الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالله رحمه الله وهو آخرهم، وقتل شهيدا بيد التتر، وزال بزواله الدولة العباسية بالعراق.
ذكر سيرة الأمام الناصر لدين الله رحمه الله
كان شهما شجاعا أبى النفس حازما متيقظا، ذا فكرة صائبة وعقل رصين، ودهاء ومكر، وكانت هيبته عظيمة جدا، وكان له أصحاب أخبار في العراق [122 ا] وسائر الأطراف يطالعونه بجزئيات الأمور وكلياتها، فكان لا يخفى عنه من الأمور إلا ما قل، وكان ذا سطوة شديدة فكان أهل العراق يخاف أحدهم أن يتحدث مع زوجته في منزله بما يظن أن الخليفة إذا بلغه عاقب عليه. وقد ذكر أن رجلا من أهل بغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه، فطالع أصحاب الأخبار الخليفة بذلك، فكتب [الخليفة (1)] في جواب ذلك: سوء أدب من صاحب الدار، وفضول من كاتب المطالعة.
وكان مع ذلك ردئ السيرة في رعيته، مائلا إلى الظلم والعسف، فخربت في أيامه العراق، وتفرق أهلها في البلاد. وأخذ أموالهم وأملاكهم، ومع هذا فكان له بر ومعروف وصدقات دارة. وكان يفعل أفعالا متضادة؛ عمل دار الضيافة (2) ببغداد ليفطر عليها الناس في شهر رمضان، فبقيت مدة ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج فبقيت مدة ثم أبطلها. وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ثم أعادها.
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(2)
كذا في نسختى المخطوطة، وفى ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 440 «دور الضيافة» .
وكان يميل إلى رمى البندق (1) واللعب بالطيور المناسيب، ولبس سراويلات النبوة والفتوة (2). وكاتب سائر ملوك الأطراف في أن ينتموا إليه في رمى البندق وفى الفتوة. فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويلها ويدعى له فيها، فلبس سائر ملوك الأطراف سراويلات الفتوة له، وادعوا له في رمى البندق. ووصل رسوله إلى حماة في أيام الملك المنصور [ناصر الدين أبو المعالى محمد (3)]رحمه الله وتقدم إليه بأن يلبس للخليفة [سراويل الفتوة (4)] ويلبس الأكابر له. فتقدم الملك المنصور بأن يعمل خطبة في الفتوة، فعمل والدى رحمه الله خطبة بديعة في هذا المعنى، واستشهد بآيات من القرآن منها قوله تعالى:{قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (5)} »، ومنها قوله تعالى:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (6)} » وغير ذلك من الأخبار والآثار التي [يحض فيها (7)] على عمل الطاعات واجتناب المآثم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونصر المظلوم على الظالم، وإغاثة الملهوف وحفظ الجار، وغير ذلك مما يشترطونه في الفتوة.
(1) البندق كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص كان يستخدمها الرماة في تطيير الطير ونحوه ويعدون ذلك من قبيل الفتوة، انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3 ص 207 حاشية 1؛ جورجى زيدان، تاريخ التمدن الاسلامى، ج 5 ص 180 - 181.
(2)
الفتوة نظام اجتماعى اسلامى يعتمد على آداب وصفات الفروسية، عن أصول الفتوة وتاريخها وآدابها وطقوسها أنظر ما سبق؛ ابن واصل، ج 3 ص 206 حاشية 2، وكذلك ابن عمار البغدادى، الفتوة، تحقيق وتقديم الدكتور فؤاد حسنين، سلسلة كتب ثقافية (التراث القديم 3)، القاهرة 1959.
(3)
اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(5)
القرآن الكريم، سورة الأنبياء آية 60، وفى نسختى المخطوطة «إنا وجدنا فتى يذكرهم» .
(6)
القرآن الكريم، سورة الكهف آية 10.
(7)
في الأصل «تحض فيه» وفى نسخة س «محص فيها» .
وبالجملة (1) ذلك كله من محاسن الأخلاق الممدوحة شرعا وعقلا [122 ب]، وقرئت هذه الخطبة بمحضر من السلطان والأكابر. وكان القاضى بحماة يومئذ بهاء الدين أبا اليسر بن موهوب (2) فأمره السلطان بلبس سراويل الفتوة في المجلس فلبسها ولبسوها الجماعة.
وكذلك [أيضا (3)] منع الخليفة من الدعوة في البندق إلا له، وأبطل المناسيب في جميع البلاد إلا (4) له، فأجابه الناس بالعراق وسائر الأمصار إلى ذلك ما خلا رجلا واحدا راميا بالبندق من أهل بغداد فإنه امتنع من إجابته، وهرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه [الخليفة (5)] يرغبه بالأموال الجزيلة ليرمى عنه، فامتنع من الرمى له والانتساب اليه، فأنكر ذلك عليه بعض الناس فقال:
«يكفينى فخرا أنه ليس في الأرض أحد من الرماة إلا وهو منسوب إلى الخليفة غيرى» . وصنف الخليفة كتابا في الحديث النبوى فيه أسانيد صحيحة عالية رواها الخليفة عن أكابر من المحدثين، وسمى الكتاب «روح العارفين (6)» .
ثم أجازه الخليفة [الناصر لدين الله (7)] لجماعة وأمرهم أن يسمعوه في العراق وفى سائر الآفاق. ووصل هذا [الكتاب (8)] في سنة ثمان عشرة وستمائة على يد
(1) في نسخة س «وما يحمله» .
(2)
في نسخة م «مرهوب» والصيغة المثبتة من س.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(4)
وردت الجملة في ابن الأثير (الكامل ج 12 ص 440) أكثر وضوحا: «وكذلك أيضا منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمى بالبندق إلا من ينتمى اليه).
(5)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(6)
ذكر حاجى خليفة هذا الكتاب في كشف الظنون (ج 1 ص 915، ط. طهران 1947) ونسبه للخليفة الناصر لدين الله أحمد، انظر أيضا ابن واصل، ج 3 ص 228.
(7)
الاضافة من نسخة س.
(8)
الاضافة من نسخة س.
رجل من أهل شيزر يرويه عن الخليفة إجازة، وسمعناه عنه [وقد تقدم ذكره (1)].
وكان الناصر لدين الله يتشيع ويميل إلى مذهب الأمامية (2) وهو خلاف ما كان عليه أباؤه من القادر [بالله (3)] إلى المستضيئ [بنور (4) الله] فإنهم كانوا يذهبون مذهب السلف، وللخليفة القادر (5) عقيدة مشهورة في ذلك. فتقدم عند الناصر جماعة من الشيعة، وبلغنى أنه بلغه أن شخصا من أهل بغداد كان يرى صحة خلافة يزيد بن معاوية فأحضره الخليفة ليعاقبه على هذه المقالة، فلما حضر [الرجل (6)] قيل له:«أنت تقول بصحة خلافة يزيد؟» . فقال في الجواب:
«أنا أقول أن الإمام لا ينعزل عن الأمامة بارتكاب الفسق» . فأعرض الخليفة عنه، وأمر باطلاقه إذ لم يمكنه محاققته في ذلك لئلا يرد عليه ما يرد.
وكان الشيخ جمال الدين بن الجوزى وغيره من الوعاظ إذا تكلموا بحضرته ربما أتوا بأمر موهم خوفا منه. سئل الشيخ جمال الدين وهو على المنبر والخليفة يسمع: «من أفضل الناس بعد رسول الله؟» وقصد بذلك [123 ا] أن
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س، أنظر ابن واصل، ج 3 ص 228.
(2)
ذكر الشهرستانى (الملل والنحل، ص 324) عن الأمامية: «هم القائلون بإمامه على رضى الله عنه بعد النبى عليه السلام نصا ظاهرا وتعيينا صادقا من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين» انظر أيضا المقريزى، الخطط، ج 2 ص 351.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(5)
في نسخة س «وللخليفة الناصر» وهو خطأ واضح كما يفهم من سياق المعنى، انظر كذلك ابن الأثير، ج 9، ص 415.
(6)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
يقول جمال الدين صريحا ما يخالف رأى الخليفة. فقال [الشيخ جمال الدين (1)] مسرعا: «أفضلهم بعده من كانت إبنته تحته» ؛ وهذا القول كما علم محتمل للأمرين معا. وذكر أنه سئل مرة أخرى عن ذلك فأنشد:
لا تسألونى إلاّ عن أواخرهم
…
فأوّل الركب ما عندى له خبر
وكان إبنه أبو نصر محمد - وهو الذى ولى [الخلافة (2)] بعده ولقب الظاهر بأمر الله - على خلاف مذهبه، وكان يرى رأى الحنابلة ويبغض الروافض (3).
وكان [للناصر لدين الله (4)] إبن آخر أصغر منه أسمه على، موافق لأبيه على رأيه فأحبه الخليفة وأبغض إبنه أبا نصر، وكان قد ولاه عهده فخلعه من العهد كما قدمنا ذكره (5). ثم توفى على فحزن عليه الخليفة حزنا شديدا، وكتب إلى سائر الأطراف يأمر بأن يتقدم إلى الشعراء بالرثاء له وإقامة شعار الحزن، وقد ذكرنا ذلك كله (6). ثم دعته الضرورة إلى تجديد العهد لإبنه أبى نصر كما ذكرنا في سنة ثمان عشرة وستمائة (7)، وهو مع ذلك محبوس - على ما بلغنى - مضيّق
(1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(2)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(3)
الروافض هم الغلاة في حب على بن أبى طالب وبغض أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وبعض الصحابة، وسموا رافضة لأن زيد بن على بن الحسين، امتنع من لعن أبى بكر وعمر وقال:«هما وزيرا جدى محمد صلى الله عليه وسلم» ، فرفضوا رأيه، ومنهم من قال لأنهم رفضوا رأى الصحابة حيث بايعوا أبا بكر وعمر. وقد اختلف الروافض في الامامه اختلافا كثيرا وانقسموا إلى فرق كثيرة، انظر ابن طاهر البغدادى، الفرق بين الفرق، ص 18، 22 - 44؛ المقريزى، الخطط، ج 2 ص 351، وعن الأمامية انظر الشهرستانى، الملل والنحل، ص 324 - 362.
(4)
في الأصل «له» والصيغة المثبتة من نسخة س.
(5)
انظر هذا الكتاب (ابن واصل، ج 3 ص 168 - 169)، وانظر ما سبق من هذا الجزء ص 106.
(6)
انظر ابن واصل، ج 3 ص 229 - 232.
(7)
انظر ما سبق ص 106.
عليه فأنه كان شديد البأس جدا شهما، فكان يخاف منه. ومامات أبوه حتى قارب أبو نصر ستين سنة من العمر، فلهذا لما ولى بعد أبيه قال:«من فتح دكانه بعد العصرأى شيئ يربح (1)» . وللناصر شعر مشهور من ذلك ما قدمنا ذكره في جواب لشعر كتب به إليه الملك الأفضل بن صلاح الدين يشكو فيه عمه الملك العادل وأخاه الملك العزيز، وفى شعره ما يدل على ما ذكرنا من تشيعه وهو (2):
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا
…
بالصّدق يخبر أنّ أصلك طاهر
غصبوا عليا حقّه إذ لم يكن
…
بعد النبى له بيثرب ناصر
فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم
…
وابشر فناصرك الإمام النّاصر
وذكر أنه اعتقل بعض كتاب دولته فكتب إلى الخليفة:
ألقنى في لظى فإن غيرتنى
…
فتيقّن أن لست بالياقوت
عرف النّسج كلّ من حاك لكن
…
نسج داود ليس كالعنكبوت
[123 ب] فكتب الخليفة في جوابها: -
نسج داود لم يفد صاحب ال
…
غار وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند (3) في لهب الن
…
ـار مزيل فضيلة الياقوت
(1) يقصد عدم جدوى توليه الخلافه بعد أن بلغ الستين من العمر.
(2)
انظر ما سبق، ابن واصل، ج 3، ص 69.
(3)
يقال أن السمند أو السمندل دابة دون الثعلب ذات ذنب طويل ينسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت في النار فلا تحترق، كما يقال أن السمندل طائر ببلاد الهند لا تؤثر فيه النار، ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام، فإذا اتسخ بعضها طرح في النار فتأكل النار وسخه ولا يحترق المنديل، انظر الدميرى، حياة الحيوان الكبرى (ط. القاهرة 1963)، ج 2 ص 33 - 34؛ محيط المحيط؛ Dozy .Supp .Dict .Ar .I . P. 687.
[و (1) هذا جواب فائق وشعر مفلق ومعنى بديع.
وكان الإمام الناصر رحمه الله يحب على ابن أبى طالب رضى الله عنه ويحب أولاده، ويميل إليهم ويمدحهم ويقدمهم ويفضلهم. ومما روى له فيهم من الشعر قوله:
لا بلّغتنى همتى مطالبى
…
ولا سطت في معرك قواضبى
ولا علت نارى لأهدى طارقا
…
ولا غدت مجنوبة جنائبى
إن لم أعدها ضمّرا سواريا
…
لأخذ تار الملك الحباحب
الباقرين أحمد بن حيدر
…
سلالة الأبرار آل طالب
واصطليها في ولائه (2) جماجما
…
مضرمة في قمم النواصب
حتى يعود البيض في ضيائها
…
من هامهم مغلولة المضارب
واستمد من قوى عزمه
…
ما يجعل الآساد كالثعالب
حتى يقول الناس إن أحمد
…
قد أتى بالفتح والنصر لآل طالب]
[وكان (3) فطنا إلى الغاية، حسن الجواب لطيفه؛ ورد اليه رسولا من القاضى كمال الدين بن الشهرزورى (4) فكتب إليه يوما مطالعة في «أولها المملوك محمد بن عبد الله الرسول» ، فكتب الخليفة تحتها «صلى الله عليه وسلم» . وكتب إليه خادم من
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س ورقة 233 ب - 234 اوساقط من نسخة م.
(2)
في الأصل «ولاه» ومعها لا يستقيم الوزن.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة م وغير مذكور في نسخة س.
(4)
ذكر ابن خلكان (وفيات، ج 1 ص 473) عند ترجمته لكمال الدين الشهرزورى أن كمال الدين توفى سنة 572 هـ بدمشق أي قبل أن يتولى الناصر الخلافة بثلاث سنين.
خدامه أسمه يمن ورقة فيها إذلال كثير وتعنت، فوقع [الخليفة] على ظهرها ما صورته ممن ممن ممن ممن ممن ممن ممن فعرض الجواب على جماعة فلم يفهم أحد معناها، لتشابه الصورة وعدم النقط. ووقف عليها بعضهم وقال أراد الخليفة بهذا: يمن يمنّ يمن [؟] ثمن (1) يمن ثمن ثمن. وسمعت له أجوبة كثيرة بديعة في الحسن فلا نطول بذكرها].
وفى أيام الناصر عظمت حشمة الخلافة جدا، وقوى شأنها، واستولى مع العراق على إقليم خوزستان وغيرها من الأطراف، وملك همذان وأصفهان ثم انتزعتا منه. وقصده سلطان العجم علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه يريد أن يستولى على بغداد ويكون له فيها دار سلطنة وشحنة، كما كان ذلك السلاطين السلجوقية، وقد ذكرنا ذلك (2)، فحيل بينه وبين مقصده بما وقع من الثلوج في تلك السنة، فرجع إلى بلاده. وأعقب ذلك خروج التتر وجرى على خوارزم شاه ومعظم بلاد الإسلام ما قدمنا ذكره (3)، [حتى قيل إن الخليفة هو الذى حسن للتتر الخروج وأطمعهم فيه (4)]، [فإن كان صح ذلك فقد قدر
(1) التنقيط غير واضح في المتن وذكر اللفظ ثمان مرات ولعل الصيغة المثبتة اجتهادا هى المقصودة.
(2)
انظر ما سبق ص 35.
(3)
انظر ما سبق ص 34 وما بعدها، وفى نسخة س «وخرج التتر على السلطان علاء الدين خوارزمشاه وجرى له ما قدمنا ذكره» .
(4)
ورد ما بين القوسين في نسخة س ورقة 234 م بتفصيل أكثر كمايلى: «حتى قيل أن الخليفة الناصر لدين الله هو الذى أخرج التتر على علاء الدين خوارزم شاه وأطمعهم فيه. وقد ذكرنا أن السلطان علاء الدين كتب إلى الخليفة كتابا فيه غلظه وتهديد، فكتب اليه الخليفة كتابا وضمنه هذا البيت: ستعلم أن حانت من الدهر لفتة عمود دواتى أم سنانك أقوم انظر ما سبق ص 39.
الله تعالى من عقوبة ذلك انقطاع الدولة بهم، وهلاك ذريته، والله تعالى أعلم بما كان {قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (1)} ». أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (2)].
وقد ذكرنا ما كان [وقع (3)] بينه وبين السلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله من الوحشة و (4) العتب. وذكر أن الملك [124 أ] الناصر [صلاح الدين (5)] بقيت في نفسه من الخليفة نفرة، وأنه كان عزم بعد استقرار الهدنة بينه وبين الفرنج في سنة ثمان وثمانين وخمس مائة على قصد بغداد، والله تعالى أعلم بغيبه.
ذكر خلافة الأمام الظاهر بأمر الله [أمير المؤمنين (6)]
أبى نصر محمد بن [الامام (7)] الناصر لدين الله
ولما توفى الخليفة الناصر بويع ولده وولى عهده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل وأزال المكوس والمظالم، وأخرج المحبسين وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادرا. ولم تطل مدته في الخلافة إلا تسعة أشهر وأياما.
وفى هذه السنة توفى القاضى جمال الدين المصرى قاضى القضاه بدمشق وبلادها. وكان القاضى قبله زكى الدين بن محيى الدين بن زكى الدين فحكم بحكم
(1) سورة الزمر، آيه 46.
(2)
ما بين الحاصرتين غير مذكور في نسخة س.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(4)
انظر ما سبق، ابن واصل، ج 2 ص 248 - 250.
(5)
الاضافة من نسخة س.
(6)
الاضافة من نسخة س.
(7)
الاضافة من نسخة س.
أنكره الملك المعظم [عيسى بن العادل (1)] عليه، فغضب عليه وبعث إليه كلوتة (2) وقبا (3) وألزم بأن يلبسها في الملأ إهانه له وإخراقا به، وإشعارا بأنه لا يصلح له لباس أهل العلم، وأن اللائق به أن يكون جنديا. فحزن لهذه الواقعة واغتم، ومات بعدها بمدة قليلة. ولما عزله ولى جمال الدين المصرى، وكان قبل ذلك وكيل بيت المال (4)، وكان شديد السمره، يلثغ بالقاف ويجعلها همزة، فصلى ليلة بالملك المعظم، فلم يفتح له من القرآن إلا قوله تعالى: {وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
(1) اضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(2)
الكلوته غطاء للرأس تلبس وحدها أو بعمامه وتسمى أيضا كلفتاه وكلفة، انظر:
Dozy، Dictionaire detaille des noms des vetements، pp. 387 - 8; id، Supp .Dict .Ar، I، P. 284; Mayer، Mamluk Costume، pp. 16 - 18.
انظر ايضا المقريزى (السلوك، ج 1 ص 493 حاشية 1). 81 - 61 وذكر القلقشندى (صبح، ج 4 ص 5) أن الأتابكه ومن بعدهم بنى أيوب «كان من شأنهم أنهم يلبسون الكلوتات الصفر على رءوسهم مكشوفة بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، سواء في ذلك المماليك والأمراء وغيرهم» . وذكر المقريزى (الخطط، ج 2 ص 98)«أنه كان من الرسم في الدولة التركية أن السلطان والأمراء وسائر العساكر انما يلبسون على رءوسهم كلوته صفراء مضربة تضريبا عريضا ولها كلاليب بغير عمامه فوقها» مما يوضح استمرار استخدام الكلوته زمن المماليك.
(3)
عن القبا وهو ثوب يلبس فوق الثياب أو فوق القميص على شكل معطف انظر ما سبق ابن واصل، ج 1، ص 279 حاشية 4، عن أنواع الأقبية المختلفة انظر:
Mayer، Mamluk Costume، pp .13 - 14، 18 - 19، 21 - 24، 27، 29
(4)
وكيل بيت المال موظف مالى كبير كان يحل مكان ناظر بيت المال عند غيابه ويقوم بمهامه. وبالتالى كان وكيل بيت المال يتصرف كرئيس للخزانة ومسئول عن الموارد المالية المتبقية في الدواوين الأخرى الواردة إلى بيت المال، انظر:
Hassanein Rabie، The Financial System of Egypt، pp. 147 - 8.
اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ (1)}» الآية، فأبدل كل قاف فيها همزة، فضحك الملك المعظم وقطع الصلاة. وكان جمال الدين هذا فقيها، له معرفة بالمذهب متوسطة، وله شعر حسن، ذكر أنه خرج [يوما (2)] مع جماعة الشهود لترآئى الهلال فرأوه وتحته شفق أحمر فقال جمال الدين المصرى:
كأنما هلالنا
…
في الشفق المرتكم
سفينة من فضة
…
تجرى على بحر دم
وكأنه نحا في هذا نحو قول ابن المعتز:
أهلا بعيد قد أنار هلاله
…
الآن، فاغد على الشراب وبكر
وانظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
[وكان فاضلا عالما في كل فن. ولما توفى القاضى جمال الدين المصرى ودفن في داره، فقال شرف الدين بن عنين:
ما قصر المصرى في حكمه
…
إذ صير التربة في داره (3)
فخلص الأحياء من رجمه
…
وخلص الأموات من ناره (4)
] ولما توفى ولى السلطان الملك المعظم القضاء شمس الدين الخويى (5)، وكان فاضلا عالما متفننا في فنون شتى، وقاد الذهن (6). وقبض الملك الناصر صاحب
(1) سورة المائدة آية 27.
(2)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(3)
ورد هذا البيت في ديوان ابن عنين (ط، دمشق 1946، ص 238) كما يلى: ما قصر المصرى في فعله إذ جعل الحفرة في داره
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س ورقة 234 ب وغير مذكور في نسخة م.
(5)
في نسخة س «شمس الدين الخويّى» والصيغة المثبتة من م، ولعلها نسبة إلى خوىّ انظر ما سبق ص 151 حاشية 4.
(6)
في نسخة س «وذهنه قابل لجميع العلوم» .
حماة، في هذه السنة، على شهاب الدين بن القطب الذى كنا قدمنا ذكره (1)، وهرب أخوه عماد الدين وكانا غالبين على ملكه، وولى الملك الناصر القضاء بحماة شهاب الدين إبراهيم بن عبد لله بن أبى الدم (2)، وكان فاضلا متفننا في المذهب والأدب والتاريخ، سافر في صباه إلى بغداد واشتغل بالعلم، وخلع عليه الخليفة [الإمام](3) الناصر لدين الله، وقدم إلى حماة وعليه خلعة الخليفة.
(1) انظر ما سبق ص 87 - 88.
(2)
ابن أبى الدم الحموى (583 - 642 هـ. /1187 - 1244 م) مؤرخ من علماء الشافعية تفقه ببغداد وسمع بالقاهرة وثولى قضاء حماه وتوجه رسولا إلى بغداد ومن تصانيفه (التاريخ المظفرى)، انظر الزركلى، الأعلام، ج 1 ص 42؛ حاجى خليفة، كشف الظنون، ج 1، ص 305.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.