الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة [للدكتور سعيد عباس الفاتح عاشور]
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية هى باعتراف الباحثين أعظم حضارة شهدها العالم أجمع طوال العصور الوسطى؛ فإن جزءا هاما من هذه الحضارة يكمن بين طيات الكتب التي تشكل ركنا أساسيا من التراث العربى.
ومنذ فجر النهضة الأوربية الحديثة والتراث العربى يحظى بعناية فائقة، ظهرت في القرنين الثانى عشر والثالث عشر للميلاد، عند ما أقبل الأوربيون على ترجمة كل ما وصل إلى أيديهم من ثمار الفكر العربى إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات القومية التي ظهرت في الغرب الأوربى مع أواخر العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة.
ثم كان أن اشتد تيار الإستشراق وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فظهرت مجموعة من المستشرقين الذين تعمقوا في دراسة تراث الفكر العربى، وهؤلاء لم يكتفوا بترجمة أجزاء من هذا التراث، وإنما امتد نشاطهم إلى التحقيق والمقارنة ونشر المتون في صورتها الأصلية العربية.
ومن الطبيعى أن يدرك أبناء العروبة في نهضتهم الحديثة أنهم أحق الناس برعاية تراث آبائهم وأجدادهم، وأقدرهم على تحقيق ذلك التراث ونشره.
وهكذا أخذ علماء العرب زمام حركة إحياء التراث العربى، ووجدوا في هذا الإحياء إحساسا بالأمل وشعورا بالفخر وتعبيرا عن الوفاء للسلف العظيم.
على أن حركة تحقيق التراث العربى شابتها في جميع أدوارها ظاهرة واضحة، هى أن العمل كان يبدأ بحماسة وسرعة في تحقيق كثير من الموسوعات، ثم لا يلبث أن يتوقف العمل في تحقيق هذه الموسوعة أو تلك قبل أن تكتمل. وهكذا ألفينا أنفسنا أمام حقيقة لا نستطيع أن ننكرها أو نتغاضى عنها، هى أن جزءا لا يستهان به من تراث الفكر العربى تم تحقيقه ونشره في صورة مبتورة، بحيث ظهرت الأجزاء الأولى من الكتاب أو الموسوعة في حين ظلت بقية الأجزاء في صورتها الخطية المليئة بأخطاء النساخ، يصعب الرجوع إليها، ويتعذر الإستفادة منها فائدة كاملة.
ولا تقتصر خطورة هذا الوضع على المصاعب التي يصادفها الباحثون في الرجوع إلى الأجزاء الخطية من تراثنا العربى، وبالتالى على عدم الإفادة من هذا التراث فائدة تامة متكاملة، وإنما هناك ما هو أشد خطرا وأبعد أثرا. ذلك أن الأجزاء الأخيرة من أية موسوعة تاريخية هى في كثير من الحالات أعظم أهمية وأكثر فائدة، لأن المؤلف كان يدونها في وقت متأخر نسبيا وقد اكتمل نضجه الفكرى، وازدادت دائرة علمه اتساعا. وفى موسوعات علم التاريخ وحولياته - بوجه خاص - نجد هذه الظاهرة أشد ما تكون وضوحا، لأن المؤرخ إذا اعتمد على الرواية والنقل في تسجيل أحداث السنوات الأولى من كتابه، فإنه في تأريخه للسنوات الأخيرة من موسوعته يروى أحداثا شاهدها بنفسه وربما شارك في صنعها.
ولا تخفى علينا الأسباب الحقيقية لتوقف العمل في تحقيق ونشر كثير من المخطوطات العربية عند مرحلة معينة. فتراث الفكر العربى جمع بين كثرة العدد وضخامة الحجم من ناحية، وبين العمق والأصالة من ناحية أخرى. وهكذا تبدو معظم الموسوعات العربية - من ناحيتى الكم والكيف - أعظم من أن
يستطيع عالم من علماء عصرنا الحديث - مهما يبلغ علمه وجهده - أن يحققه بمفرده. وكانت النتيجة الحتمية لهذا الوضع، أن يبدأ العمل في تحقيق الموسوعة بداية تتصف بالنشاط والحماسة - وربما السرعة في الإنجاز - وما زال هذا العالم أو ذلك يطلق العنان لحماسته وجهده، حتى يضطره قانون الطبيعة إلى الرضوخ، فيجد نفسه وقد نفدت طاقته وعجزت قدرته عن الاستمرار في المضى في حمل الأمانة، فيتوقف العمل بطريقة تلقائية قد تكون تدريجية وقد تكون مفاجئة.
على أن توقف العمل في إنجاز تحقيق بعض جوانب التراث العربى على هذه الصورة، لا ينبغى - من وجهة نظرنا - أن يكون أكثر من نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. فالأمانة تقع على كواهل الأجيال المتعاقبة لا على كاهل جيل بعينه. وإذا كان الجيل السابق قد وضع حجر الأساس في بناء حركة إحياء التراث العربى، فلا أقل من أن ينهض الجيل اللاحق بالأمانة كاملة، فينهض بدوره ويؤدى واجبه في إتمام البناء الكبير.
وهكذا أرى أنه قبل أن نفكر في الشروع في تحقيق وإحياء جانب جديد من جوانب تراثنا العربى، فإنه يجب أن نستكمل أولا الجوانب السابقة التي بدأ بالعمل فيها الجيل أو الأجيال السابقة. وتنفيذا لهذا المبدأ بدأنا باستكمال تحقيق كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزى، وهو الكتاب الذى أتم أستاذنا المرحوم الدكتور محمد مصطفى زيادة تحقيق نصفه ممثلا في الجزأين الأول والثانى. وكان أن نهضنا نحن بتحقيق النصف الباقى من كتاب السلوك ممثلا في الجزأين الثالث والرابع، وانتهينا تماما من تحقيقه حتى نهايته، ونرجو أن تفرغ مطبعة دار الكتب المصرية من استكمال طبعه قريبا.
ومع كتاب السلوك للمقريزى أخذنا في اعتبارنا ضرورة إتمام نشر كتاب آخر، هو كتاب مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل، بعد أن حقق المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال ما يقرب من نصفه، وترك للخلف مهمة إتمام النصف الآخر. ولما كان تحقيق بقية كتاب السلوك للمقريزى كفيلا بأن يستنفد كل طاقتى وجهدى، فإننى اخترت للعمل في تحقيق بقية كتاب مفرج الكروب، تلميذى وزميلى الدكتور حسنين محمد ربيع، مدرس تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكان أن رسمت معه خطة العمل، ولازمته الشهور الطوال، نجلس سويا في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، أعيش مع المقريزى، ويعيش هو مع ابن واصل.
وهكذا حتى أتم الدكتور حسنين محمد ربيع تحقيق هذا الجزء الذى نقدمه اليوم لمقدرى مكانة التراث العربى. وإذا قلت أننى قمت بمراجعة هذا الجزء مراجعة دقيقة قبل أن أسمح بطبعه، فإننى لا أقول هذا لا نتقص من قيمة الجهد الشاق الكبير الذى قام به الدكتور حسنين ربيع في تحقيق هذا الجزء ووضع حواشيه، وإنما لأتحمل نصيبى كاملا في المسئولية عن كل لفظ ورد في المتن.
…
ويعالج هذا الجزء الرابع من مفرج الكروب السنوات من سنة 615 هـ التي توقف عندها في التحقيق المرحوم الدكتور الشيال، حتى سنة 628 هـ.
أما السبب في اختيارنا سنة 628 هـ بالذات لتكون حدا للجزء الرابع من تاريخ مفرج الكروب، فلأنها السنة التي ينتهى بها كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وهو الكتاب الذى اعتمد عليه واستفاد منه ابن واصل، مما يجعل هذه السنة تمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة بالنسبة لكتاب مفرج الكروب.
وفى هذا الجزء الرابع من كتاب مفرج الكروب، نلمس نغمة جديدة من ابن واصل عند ما يستخدم ضمير المتكلم في كتابته، مما يوضح أنه صار فتى يعى بعض الأحداث التي يسردها، والتي رآها بنفسه أو سمعها من بعض المقربين والثقات. من ذلك ما يرويه ابن واصل من وفاة أم الملك المظفر - وهى زوج الملك المنصور - سنة 616 هـ، وكيف أن والد ابن واصل أمّ المصلين عليها في قلعة حماه، ثم يسترسل ابن واصل متحدثا عن نفسه، فيقول ما نصه:«وحضرت معه يومئذ وعمرى نحو اثنتى عشرة سنة. ثم عمل السلطان رحمه الله عزاها بالمدرسة المنصورية ظاهر حماه، ورأيته وهو جالس يمنة المحراب وهو مكتئب حزين، وهو لابس الحداد ثوب أزرق وعمامته زرقاء، وإلى جانبه أولاده الملك الناصر قلج أرسلان وإخوته، وعليهم كلهم الحداد. . .» .
وفى حوادث سنة 619 هـ يروى ابن واصل كيف أنه شاهد بعينيه دخول الملك المعظم عيسى حماه، فيقول:«وشاهدته رحمه الله حين دخوله إليها، وعمرى خمس عشرة سنة يومئذ» . وفى حوادث سنة 625 هـ يروى ابن واصل كيف استنجد الملك الناصر داود بعمه الملك الأشرف ضد عمه الآخر الملك الكامل، ويحكى عن نفسه فيقول أنه عند وصول الأشرف إلى دمشق «خرج الملك الناصر لاستقباله، وكنت يومئذ بدمشق وشاهدت دخوله القلعة. . .» .
وإذا كان ابن واصل لم يشاهد بعينيه بعض الأحداث التي تعرض لها بالذكر في هذا الجزء الرابع من كتابه، فإنه سمع بأذنيه الكثير مما رواه شاهد والعيان لتلك الأحداث. من ذلك ما يقوله ابن واصل في حوادث سنة 623 هـ:
«ولقد حكى لى ظهير الدين التفليسى رحمه الله وكان حضر فتح جلال الدين لها [لمدينة تفليس] قال. . .» . وعن الهدنة بين السلطان الكامل والامبراطور فردريك الثانى، يقول ابن واصل في حوادث سنة 625 هـ: «حكى
لى والدى. . .». ثم يمضى ابن واصل في روايته فيقول «حكى لى شمس الدين رحمه الله قال: لما قدم الانبرطور القدس لازمته كما أمرنى السلطان الملك الكامل، ودخلت معه إلى الحرم الشريف. . .» . ويروى قصة الأحداث كما رواها له القاضى شمس الدين قاضى نابلس، الذى أمره السلطان الكامل بملازمة خدمة الامبراطور فردريك ومرافقته إلى أن يزور القدس ويرجع إلى عكا (حوادث سنة 625، 626 هـ). وينتهز ابن واصل الفرصة للاستطراد في الكلام عن علاقة بنى أيوب من سلالة السلطان الكامل بالامبراطور فردريك بعد عودته إلى بلاده، ثم بابنه مانفرد. ويحكى كيف أن السلطان الظاهر بيبرس أرسله سنة 659 هـ رسولا إلى الملك مانفرد. . . ويحكى الكثير عن مشاهداته في صقلية وجنوب إيطاليا وأوضاع المسلمين فيهما.
هذا بالإضافة إلى ما نصادفه في هذا الجزء من إشارات تلقى أضواء على حياة ابن واصل نفسه، فهو يحكى عن نفسه أنه في سنة 624 هـ قرأ بالحرم الشريف بالقدس على الشيخ شمس الدين رزمين البعلبكى كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى، وأنه جود عليه القرآن الكريم. وفى حوادث سنة 625 هـ يحكى ابن واصل كيف أنه حل محل أبيه في المدرسة الناصرية الصلاحية بالقدس، عند ما حج أبوه في تلك السنة. ويقول في حوادث سنة 628 هـ أنه كان بحلب في تلك السنة، «توجهت إليها للاشتغال فيها بالعلم على الشيخ نجم الدين الخباز في المذهب والأصولين، وعلى الشيخ موفق الدين بن يعيش في علم النحو واللغة، ولتحصل لى البركة بالقاضى بهاء الدين بن شداد، رحمه الله» .
أما عن الاشارات التي أوردها ابن واصل في هذا الجزء عن أبيه ومكانته عند ملوك بنى أيوب من ناحية، ثم ولاء ابن واصل نفسه للبيت الأيوبى والإشادة بمناقبه من ناحية أخرى، فهى عديدة، تزداد كثرة كلما
ازداد ابن واصل نفسه إدراكا ورشدا. ففى سنة 621 هـ يروى ابن واصل كيف أرسل السلطان الملك المعظم يستدعى أباه إلى خدمته، «فسافرنا من حماه في أواخر شعبان، فوجدنا منه رحمه الله إقبالا عظيما» .
…
أما عن الخطة التي اتبعت في تحقيق هذا الجزء والأجزاء التالية من كتاب مفرج الكروب، فقد روعى فيها الالتزام بالقواعد التي وضعها المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في تحقيق الأجزاء السابقة من الكتاب، تقديرا لجهده الرائد من ناحية، ومحافظة على وحدة الصورة المتكاملة للكتاب من ناحية أخرى. وبذلك يأتى هذا العمل الذى ينهض به الدكتور حسنين ربيع متمما للعمل الكبير الذى بدأه الدكتور الشيال.
وقد أشار المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في مقدمته للجزء الأول من مفرج الكروب إلى أنه يوجد من هذا الكتاب أربع نسخ خطية معروفة هى:.
1 -
نسخة مكتبة جامعة كمبردج رقم 1079، ويوجد منها صورة شمسية بمكتبه جامعة القاهرة رقم 24050، وتنتهى هذه النسخة بحوادث سنة 616 هـ، أي السنة التي مات فيها العادل الأول وتولى فيها السلطان الكامل محمد.
2 -
نسخة باريس رقم 1702 وتوجد منها صورة شمسية بدار الكتب المصرية رقم 5319، وتحتوى على 442 ورقة وتشتمل على مخطوطة ابن واصل بأكملها.
3 -
نسخة باريس رقم 1703، وتوجد منها صورة شمسية بمكتبة جامعة الإسكندرية، وتقع هذه النسخة في 216 ورقة، وتبدأ ببعض حوادث سنة 635 هـ وتنتهى بحوادث سنه 659 هـ.
4 -
نسخة بمكتبة مللا جلبى باستانبول رقم 119، وتوجد منها صورة شمسية بمكتبة جامعة الاسكندرية رقم 498، وتقع في 200 ورقة وتحتوى هذه النسخه على أواسط الكتاب، إذ تبدأ بالتأريخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنه 589 هـ، وتنتهى بحوادث سنه 635 هـ.
ومن الواضح أنه في تحقيق هذا الجزء الذى يبدأ ببقية حوادث سنة 615 هـ ويمتد حتى حوادث سنة 628 هـ، كان علينا أن نعتمد على النسختين الثانية والرابعة، حيث أن السنوات التي احتوتها نسخة كامبردج تم تحقيقها ونشرها في الأجزاء السابقة، في حين أن النسخة الباريسية رقم 1703 تبدأ بحوادث سنة 635 هـ. واستقر رأينا - مع الدكتور حسنين ربيع - على اتخاذ نسخة مللا جلبى أصلا للنشر، ورمز لها في التحقيق بحرف [م]، مع مقابلتها بنسخة باريس رقم 1702 التي رمز لها في التحقيق بحرف [س].
ذلك أنه بالأضافة إلى ما ذكره المرحوم الدكتور الشيال من أن نسخة مللا جلبى تمثل أقدم النسخ الموجودة من مخطوطة ابن واصل، في حين تمثل نسخة باريس (1702) أحدثها، فإن نسخة مللا جلبى أكثر صحة واستيفاء ودقة من نسخة باريس التي يزيد من قصورها ما بها من خروم أضاعت من المتن صفحات عديدة، فضلا عما في ترقيم ورقاتها من اضطراب، وما في عباراتها من تحريف وأخطاء، أشار المحقق إلى بعضها أثناء تحقيقه، في هوامش الصفحات.
…
وبعد، فإنه لا يسعنى في ختام هذه الكلمة الموجزة سوى أن أذكر فضل المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال في التنبيه إلى أهمية كتاب مفرج الكروب لابن واصل، وفى وضع الأسس السليمة لتحقيق هذا الكتاب ونشره، ثم في تحقيق ونشر الأجزاء الثلاثة الأولى منه.
ومن ناحية أخرى فإننى أبارك الجهد الكبير الذى يبذله الدكتور حسنين محمد ربيع في تحقيق بقية كتاب مفرج الكروب، وأدعو له بالتوفيق في إتمام بقية هذا الكتاب الهام، ليتم بذلك إضافة لبنة جديدة في صرح إحياء تراثنا العربى.
والله ولى التوفيق
دكتور
سعيد عبد الفتاح عاشور
أستاذ كرسى تاريخ العصور الوسطى
كلية الآداب - جامعة القاهرة