الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب الحقيقي
والحقيقة أن المشركين (من الناحية الواقعية) محقون كل الحق في عدم توريط جيشهم بالهجوم على المدينة وأن القائد العام أبا سفيان لم يرتكب أي خطأ من الناحية العسكرية ولم يجانب الصواب عندما صرف النظر عن مهاجمة المدينة، كما يتراءى للبعض (من الوجهة العسكرية).
بل إن أبا سفيان بعمله هذا، قد أثبت بأنه من القادة العسكريين البعيدين عن السطحية الذين لا يستجيبون لداعي الغرور، ولا تستفزهم نشوة الانتصارات العابرة، ومن القادة الذين يقدرون نتائج الأعمال قبل القدوم عليها.
فأبو سفيان عند انسحابه من منطقة أُحد يدرك تمامًا أنه لا يوجد في (تلك اللحظة) ما يحول بينه وبين مهاجمة المدينة أو حتى احتلالها، لأن جيشه في تلك اللحظة كان يفصل بين المدينة وبين جيشها الذي كان لا يزال في مكان المعركة بأُحد مشغولًا بدفن قتلاه وإسعاف جرحاه.
ولكن أبا سفيان (مع إدراكه لهذه الحقيقة) يعلم في قرارة نفسه (كقائد مسئول) ما في مهاجمته المدينة من مغامرة قد تكون سببًا في إهلاك جيش مكة أو تضييع قيمة النصر الأسمى الذي حصل عليه في آخر المعركة بسبب عصيان الرماة لقائدهم.
ذلك أن قائد جيش مكة موقن (تمامًا) بأن النصر الذي سجله المشركون على المسلمين في الصفحة الأخيرة من المعركة، لم يكن نتيجة
بسالة رجال الجيش المكي وصبرهم وثباتهم، وإنما كان نتيجة غلطة تعبوية جاءت من جانب خصومهم
…
غلطة لم يكن لهم (أي المشركين) أي يد في إحداثها، سببت هذه الغلطة الشنيعة (وهي غلطة الرماة) تخريبًا خطيرًا في الخطة الحكيمة الدقيقة التي أدار المسلمون بموجبها دفة القتال.
مما أدى إلى ذلك التحول المفاجئ المذهل في سير القتال الذي يسر للمشركين:
1 -
إيقاف سيل الهزيمة النازل بهم.
2 -
التمكن من تكبيد المسلمين خسائر فادحة في الأرواح.
2 -
إضاعة النصر الحاسم الذي سجله المسلمون في الصفحة الأولى من المعركة.
4 -
جعل المشركين (ظاهريًّا) في موقف الغالب المنتصر.
فأبو سفيان يعلم أن شيئًا من هذه الأمور الأربعة ما كان ليحدث لولا الغلطة الشنيعة التي ارتكبتها فصيلة الرماة التي انسحبت من مواقعها في الجبل قبل الوقت المحدد.
فالذي منع أبا سفيان من مهاجمة المدينة (في تلك اللحظة) وجعله لم يغتر بالنصر التي حصل عليه جيشه في الساعات الأخيرة من المعركة، هو يقينه بأن عناصر تحقيق مثل هذا النصر لم تكن موجودة أصلًا في جيش مكة.
وذلك أن هذا النصر إنما جاء نتيجة غلطة ارتكبها بعض الجيش الإسلامي، ومثل هذه الغلطة غير مضمون تكرارها ليحصل الجيش المكي
على مثلها إذا ما غامر بالهجوم على المدنية، ولا سيما أن حال هذا الجيش ليس بأحسن من حال جيش المدينة من ناحية الإنهاك والتعب.
إن شبح الهزيمة المرعبة التي أنزلها الجيش المدني (على صغره) بالجيش المكي (على ضخامته) لا يزال ماثلًا أمام عين أبي سفيان القائد وهو يعلم علم اليقين أن الرعب والخوف من المسلمين لا يزالان يملأن قلوب جند المشركين بالرغم من النصر التعبوي المفاجئ غير المتوقع الذي أعطته لهم غلطة رماة المسلمين، بعد تلك الهزيمة التي أنزلها المسلمون بهم والتي ما كانت تنتهي حتى مكة لولا غلطة الرماة غفر الله لهم.
ولهذا كان أبو سفيان على ما يشبه اليقين بأنه لو غامر بمهاجمة المدينة فإن نتيجة هذه المغامرة لن تكون إلا الهزيمة الساحقة، لأن الجيش المدني سيتصدى للمشركين وسيضربهم داخل المدينة ضربة قد تكون القاضية على سمعة قريش حتى النهاية.
وهكذا فإن أبا سفيان لم يصرف النظر عن مهاجمة المدينة فحسب بل انسحب بطريقة تشبه الفرار، حيث اجتاز بجيشه الضخم الثقيل أكثر من أربعين ميلًا في يوم واحد وكأنه خاف (إن هو تباطأ في انسحابه، أو عسكر في مكان قريب من المدينة) أن يجمع المسلمون هؤلاء شتاتهم ويجبروه على خوض معركة قد يكون النصر فيها حليف هؤلاء المسلمين (الذين بالرغم من انتكاسهم في معركة أُحد) قد أوجدوا في نفوس جند مكة عقد خوف مستعصية، للضراوة المفزعة التي لمسوها منهم في المرحلة الأولى من المعركة، عندما أبادوا فصيلة كاملة من حملة لواء المشركين، ثم أنزلوا بهم الهزيمة الساحقة (وبطريقة مذهلة) في أول القتال.
وفعلا، فإن ما كان قد قدره أبو سفيان وخشي منه قد حدث، فبعد