الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، ولأنه تعالى وصف الفاحشة بالتبيين، والزنى مما يتستر به، وينبغي حمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
1 -
الآيات حث واضح على منع إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو مضايقته، ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الطاهر، وتسأم لمستوى الأنبياء، وترفع عن حطام الدنيا، وتربية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم على الزهد والعفة والخلق السامي، وإعظام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.} . متصلة بما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان قد تأذى ببعض الزوجات.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا، وعرض عليه مفاتح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها؛ فلما اختارها-وهي أعلى المنزلتين-أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.
2 -
القول الأصح في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه أنه خيّرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية، أو الطلاق، فاخترن البقاء؛ لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعدّه طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق.
وقيل: إنما خيّرهن بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق.
3 -
اختلف العلماء في المخيّرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر؛ لقول عائشة فيما أخرجه الصحيحان:
خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعده علينا طلاقا.
وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية. وهذا غريب.
وفي رواية أخرى عن علي، وهو قول الحنفية: أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة؛ لأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن.
وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث.
وذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك؛ أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه. أما المخيّرة إذا اختارت نفسها، وهي مدخول بها، فهو الطلاق كله، ولا عبرة بإنكار الزوج؛ لأن معنى التخيير: التسريح، والتسريح: البتات؛ قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} [البقرة 229/ 2] وقال تعالى في آية التخيير: {فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً} والتسريح بإحسان: هو الطلقة الثالثة، ومعنى التخيير التسريح. وعلى هذا يكون طلاق المخيرة ثلاثا عند الإمام مالك.
وأكثر الفقهاء في تحديد زمن الخيار على أن لها الخيار: ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا
من مجلسهما، بطل ما كان من ذلك إليها، ويرى آخرون أن ما ملكته يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها، وهذا عند المالكية هو الصحيح
لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة فيما رواه البخاري والترمذي: «إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» فهذا دليل على استمرار التخيير، حيث جعل لعائشة التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر.
والظاهر أن من اختارت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، أي لا يباشره أصلا، عملا بعلو منصبه، وسمو خلقه.
4 -
جعل الله ثواب طاعة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن، بنص الآية هنا:{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} والآية التي بعدها:
{نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} فأخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة -والله عاصم رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك-يضاعف لها العذاب ضعفين؛ لشرف منزلتهن، وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وبينت الشريعة في مواضع كثيرة أنه كلما تضاعفت الحرمات، فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد، والثيب على البكر.
ولما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي، وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وضعف الشيء مثله، فمعنى الضعفين: معنى المثلين أو المرتين، فلو فرض وقوع ما يوجب الحدّ منهن-وقد أعاذهن الله من ذلك-حدّت الواحدة حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور 2/ 24]. ويدل على هذا {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} .
انتهى الجزء الحادي والعشرون ولله الحمد