الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
القبض:
يقول مرقس: " وللوقت فيما هو يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وكان مسلمه (يهوذا) قد أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو، هو، أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلًا يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه.
فاستل واحد من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه.
فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب، فتركه الجميع وهربوا، وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكه الشبان، فترك الإزار وهرب منهم عريانا " (14: 43-52) .
لقد كانت القبُلة هي بداية عملية القبض، ونجد هذا قد اتفق فيه متى ولوقا مع مرقس، مع خلاف يسير. أما عند يوحنا فلا مكان للقبُلة، كما أنه يعطي صورة مختلفة تماما عما روته الأناجيل الثلاثة المتشابهة- فهو يقول: " أخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح.
فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال: من تطلبون؟
أجابوه يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم.
فلما قال لهم: إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض.
فسألهم من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون " (18: 3-8) .
لقد اتفقت الأناجيل الأربعة على شيء هام وهو أنه ابتداء من ذلك الوقت الذي كان في ظلمة الليل- لأنهم جاءوا بمشاعل ومصابيح- فقد تركه التلاميذ كلهم وهربوا.
أين شك التلاميذ؟
لقد سبق أن ذكرت الأناجيل على لسان المسيح قوله لتلاميذه: " كلكم تشكون في، في هذه الليلة ".
ونحن هنا أمام احتمالين:
أحدهما- أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، ورغم أنها ستسبب له ألما ومعاناة، إلا أنها ستفشل وينقذه الله من القتل الذي ينتظره على أيدي مدبريها.
ثانيهما- أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده وتسبب له ألما ومعاناة وتنتهي بقتله.
فإن كانت الحالة الأولى، ورأى التلاميذ- حسبما ترويه الأناجيل بكل وضوح- أن المسيح قبض عليه في تلك الليلة، واستطاعت قوى الظلم أن تنتصر عليه وتحقق ما تريد، فعندئذ لا بد وأن يشك التلاميذ في معلمهم الذي تنبأ لهم بنجاته، ثم أظهرت الحوادث أمام أعينهم بعد ذلك أنه لم يحدث. هنا فقط يحدث الشك والزلل والارتداد عن العقيدة.
ومن المعلوم أن الشك غير الإنكار، ذلك أن اللص الذي يقبض عليه، قد ينكر السرقة، لكنه في الوقت نفسه أول من يعلم يقينا أنه سرق، فهو لا يشك في السرقة رغم أنه ينكر ذلك.
ولما كانت الأناجيل قد أظهرت جميعا أن التلاميذ لم يشكوا في المسيح في تَلك الليلة- وإنما تحدثت عن إنكار بطرس أنه من تلاميذه- فإن هذا
يعني أن الأحداث سارت حسبما جاء في تلك الحالة التي تنتهي بنجاة المسيح من القبض والقتل.
أما إن كانت الحالة الثانية وهي أن المسيح تنبأ لتلاميذه بالقبض عليه وقتله، فإن ما شاهده التلاميذ- حسب رواية الأناجيل أيضا- هو أن ذلك ما حدث، ولا محل للشك- إذن- في هذه الحالة.
ولا ريب في أن نفي الشك عن التلاميذ في تلك الليلة، يترتب عليه بالضرورة إلحاق تنبؤات خاطئة بالمسيح، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يصدر عنه، وهو أمر ننكره ونستنكره.
مما سبق نجد أن الأناجيل الأربعة اختلفت في قصة القبض وملابساتها:
فقد روى كل من مرقس ومتى أن يهوذا قبَّل المسيح، وروى لوقا أن يهوذا كان على وشك أن يقبِّله، بينما لا يعرف يوحنا شيئا عن القبُلة.
ويذكر كل من مرقس ومتى أن تحية وكلاما جرى بين يهوذا والمسيح، ويصمت لوقا عن تلك التحية، بينما لا يذكر يوحنا شيئا عن يهوذا سوى الصمت التام بعد أن قاد القوة للقبض عليه في البستان.
وإذا صرفنا النظر عما جاء في روايتِي الاثني عشر جيشا من الملائكة، والشاب الذي هرب عريانا- لبقيت ثلاث نقاط أساسية لا بد من استيعابها تماما للوقوف عندها وهي:
1-
أن القبُلة كانت الوسيلة الوحيدة لتعريف أفراد القوة بشخصية المسيح (حسب مرقس ومتى ولوقا) ، بينما تم ذلك في يوحنا بعد أن أظهر المسيح ذاته إليهم بطريقة تنم عن التحدي والثبات الذي يتحلى به المجاهدون من أصحاب العقائد والرسالات.
2-
وأن حادثا غير عادي قد وقع في تلك اللحظة، مما أذهل أفراد
القوة وجعلهم يرجعون إلى الوراء ويسقطون على الأرض.
3-
وأن التلاميذ - حسبما يرويه كتبة الأناجيل- لم يشكوا في المسيح ولو للحظة واحدة من تلك الليلة التي حدث فيها القبض.
ولما كانت قصة المسيح بكل تفاصيلها، ترد دائما إلى تنبؤات العهد القديم وخاصة سفر المزامير، فإن المزمور 91 الذي يستشهد به كثيرا- يقول:
" لأنك قلت يا رب ملجاي. جعلت العلى مسكنك ".
لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضرلة من خيمتك.
لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك.
أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق.
أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي " (91: 9- 16) .
أليس من حق القائل أن يقول إن ملائكة الله قد حملت المسيح على أيديها في تلك اللحظة التي كادت تزفي فيها قلوب المؤمنين، بعد أن رأى المسيح وتلاميذه أن سلطان الظلمة على وشك أن يبتلعهم؟
وإذا قيل: أين ذهب المسيح بعد ذلك؟
نقول: وأين ذهب إيليا (إلياس) الذي رفع إلى السماء؟
وفي هذا تقول أسفار العهد القديم: " وفيما هما (إيليا وتلميذه اليشع) يسيران ويتكلمان، إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء. وكان اليشع يرى وهو يصرخ يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها. ولم يره بعد " - (الملوك الثاني 2: 11- 12)
وكما سبق أن رفع أخنوخ (إدريس) إلى السماء، كما تقول الأسفار:
" وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه. (تكوين 5: 24)