الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودخلت سنة ست وعشرين وستمائة
والسلطانان (1) الملك الكامل والملك الأشرف نازلان بتل العجول في العساكر الكثيرة، [والملك الناصر داود بن الملك المعظم بنابلس](2).
وفى المحرم منها سير الأتابك شهاب الدين طغريل عسكرا من حلب نجدة للملك الأشرف فوصلوا إلى الغور.
[ذكر رجوع الملك الناصر بن الملك المعظم إلى دمشق ومنازلة الملك الأشرف (3) لها]
ولما جرى ما ذكرناه من اتفاق السلطانين الملك الكامل والملك الأشرف، وانتهى إلى الملك الناصر [داود](4) ما اتفقا عليه، رحل من نابلس عائدا إلى دمشق.
[وكان في مدة مقامه بنابلس قد أنكر على الأمير عز الدين أيدمر المعظمى صاحب جينين (5) - وهو من أكبر أمراء أبيه وهو يتلو عز الدين أيبك صاحب صرخد في المرتبة - شيئا صدر منه، فأحضره وأمر بضربه وإهانته، فهرب
(1) في نسخة س «والسلطان» والصيغة المثبتة من م.
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س.
(3)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س.
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(5)
ذكر ياقوت (معجم البلدان) أن جينين «بليدة حسنة بين نابلس وبيسان من أرض الأردن بها عيون ومياه» .
منه بجماعته، ومضى إلى السلطان الملك الكامل، فأقبل عليه إقبالا كثيرا، وأحسن إليه. وانهدّ بذلك ركن من أركان الملك الناصر، مع ما تقدم من مفارقة الملك العزيز له.
ولما رحل الملك الناصر عائدا إلى دمشق] (1) رحل الملك الأشرف من تل العجول قاصدا الاجتماع [بابن أخيه الملك الناصر](2) ليعرفه ما وقع الاتفاق عليه، وليأمره بالنزول عن دمشق، والرضى بما قرر له من البلاد الشرقية.
فلحقه بالقصير (3) المعروف بقصير (4) ابن معين الدين بالغور تحت عقبة فيق (5)، فاجتمع به وحضر اجتماعهما الملك الصالح اسماعيل بن الملك العادل وابن أخيه الملك المغيث بن الملك المغيث (6) وكانا مع الملك الناصر، والأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد أستاذ الدار. فقال الملك الأشرف للملك الناصر:
«إنى اجتعت بخدمه عمك السلطان الملك الكامل، وقصدت الأصلاح بينك وبينه بجهدى، وحرصت على أن يرجع عنك ويقر عليك بلادك لكنه امتنع وأبى إلا أن يأخذ دمشق منك، وأنت تعلم أنه سلطان البيت [الأيوبى](7)،
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س.
(2)
ما بين الحاصرتين من نسخة س وفى نسخة م «به» .
(3)
في نسخة س «بالقصر» وهو تحريف والصيغة الصحيحة المثبتة من نسخة م، انظر أيضا المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229.
(4)
في نسخة س «بقصر» والصيغة المثبتة من م.
(5)
في نسخة م «العقبة» والصيغة المثبتة من نسخة س ومن المقريزى (السلوك، ج 1 ص 229) انظر ما سبق ص 231 حاشية 1.
(6)
يقصد الملك المغيث شهاب الدين محمود بن الملك المغيث عمر بن العادل، انظر المقريزى السلوك، ج 1 ص 191، وانظر ما يلى ص 238.
(7)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
وكبيرهم، وصاحب الديار المصرية، ولا يمكن الخروج عما أمر به، وقد وقع الاتفاق على أن تسلم [إليه](1) دمشق وتعوض عنها من الشرق كذا وكذا» وذكر ما وقع الاتفاق عليه.
فلما أنهى قوله [143 ا] قام عز الدين أيبك المعظمى وقال: «لا كيد ولا كرامة ولا نسلم من البلاد حجرا واحدا، ونحن قادرون على دفع الجميع ومقاومتهم، ومعنا العساكر المتوافرة (2)» . وقال للملك الناصر: «قم وامض (3) إلى دمشق» . فركب الملك الناصر وأمر بتقويض الخيام، ورحل الملك الناصر وأصحابه إلى دمشق. ولم يتمكن الملك الأشرف من مقاومته [ومنعه من ذلك](4)؛ [إذ لم يكن معه إلا جمع قليل مع عسكر حلب، فإنهم كانوا وصلوا إلى نجدته، وانتهوا إلى الغور](5). وتخلف عن الملك الناصر - ممن كان معه - عمه الملك الصالح [عماد الدين](6) اسماعيل [صاحب بصرى](7) وابن عمه الملك المغيث، [شهاب الدين بن الملك المغيث بن الملك العادل](8) ومن معهما، والأمير كريم الدين الخلاطى وكان من أخص أصحاب الملك المعظم. وانضم هؤلاء إلى الملك الأشرف.
(1) أضيف ما بين الحاصرتين للتوضيح من المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229.
(2)
في نسخة م «العساكر الكثيرة» والصيغة المثبتة من نسخة س وكذلك من المقريزى، السلوك، ج 1 ص 229.
(3)
في نسخة س «انهض بنا وامض» والصيغة المثبتة من نسخة م.
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(5)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.
(6)
ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ايضا زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 155.
(7)
ما بين الحاصرتين من نسخة س، انظر ايضا زامباور، معجم الأنساب، ج 1، ص 155.
(8)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
ووصل الملك الناصر إلى دمشق، واستعد للحصار، وقام أهل دمشق بنصرته أحسن قيام، لأنهم كانوا يحبونه ويحبون والده. وبقى معه عسكر قوى إلى الغاية من حيث الشهامة وكمال العدة والآلة، [لكنه نقص منهم جمع كثير بمفارقة الملك العزيز وابن أخيهما الملك المغيث، ومن تبعهم من أجنادهم](1).
ورحل الملك الأشرف من القصير (2) بمن معه من عسكر حلب، ومن انضم إليه من عسكر الملك الناصر. ولم يكن معه من عسكره المختصين به إلا قليل لأنه كان قدم دمشق جريدة (3)، وعساكره في الشرق في قبالة جلال الدين ابن خوارزم شاه.
ولما وصل الملك [الأشرف](4) إلى دمشق نزل ظاهرها من قبليها، وقطع عنها النهر الواصل إلى قلعتها المسمى باناس (5) والنهر الواصل من باب الجابية المسمى القنوات (6)، فخرج [إليهم](7) عسكر دمشق وقاتلوا أصحاب الملك الأشرف أشد قتال، وساعدهم على ذلك عامة البلد لفرط محبتهم لصاحبهم حتى أعادوا الماء إلى دمشق.
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(2)
في س «المنزلة» .
(3)
وردت هذه الجملة في نسخة س «فإنه لم يأت إلى دمشق حين قدمها لنجدة الملك الناصر إلا جريدة» والصيغة المثبتة من م.
(4)
ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش في نسخة م.
(5)
بدون تنقيط في م وفى نسخة س «بانياس» وكلاهما صحيح وهو نهير من نهيرات دمشق فرع من فروع نهر بردى، انظر ياقوت، معجم البلدان.
(6)
القنوات رابع فروع نهر بردى ويسمى أيضا نهر القناة، انظر المقريزى، السلوك، ج 1 ص 230 حاشية 3.
(7)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
[وكان قبل وصول الملك الناصر [داود (1)] إلى دمشق بأيام قد وصل إلى دمشق الملك الناصر قلج أرسلان - صاحب حماة - بعسكره نجدة للملك الأشرف؛ لأنه كان - كما ذكرنا - منتميا إليه فظن أن الحال بينه وبين الملك الأشرف على ما كان أولا من ذبه عنه وقيامه دونه (2)]. فلما بلغه ما تجدد ورجوع الملك الناصر [داود](3) إلى بلده مستحصرا أسرع العود بعسكره إلى بلده، ليهتم بمصلحة نفسه إذ تحقق أنهم إذا فرغوا (4)[143 ب] من دمشق لم يبق لهم إلا قصده. [وسير الملك الناصر داود الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى (5) رسولا إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، يعلمه أن أعمامه إنما قصدوه لانتمائه هو وأبيه إليه، ويحثه بمعاجلة النزول على خلاط ومضايقتها، ليشتغل (6) سر الملك الأشرف وليندفع عنه شره. فلما وصل شمس الدين إلى جلال الدين بهذه الرسالة اهتم لقصد خلاط وحصارها، وجرى ما سنذكره إن شاء الله تعالى](7).
(1) ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(2)
ورد ما بين الحاصرتين في قليل من التعديل في نسخة س والصيغة المثبتة من م.
(3)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(4)
الكلمة مكرره في نسخة م.
(5)
نسبة إلى خسرو شاه وهى قرية في فارس بينها وبين تبريز ستة فراسخ، انظر ياقوت، معجم البلدان.
(6)
كذا في نسختى المخطوطة.
(7)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.
ذكر تسليم القدس [الشريف (1)] إلى الفرنج
[وأقام السلطان الملك الكامل بتل العجول بعد توجه الملك الأشرف إلى دمشق لتتميم أمر الصلح مع الفرنج، وليخلو سره من جهتهم (2)]. ولم تزل الرسل تتردد (3) بينه وبين الانبراطور ملك الفرنج وأطماعه متعلقة بما استقر بينه وبين الملك الكامل أولا قبل موت الملك المعظم. وأبى [ملك الإفرنج (4)] أن يرجع إلى بلاده إلا بما وقع الشرط عليه من تسليم القدس إليه، وبعض الفتوح الصلاحى. وامتنع الملك الكامل أن يسلم إليه كل ذلك، وآخر الأمر أنه تقرر بينهما (5) أن يسلم إليه القدس على شريطة أنه يبقى خرابا، ولا يجدد سوره، وأن لا يكون للفرنج شىء من ظاهره ألبتة، بل يكون جميع قراياه للمسلمين، وللمسلمين وال عليها يكون مقامه بالبيرة من عمل القدس من شماليه، وأن الحرم الشريف بما حواه من الصخرة المقدسة والمسجد الأقصى يكون بأيدى المسلمين، وشعار المسلمين فيه ظاهر، ولا يدخلها الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوام المسلمين. واستثنى الفرنج قرايا معدودة
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة س ومثبت في م.
(3)
في نسخة م «تترد» وهو تصحيف والصيغة المثبتة من س.
(4)
ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(5)
عن شروط تسليم بيت المقدس إلى الفرنج انظر أيضا: ابن أيبك، الدر المطلوب، ورقة 236 وما بعدها؛ ابن الأثير، الكامل، ج 12 ص 482 - 483 (حوادث 626)؛ سبط ابن الجوزى، مرآة الزمان، ج 8، ص 431 - 432؛ ابن العديم، زبدة الحلب، ج 3، ص 205؛ أبو الفدا، المختصر، ج 3 ص 141؛ المقريزى، السلوك، ج 1، ص 230.
هى طريقهم إذا توجهوا من عكا إلى القدس، تكون هذه القرايا بأيديهم، خوفا أن يغتالهم أحد من المسلمين. ورأى الملك الكامل أنه إن شاقق الانبراطور ولم يف له بالكلية أن يفتح له باب محاربة مع الفرنج، ويتسع الخرق ويفوت عليه كلما خرج بسببه، فرأى أن يرضى الفرنج بمدينة القدس خرابا ويهادنهم مدة، ثم هو قادر على انتزاع ذلك منهم متى شاء.
وكان المتردد بينه وبين الملك [144 ا] الانبراطور [في الرسائل (1)] الأمير فخر الدين بن الشيخ (2)، وكانت تجرى بينهما محاورات في أشياء شتى. وسير الأنبرطور إلى الملك الكامل في أثناء ذلك مسائل حكمية ومسائل هندسية ورياضية مشكلة، ليمتحن بها من عنده من الفضلاء. فعرض الملك الكامل ما أورده من المسائل الرياضية على الشيخ علم الدين قيصر بن أبى القاسم إمام هذه الصناعة (3). وعرض الباقى على جماعة من الأفاضل فأجابوا عن الجميع.
(1) ما بين الحاصرتين من نسخة س.
(2)
عن أسرة شيخ الشيوخ انظر ما سبق ص 91 حاشية 3، وذكر المقريزى (الخطط، ج 2 ص 34) أن فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعثه السلطان الكامل «في الرسالة عنه إلى ملك الفرنج» .
(3)
ينقطع النص في نسخة س (ورقة 253 ب) وسوف يشار إلى نهاية الجزء الساقط. والشيخ علم الدين قيصر هو الفقيه الحنفى وعالم الرياضيات المشهور علم الدين قيصر بن أبى القاسم ابن عبد الغنى بن مسافر الأسفونى ويعرف بتعاسيف. ولد بأصفون أو أسفون وهى قرية بصعيد مصر سنة 574 وقيل 564 هـ، وسمع على مشاهير عصره بمصر وحلب وعلى الشيخ كمال الدين ابن يونس بالموصل. وأقام بحماه حيث تولى تدريس المدرسة النوريه، وعمل لحاكمها طاحونا على نهر العاصى، وبنى له أبراجا تحيل فيها بحيل هندسية. ولما وردت أسئلة فردريك الثانى في أنواع الحكمة والرياضيات على الملك الكامل كان الشيخ علم الدين قيصر مكلفا بالأجابة عنها، وتوفى بدمشق سنة 649 هـ، انظر الأدفوى (الطالع السعيد، ص 469 - 471)؛ المقريزى (السلوك، ج 1 ص 232، 382).
ثم حلف السلطان الملك الكامل على ما وقع الاتفاق عليه، وحلف الأنبراطور، وعقدوا عقد الهدنة مدة معلومة، وانتظم بينهم الأمر، وأمن كل من الفريقين صاحبه. وبلغنى أن الأنبرطور قال للأمير فخر الدين:«لولا أنى أخاف انكسار جاهى عند الفرنج، لما كلفت السلطان شيئا من ذلك، وما لى غرض في القدس ولا غيره وإنما قصدت حفظ ناموسى عندهم (1)» .
ولما وقعت الهدنة بعث السلطان من نادى في القدس بخروج المسلمين، وتسليمه إلى الفرنج، فحكى لى والدى رحمه الله وكان لما وقعت هذه الواقعة بالقدس الشريف قد وصل إليه من مكة حرسها الله فإنه كان جاور فيها السنة الماضية، وكنت قد سافرت إلى دمشق في السنة الماضية، وأقمت بدمشق - قال: لما نودى بالقدس بخروج المسلمين، وتسليم القدس إلى الفرنج، وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء، وعظم ذلك على المسلمين، وحزنوا لخروج القدس من أيديهم. وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل، واستشنعوه منه، إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفار من أعظم مآثر عمه الملك الناصر صلاح الدين - قدس الله روحه - لكن علم الملك الكامل رحمه الله إن الفرنج لا يمكنهم الامتناع بالقدس مع خراب أسواره، وإنه إذا قضى غرضه واستتبت الأمور له، كان متمكنا من تطهيره من الفرنج وإخراجهم منه. وقال [السلطان الكامل (2)] «إنا لم نسمح لهم إلا بكنائس وآدر خراب، والحرم وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدى المسلمين على
(1) انظر ايضا: المقريزى، السلوك، ج 1 ص 230.
(2)
ما بين الحاصرتين للتوضيح.
حاله، وشعار الإسلام قائم على ما كان عليه، ووالى المسلمين متحكم على رساتيقه وأعماله».
[144 ب] ولما تم أمر الهدنة استأذن الأنبراطور السلطان في زيارة القدس فأذن له، وتقدم السلطان إلى القاضى شمس الدين قاضى نابلس رحمه الله وكان جليلا في الدولة متقدما عند ملوك بنى أيوب، أن يلازم خدمة الأنبرطور إلى أن يزور القدس ويرجع إلى عكا. فحكى لى شمس الدين رحمه الله قال: لما قدم الأنبراطور القدس لازمته كما أمرنى السلطان الملك الكامل، ودخلت معه إلى الحرم الشريف فرأى ما فيه من المزارات. ثم دخلت معه إلى المسجد الأقصى فأعجبته عمارته وعمارة قبة الصخرة المقدسة. ولما وصل إلى محراب الأقصى أعجبه حسنه وحسن المنبر، وصعد في درجة إلى أعلاه، ثم نزل وأخذ بيدى وخرجنا من الأقصى، فرأى قسيسا وبيده الإنجيل، وهو يريد دخول الأقصى (1) فصاح عليه صيحة منكرة وقال:«ما الذى أتى بك إلى هاهنا، والله لئن عاد أحد منكم يدخل إلى هاهنا بغير إذنى لآخذن ما في عينيه، نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وإنما تصدق على وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه، ولا يتعدى أحد منكم طوره» ، فمضى ذلك
(1) كذا في المخطوطة وفى قليل من التعديل في المقريزى (السلوك، ج 1 ص 231)، بينما ورد في ابن أيبك (الدر المطلوب، ق 237) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزما، ج 8، ص 433) مايلى: «أنه لما دخل الصخرة رأى قسيسا جالسا عند الصخرة عند القدم يأخذ من الفرنج القراطيس، فجاء إليه كأنه يطلب منه الدعاء، ثم لكمه فرماه إلى الأرض وقال له ياخنزير، السلطان قد تصدق علينا بزيارة هذا المكان وتفعلوا فيه هذه الأفاعيل القباح، إن عاد منكم أحد إلى هذا الفعل قتلته» .
القسيس وهو يرعد خيفة منه. ومضى الأنبرطور إلى الدار التي عيّن نزوله فيها، فنزل بها.
قال القاضى شمس الدين [قاضى نابلس (1)]: وأوصيت المؤذنين أنهم لا يؤذنون تلك الليلة احتراما له. فلما أصبحنا ودخلت عليه قال لى: «يا قاضى لم لم يؤذن المؤذنون على المنابر على جارى عادتهم؟» . فقلت له: «إن المملوك منعهم من ذلك إعظاما للملك واحتراما له» . فقال لى: «أخطأت فيما فعلت، والله إنه أكثر غرضى في المبيت في القدس أن أسمع آذان المؤذنين وتسبيحهم بالليل (2)» ، ثم رحل إلى عكا (3).
ولما ورد الخبر إلى دمشق بتسليم القدس إلى الفرنج أخذ الملك الناصر [داود (4)] في التشنيع على عمه الملك الكامل. وتقدم إلى الشيخ شمس الدين يوسف سبط الشيخ جمال الدين بن الجوزى الواعظ - وكان له قبول عند الناس [145 ا] في الوعظ - في أن يجلس بجامع دمشق للوعظ، ويذكر فضائل القدس وما ورد فيه من الأخبار والآثار، وأن يحزن الناس ويذكر ما في تسليمه إلى الكفار من الصغار للمسلمين والعار. وقصد بذلك تنفير الناس من عمه ليناصحوه في قتاله. فجلس شمس الدين للوعظ كما أمره، وحضر الناس
(1) ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(2)
هناك رواية مخالفة بخصوص ما حدث من المؤذنين بالقدس في ابن أيبك (الدر المطلوب ق 238) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 433 - 434).
(3)
كذا في المتن وكذلك في المقريزى (السلوك، ج 1، ص 232) بينما ورد في ابن أيبك (الدر المطلوب، ق 238 - 239) وسبط ابن الجوزى (مرآة الزمان، ج 8 ص 434) أن الأمبراطور «لم يقم بالقدس غير ليلتين وعاد إلى يافا» .
(4)
ما بين الحاصرتين للتوضيح.
لاستماع وعظه، وكان يوما مشهودا، وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم وعويلهم (1). وحضرت أنا (2) هذا المجلس، ومما سمعته يومئذ يورد قصيدة تائية وازن بها قصيدة دعبل بن على الخزاعى وضمنها بيتا من القصيدة وهو:
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحى مقفر العرصات
وعلق بذهنى منها بيت واحد وهو:
على قبة المعراج والصخرة التي
…
تفاخر ما في الأرض من صخرات
فلم ير في ذلك اليوم إلا باك أو باكية.
ولما تقررت قواعد الهدنة بين السلطان الملك الكامل والأنبراطور، أقلع الأنبراطور راجعا إلى بلاده، واستمر مصافيا للملك الكامل، مواد له، والمراسلة بينهما متصلة إلى أن توفى الملك الكامل وملك ولده الملك العادل سيف الدين، فصافى [الأنبراطور](3) الملك العادل وواده، وراسله.
(2)
أي جمال الدين بن واصل مؤلف الكتاب.
(3)
ما بين الحاصرتين للتوضيح.
ولما قبض على الملك العادل وولى أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب استمر الأمر على ذلك. وأرسل إليه الملك الصالح الشيخ العلامة سراج الدين الأرموى الذى هو قاضى قونية من بلاد الروم الآن. وأقام سراج الدين عنده مكرما مدة، وصنف له كتابا في المنطق، وأحسن إليه الأنبرطور إحسانا كبيرا.
وعاد سراج الدين إلى الملك الصالح مكرما.
ولما قصد ريدا فرنس (1) - وهو من أكبر ملوك الفرنج - الديار المصرية سنة سبع وأربعين وستمائة، بعث إليه الأنبراطور ينهاه عن ذلك، ويخوفه ويحذره عاقبة الأمر، فلم يقبل منه. فحكى لى سرنرد وهو مهمنددار (2) منفريد (3) ابن الأنبراطور قال:«أرسلنى [145 ب] الأنبراطور في السر إلى الملك الصالح نجم الدين لأعرفه عزم قصد ريدافرنس على الديار المصرية وأحذره منه، وأشير عليه بالاستعداد له. فاستعد له الملك الصالح، ورجعت إلى الأنبراطور، وكان ذهابى إلى مصر ورجوعى في زى تاجر (4). ولم يشعر أحد باجتماعى بالملك الصالح خوفا من الفرنج أن يعلموا ممالأة الأنبراطور للمسلمين عليهم» .
(1) في المخطوطة «ريدافريس» والصيغة الصحيحة هى المثبتة، انظر مايلى وكذلك المقريزى (السلوك، ج 1 ص 333)؛ والمقصود به الملك لويس التاسع ملك فرنسا.
(2)
يقصد ابن واصل ذلك الموظف الذى كان يقوم في الدولة الرومانية المقدسة بعمل شبيه لعمل المهمندار في دولتى الأيوبيين والمماليك وهو الذى كان يتلقى الرسل الواردين على السلطان وينزلهم دار الضيافة، ويتحدث في القيام بأمرهم؛ انظر القلقشندى، صبح الأعشى، ج 4 ص 22، ج 5 ص 459.
(3)
يقصد ما نفردبن فردريك الثانى ملك صقلية (1258 - 1266 م).
(4)
ورد في المقريزى (الخطط، ج 1 ص 219): «ونزل [الملك الصالح نجم الدين أيوب] بقلعة دمشق فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر وأخبره سرا بأن بواش الذى يقال له رواد فرنس عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها» . انظر أيضا لتفصيل ذلك، سعيد عاشور، الإمبراطور فردريك الثانى والشرق العربى (المجلة التاريخية المصرية مجلد 11 سنة 1963) ص 212 - 213.
ولما مات الملك الصالح، وجرى لريدافرنس ما جرى من هلاك عسكره واستئصالهم، وأسر الملك المعظم تورانشاه بن الملك الصالح له، ثم خلاصه من الأسر بعد قتل الملك المعظم ورجوعه إلى بلاده، بعث الأنبرطور إليه (1) يذكره نصحه له، وما جرّ عليه لجاجه (2) ومخالفته، ويعنفه على ذلك. وتوفى الأنبراطور في تلك السنة، وهى سنة ثمان وأربعين وستمائة، بعد موت الملك الصالح بسنة. وولى بعده ولده (3) كرا ثم مات كرا وولى أخوه منفريدا، وهؤلاء كلهم كانوا ممقوتين عند البابا خليفة الفرنج صاحب رومية، لميلهم إلى المسلمين، وجرى بين منفريدا والبابا حرب انتصر فيها منفريدا.
وتوجهت (4) رسولا إلى منفريدا من جهة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة، فأقمت عنده مكرما بمدينة من مدائن أنبوليه في البر الطويل، المتصل ببر أندلس. واجتمعت به مرارا، ووجدته متميزا ومحبا للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب أو قليدس في الهندسة. وبالقرب من البلد الذى كنت نازلا به مدينة تسمى لوجاره أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام، وهى على هذه الصفة من عهد أبيه الأنبرطور. وكان منفريدا قد شرع في بناء دار علم بها، ليشتغل فيها بجميع أنواع العلوم النظرية. ووجدت أكثر أصحابه الذين يتولون أموره الخاصة به مسلمين. ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة.
(1) أي إلى لويس التاسع ملك فرنسا.
(2)
لج في الأمر تمادى عليه وأبى أن ينصرف عنه، انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 3، ص 177.
(3)
يقصد كونراد الرابع الذى توفى سنة 1254 م.
(4)
أي ابن واصل مؤلف الكتاب.
ولما رجعت من تلك البلاد جاءت الأخبار بأنه اتفق على قصده [146 ا] البابا صاحب رومية العظمى - وبينها وبين البلد الذى كنا به مسافة خمسة أيام - وأخو ريدا فرنس المقدم ذكره. وذلك أن البابا كان قد حرّم (1) منفريدا لميله إلى المسلمين وخرقه ناموس شرعهم، وكذلك كان كرا أخوه والأنبراطور كل هؤلاء كانوا محرمين من جهة البابا برومية. والبابا برومية هو خليفة المسيح عندهم، والقائم مقامه، وإليه التحريم والتحليل والقطع والفصل (2).
وهو الذى يلبس الملوك تيجان الملك ويقيمهم. ولا يتم لهم أمر في شريعتهم إلا به. ويكون راهبا، وإذا مات قام مقامه من هو أيضا متصف بصفة الرهبانية.
ولقد حكى لى وأنا ببلادهم حكاية عجيبة، وهى أن مرتبة الأنبرطورية [كانت قبل الأنبرطور (3)] فردريك - الذى تقدم ذكره - لأبيه، وأنه لما
(1) يقصد أن البابا أصدر ضده قرار الحرمان excommunication كنوع من العقاب، وبالتالى حرر جميع رعاياه وأتباعه من أيمان الطاعة والتبعية التي أقسموها له. وتطورت قرارات الحرمان في العصور الوسطى حتى أصبحت من درجتين: قرارات حرمان صغرى تحرم الفرد من أداء الشعائر والطقوس الكنسيه؛ وقرارات حرمان كبرى تبعد الفرد تماما من الأيمان وتحرمه من جميع المزايا التي يتمتع بها المسيحيون. ولا يستطيع الفرد في هذه الحالة من أداء الشعائر الكنسية، ويفقد جميع الهبات التي منحتها له الكنيسة، ولا يدفن في مدافن المسيحيين. وفى كلنا الحالتين يكون الجحيم مصير الفرد المحروم من الكنيسة، ويعيش محروما من صحبة المسيحيين، وأى شخص يتعاون معه يكون هو الآخر معرضا للعقاب بتوقيع قرار الحرمان ضده،
انظر Thompson and Johnson، An introduction to medieval Europe (New York 1937)، P. 656
سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 354، 396، ج 2 ص 3.
(2)
عن البابا صاحب رومية انظر القلقشندى (صبح الأعشى، ج 5، ص 472).
(3)
ما بين الحاصرتين مذكور في الهامش.
مات كان ابنه فردريك شابا في أول ترعرعه، وأنه طمع في هذه المرتبة جماعة من ملوك الفرنج، كل منهم رجا أن يفوضها إليه بابا رومية. وكان فردريك ماكرا خبيثا، وهو من الألمانية، وهم جنس من أجناس الفرنج.
فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين طمعوا في مرتبة الأنبرطورية على انفراده وقال لكل واحد منهم: «إنى لا أريد هذه المرتبة لأنى لا أصلح لها، فإذا اجتمعنا عند البابا فقل أنت له إن هذا الأمر ينبغى أن يتقلد الحديث فيه ابن الأنبرطور الماضى، وأن من رضى بتقليده الأنبرطورية فأنا راض به، فإن البابا إذا رد الاختيار إلىّ في ذلك، إخترتك ولا أختار غيرك، وقصدى الانتماء إليك والاعتضاد بك» . ولما قال [فردريك (1)] هذه المقالة لكل واحد من الملوك، أجابه كل واحد منهم، ووثق به، واعتمد صدقه فيما قال. فلما اجتمعوا عند البابا بمدينة رومية ومعهم فردريك، وكان قد تقدم إلى جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان، أن يكونوا مستعدين راكبين خيولهم قريبا من الكنيسة العظمى التي برومية التي فيها المجمع الكبير. قال البابا للملوك لما اجتمعوا عنده:«ما ترون في أمر هذه المرتبة، ومن هو الأحق بها؟ [146 ب]» ووضع التاج بين أيديهم. فكل واحد منهم قال: «حكمت فردريك في ذلك، وما يشير به فهو الذى أقبله وأسير به، فإنه ولد الأنبرطور، وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك» . فقام فردريك وقال: «أنا ابن الأنبرطور وأنا أحق بمرتبته وتاجه، والجماعة كلهم قد (2) رضوا بى واختارونى» .
ووضع التاج على رأسه فانكسوا كلهم، وخرج مسرعا والتاج على رأسه.
(1) ما بين الحاصرتين للتوضيح.
(2)
في المتن: «فقد» .
وركب وركب معه الألمانية - الذين تقدم إليهم بأن يقفوا قرب الكنيسة - وسار بهم على حمية إلى بلاده. ثم بعد ذلك صدرت منه أمور توجب - عند البابا على ما يقتضيه مذهبهم - تحريمه فحرمه.
وبلغنى أنه لما كان الأنبرطور بعكا قال للأمير فخر الدين بن الشيخ رحمه الله أخبرنى عن الخليفة الذى لكم ما أصله؟». فقال فخر الدين: «هو ابن عم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أخذ الخلافة عن أبيه، وأخذها أبوه عن أبيه، فالخلافة مستمرة في بيت النبوة، لا تخرج منهم» . فقال الأنبرطور:
ولما قصد البابا وأخو ريدا فرنس منفريدا بن الأنبراطور قاتلاه وهزما عسكره، وقبضا عليه. وتقدم البابا بذبحه فذبح، وملك أخو ريدافرنس البلاد التي كانت بيد ابن الأنبرطور، واستولى عليها، وكان هذا في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظنى (3).
(1) كذا في المخطوطة.
(2)
ذكر ابن منظور (لسان العرب، ج 15 ص 347) أن الفدم من الناس العييى عن الحجة والكلام مع ثقل ورخاوة وقلة فهم، وهو أيضا الغليظ السمين الأحمق الجافى.
(3)
كانت البابوية قد خرجت ظافرة من نزاعها الطويل الذى استمر عدة قرون مع أباطرة الدولة الرومانية المقدسة من أسرة هوهنشتا وفن، واعتبرت البابوية نفسها وصية على أراضى هؤلاء الأباطرة في جنوب ايطاليا وصقلية. ورفض مانفرد بن فردريك الثانى ملك صقلية أن يعترف بمطالب البابوية، مما جعل البابا يعرض مملكة صقلية على شارل الأنجوى الفرنسى ليحكمها تابعا للبابا. وقبل شارل - أخو لويس التاسع - عرض البابوية وغزا صقلية ليقتل مانفرد ويحكم الجزيرة حكما تعسفيا، انظر سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج 1 ص 559 - 560.