الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية على كل شيء ومنه الحشر والبعث، وبعد توطين عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتزاز بدعوته وعدم الاهتمام بموقف المشركين منها، وترك الالتفات إليهم، أمر الله تعالى بمتابعة دين الإسلام، والثبات عليه، والإخلاص في العمل الذي اشتمل عليه؛ لأنه فطرة الله التي أودع النفوس والعقول عليها، والاعتراف بمضمونها، والشعور الصافي بمدلولها.
التفسير والبيان:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} أي إذا تبين الحق في الاعتقاد والدين بدلائله السابقة، وبطل الشرك ومعالمه، فاتبع الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وأكملها لك، وهو دين الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه خلقهم على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره، وكن بذلك مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أيضا. وتلك الفطرة كما قال تعالى:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا: بَلى} [الأعراف 172/ 7] وكما
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم وأحمد: «إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم»
وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء
(1)
، هل تحسّون فيها من جدعاء
(2)
».
فكل من الآيتين والحديثين دليل على نقاوة أصل الخلق، وأن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وعلى الإسلام الصافي، ثم طرأ على بعضهم الأديان
(1)
مستوية كاملة لا نقص في شيء من بدنها.
(2)
جدعاء: مقطوعة الأذن أو الأنف.
الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقوله: {فِطْرَتَ اللهِ} أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وقدر فعل الخطاب للجماعة لقوله:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} .
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} أي لا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغير فطرة الله أي الخلقة الأصلية والملة السليمة، وهو خبر في معنى النهي أو الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها.
وهذا دليل على سلامة الخلقة العقدية، ونقاوة العقل البشري في أصل التكوين والوجود، ثم يحدث التغيير بتأثيرات البيئة من أهواء وعلوم ومعارف زائغة، وموروثات باطلة وتقليد مستمر للأسلاف، دون إعمال الفكر وتكوين الاعتقاد بالنظرة المستقلة الصائبة، ولو ترك الإنسان وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا؛ لأنه دين الفطرة والعقل.
{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ذلك المأمور به من اتباع ملة التوحيد والتمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حق المعرفة، فهم ناكبون عنه، لعدم إعمال فكرهم والإفادة من العلم الصحيح والبراهين الواضحة الدالة عليه، ولو فكروا وعقلوا وعلموا حق العلم، لما عدلوا عن ملة التوحيد وشريعة الإسلام وهديه.
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي اتبعوا دين الله، مقبلين عليه، راجعين إليه، وإذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته، بل خافوه وداوموا على العبادة، وراقبوه فلا تفرطوا في طاعة، ولا ترتكبوا معصية، وأقيموا الصلاة، أي داوموا على إقامتها كاملة
الأركان مستوفية الشروط، قائمة على الخشوع وتعظيم الله عز وجل، ولا تكونوا بعد الإيمان من المشركين به غيره، فلا تقصدوا بذلك غير الله، أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة، لا يريدون بها سواه، والعبادة الخالصة هي كما
جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عمر: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل، فقال عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهن المنجيات: الإخلاص، وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت.
وأوصاف المشركين هي:
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي من المشركين الذين فرقوا دينهم أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، وبدلوا دين الفطرة وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وصاروا فرقا مختلفة كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة، كل فرقة منهم تفرح بما عندها وتسر وتعجب، وتزعم أن الصواب في جانبها، مع أنهم على الباطل الذي يناقض الحق الذي أراده الله واختاره دينا لعباده.
وهذا يشمل أيضا اختلاف الأمة الإسلامية، اختلفوا بينهم على مذاهب شتى في الاعتقاد والعمل، كلها ضلالة، إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، كما
روى الحاكم في مستدركه أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم، فقال:«من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
وقرئ: «فارقوا دينهم» .