده.
ثم أكد الله تعالى ذلك الميثاق بعينه، فوصفه بالشدة والغلظ مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تبعته (مسئوليته) والمعنى: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا، فالميثاق الثاني هو الأول مؤكدا باليمين، أو مكررا لبيان صفته، من طريق استعارة الغلظ من صفة الأجسام المادية إلى الأشياء المعنوية، مبالغة في بيان حرمته وعظمه وخطورته، كما بينت.
وقد خص الله تعالى بالذكر خمسة رسل هم أولو العزم، تنويها بشأنهم، وتبيان أهمية رسالاتهم، من باب عطف الخاص على العام، كما في آية أخرى:
ثم ذكر الله تعالى أنه سائل الأنبياء عن التبليغ والمؤمنين عن الإجابة والمكذبين عن التكذيب، فقال: