الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرقعة» أي سبع سموات. أو «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله» .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد، فخدّت في الأرض، وجيء بهم مكتّفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وأموالهم، لذا قال تعالى:
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وإخافتهم المسلمين، وقصدهم قتلهم، فانعكس الحال عليهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وأولادهم ونساءهم للسبي، فريقا تقتلون، وهم الرجال المقاتلة، وتأسرون فريقا، وهم النساء والصبيان.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي جعل الله لكم أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة، وأرضا أخرى لم تطأها أقدامكم بعد وهي التي ستفتح في المستقبل، بعد بني قريظة، مثل خيبر ومكة وبلاد فارس والروم.
وكان الله صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، فهو كما ورّثكم أرض بني قريظة، ونصركم عليهم، قادر على أن يورثكم غير ذلك، وينصركم على أقوام آخرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية:
1 -
إن النصر الحاسم للمسلمين على المشركين في غزوة الخندق والأحزاب، وعلى يهود بني قريظة ناقضي العهد نعمة عظمي تستوجب الشكر والحمد لله تعالى؛ لأنه نصر دبره الله عز وجل بإرسال الريح والملائكة، وقد صدقت فيه
عزيمة المؤمنين على خوض المعركة، والدفاع عن مدينتهم عاصمة الإسلام.
2 -
إن السلطان يشاور أصحابه وخاصته في أمر القتال؛ لأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماع الأحزاب وخروجهم إلى المدينة، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا آل البيت» . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حرّ، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين.
وفي هذا الخبر أيضا وجوب التحصن من العدوّ بما أمكن من الأسباب، وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم.
أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عنّي الغبار جلد بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول:
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبّت الأقدام إن لاقينا
3 -
دلت أخبار السيرة السالفة الذكر ورواية النسائي عن البراء وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صخرة أثناء حفر الخندق ضربات ثلاثا، أضاءت له الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها، وأنارت له الثانية مدائن قيصر وما حولها، وأبدت له الثالثة مدائن الحبشة وما حولها، ورأى سلمان بعينه ذلك، وتلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر بها بفتح هذه البلاد،
وقال عند ذلك فيما رواه مالك: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» .
4 -
أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
فقال لهم الرسول: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته» وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى أموالهم وذراريهم. وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة.
5 -
كان تجمع الأحزاب على المدينة وحصارها مثار قلق واضطراب، ومبعث بلاء وشدة خوف، فانتابتهم الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف.
فأقام المشركون في حصارهم المدينة بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، لم يكن بينهم وبين المسلمين إلا الرمي بالنّبل والحصى،
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عمرو المرّي، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكان ذلك مراوضة ولم تكن عقدا. فلما وافقا استشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال:«أنتم وذاك» .
وقال لعيينة والحارث: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف» . وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة، فمحاها.
6 -
اختراق الخندق: اخترق فوارس من قريش الخندق، منهم عمرو بن ودّ العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهريّ، حتى صاروا بين الخندق وبين سلع،
وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، فنادى عمرو: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال:
لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله، ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علي: أنا والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو ونزل عن فرسه، فعقره، وصار نحو علي، فتنازلا وتجاولا، حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي، اقتحموا بخيلهم الثّغرة منهزمين هاربين.
ورمي يومئذ سعد بن معاذ، فقطع منه الأكحل
(1)
، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة، وهو الذي
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «اهتز لموته عرش الرحمن» يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه، واهتزوا له.
7 -
مشروعية الخدعة في الحرب، لما فعل نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الذي استطاع بدهائه وحيلته بذر بذور الفرقة بين العرب وبين اليهود، ونجح في خدعته، كما تقدم بيانه.
8 -
الاجتهاد جائز، سواء أصاب المجتهد أو أخطأ، فقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم كلاّ
(1)
الأكحل: عرق في وسط الذراع.
من الفريقين: الذي صلى العصر في الطريق إلى بني قريظة، والذي أخّر الصلاة حتى فات وقتها، عملا
بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين.
9 -
قسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما، قيل: وهي أول غنيمة قسّم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وفي قول آخر: إن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش. ووفّق ابن عبد البر بين القولين: أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية [الأنفال 41/ 8]. وكان عبد الله بن جحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
10 -
أرسل الله على الأحزاب ريح الصّبا يوم الخندق، حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وأنزل الملائكة لتفريق الجموع، ولم تقاتل يومئذ،
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد والشيخان: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها.
قال المفسرون: بعث الله تعالى الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيّد كل خباء يقول: يا بني فلان هلمّ إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاء النّجاء، لما بعث الله تعالى عليهم من الرّعب.
11 -
لن يمنع حذر من قدر، فمن حضر أجله، مات أو قتل، ولا ينفعه الفرار، ويكون تمتعه في الدنيا بعد الفرار إلى انقضاء الأجل زمنا قليلا، وكل ما هو آت فقريب.
12 -
للمنافقين خصال اجتماعية وشخصية قبيحة ومذمومة، فهم بخلاء على المسلمين فيما يحقق المصلحة العامة، بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، جبناء يخافون من لقاء الشجعان، سليطو اللسان يؤذون غيرهم بالكلام يتفاخرون بما هو كذب وزور، والحقيقة أنهم كفرة، لم يؤمنوا بقلوبهم، وإن كان ظاهرهم الإسلام، لوصف الله عز وجل لهم بالكفر في قوله:{أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} وهم كغيرهم من الكفار حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فلا ثواب لهم؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها، وإحباط أعمالهم على الله هيّن يسير.
ولجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا، وكانوا قد انصرفوا، وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال، يتمنوا أن يكونوا مع أعراب البادية، حذرا من القتل.
وانتظارا لإحاطة السوء والهلاك بالمسلمين، يتساءلون ويتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه! أما غلب أبو سفيان وأحزابه! ولو كانوا في ميدان المعركة ما قاتلوا إلا رياء وسمعة.
13 -
قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية عتاب للمتخلفين عن القتال، معناه: كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق، والتأسي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر، ويرجو لقاء الله بإيمانه، ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال، ويذكر الله ذكرا كثيرا، خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه.
وهل التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الإيجاب أو الاستحباب! قولان:
أحدهما-على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب.
الثاني-على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب.
قال القرطبي: ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
14 -
موقف المؤمنين نقيض موقف المنافقين، فهم مصدقون واثقون بوعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تزدهم المحنة والابتلاء والنظر إلى الأحزاب إلا إيمانا بالله وتسليما للقضاء.
15 -
التجسس على الأعداء أمر جائز شرعا،
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأن يتعرف أخبار الأحزاب وانصرافهم عن المدينة، قائلا له:«انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني» .
والدعاء لله تعالى مطلوب في أي وقت ولأي حاجة، وبخاصة وقت الشدة،
فقد انطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول:«يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» .
فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك» فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول:
«شكرا شكرا كما رحمتني، ورحمت أصحابي» . وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا؛ فبشر أصحابه بذلك.
16 -
تتلاحق مواكب الشهداء وتتوالى على درب الجهاد في سبيل الله، فمنهم من يستشهد في معركة، ومنهم من ينتظر أجله في معركة أخرى، وهذا أمارة الخير، ودليل على استدامة الكفاح والإخلاص جيلا بعد جيل.