الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفلتوا من قبضته وشقوا طريقهم عبر صفوفهم نحو الشعب من أُحد حيث يوجد قائدهم الأعلى النبي، بعد أن دفعوا لهذا التخلص ثمنًا قوامه عشرة في المائة من مجموع قواتهم، ففوتوا (بذلك) على قريش أثمن فرصة سنحت لهم للقضاء على الجيش الإسلامي بالإبادة أو الأسر.
وقد اعتبر كثير من العسكريين تمكن المسلمين من كسر الطوقال في ضربه المشركون حولهم وإفلاتهم، نصرًا جديدًا سجله المسلمون واندحارًا ثانيا مُني به المشركون.
أسباب التماسك بعد الهزيمة
فما هي الأسباب التي جعلت هذا الجيش الصغير المنكوب ينجو من فناء محقق ويجمع شتاته ويعيد تنظيمه من جديد، ويصمد في وجه جيش مكة (الذي ظن نفسه، بعد الانتكاسة سيد الموقف) ثم يجبره على الانسحاب من ميدان المعركة دون أن يحقق أهدافه، حيث حال بينه وبين تسجيل ما يمكن تسميته انتصارًا؟ يمكننا (من الناحية العسكرية) الإشارة إلى مجمل أسباب ذلك، كما يلي:
1 -
القيادة الحكيمة وشجاعة القائد العام
فمما لا جدال فيه أن كل قائد عام مسئول، يعلم تمام العلم، أن مسألة تحطيم جيشه أو تماسكه في مثل تلك اللحظة الحرجة الحاسمة التي مر بها الجيش النبوي في أُحد بعد حادثة الجبل، إنما تتوقف على شجاعة هذا القائد أو تخاذله، فإن تخاذل القائد العام تخاذل جيشه وانهزم، وإن ثبت وصمد، كان جيشه تبعا له في هذا الثبات والصمود.
ولقد أظهر الرسول القائد (ساعة انتكاسة الجيش الإسلامي في أُحد) شجاعة منقطعة النظير بلغت إلى حد الكمال، وأظهر من الحكمة في القيادة والحنكة في التصرف في تلك الساعات الدقيقة الحرجة ما مكنه من حماية جيشه الصغير من ضياع وتدمير محققين.
فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه - بعد حركة التفاف خالد على جنده - منعزلًا تمامًا في مقر قيادته حيث تمزقت صفوف المسلمين تمزقًا شديدًا، وتفرق من حوله عامة جندة فأصبح وحدة (تقريبًا) عرضه لهجمات المشركين الضارية، فكانت صدمة عنيفة جديرة بأن تنهار لها أعصاب أعاظم القواد (وخاصة في ذلك العصر الذي يعتمد فيه القائد على رماح جنده وسيوفهم فحسب).
ولكن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم صمد أمام هذه النازلة، وسيطر على أعصابه فثبت (ثبوت الرواسي) أمام تيارات تلك العاصفة المخيفة التي تبعثر لها جنده على ساحة الهزيمة، لا يدرون ماذا يصنعون وإلى أين يتجهون، لا سيما بعد أن سرت بينهم إشاعة مقتل نبيهم صلى الله عليه وسلم، فوقف صلى الله عليه وسلم على مرتفع (رابط الجأش ثابت الجنان) ونادى بأعلى صوته (هلموا إلى أنا رسول الله). فكان لصيحته تلك أكبر الأثر في إعادة الروح المعنوية إلى نفوس أصحابه الذين سمعوا صوته الحبيب، فما إن علموا بمكانه حتى توافدوا إليه وأخذوا في تنظيم صفوفهم من جديد، وانتشر بين عامة الجيش الإسلامي نبأ سلامة نبيهم القائد فتراجعت فلولهم وأخذوا يتحلقون حول قائدهم ويناضلون المشركين في شجاعة واستبسال، حتى تغلبوا على جند مكة، إذ حالوا بينه وبين تحقيق الهدف الذي جاءوا من أجله والذي
سنحت لهم فرصة تحقيقه (بعد الانتكاسة) وهو إنزال الهزيمة الساحقة بالجيشي الإسلامي.
وهكذا كان لثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمته وشجاعته الفائقة في تلك اللحظات الشديدة الحرجة، المقام الأول في تماسك الجند الإسلامي بعودة المنهزمين وإقدام المترددين إلى ساحة الوغى وصمودهم في وجه الجيش المكي الذي أعادوه خائبًا من حيث أتى، بعد أن كان سيد الوقف بعد حادثة الجبل.
قال مولانا محمد علي في كتابه (حياة محمد ورسالته) عند تعليقه على شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضحيته وتعريض نفسه للخطر في سبيل إنقاذ أصحابه بعد الانتكاسة، قال:
فلم يكد ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد ينقض على المسلمين ويحتل الموقع الذي هجره الرماة حتى أدرك عظم الخطر المحدق بالجيش الإسلامي، ولم يكن أمامه في تلك اللحظات غير سبيلين اثنين، يستطيع انتهاجهما. إما أن يكفل سلامته الشخصية، بالشخوص إلى مفزع ما، تاركًا أصحابه لمصيرهم المقدور، وإما أن يناديهم مخاطرًا بنفسه لكي ينقذهم من الخطر، ولقد اختار السبيل الثانية (على ما فيها من مغامرة تعرض حياته للخطر) فصاح بأعلى صوته (هلموا إلي أنا رسول الله)، ولم يكد الصوت يبلغ آذانهم حتى التفوا كلهم نحوه وشقوا طريقهم إليه عبر صفوف العدو.