الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[افتتاحية الجلسة الرابعة للدكتور محمد جميل غازي]
تقديم الأستاذ الدكتور محمد جميل غازي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وأصحابه أجمعين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يقول الله سبحانه وتعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} {فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ} (1) .
ويقول الله سبحانه وتعالى بدءً من الآية الثامنة والثمانون من السورة نفسها " سورة مريم "{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (2) .
وقبل أن أقدم إليكم الأستاذ العلامة الجليل الشيخ إبراهيم خليل أحمد أود أن أقدم بمقدمة قصيرة عن السر أو المعجزة التي أذاعها رسول اللُه صلى الله عليه وسلم وهي واحدة من معجزاته التي لا يحصيها العد ولا يحيط بها الإحصاء. لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا بشر فقولوا عبد الله ورسوله» (3) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يشير إلى حقيقة الحقائق وإلى أساس الضلالات حينما يغالي الناس في الحب أحيانا وحينما يغالي الناس في الكراهية أحيانا، فقد ينظرون إلى شخص واحد فيرفعه بعضهم إلى إله ويهوي به البعض الآخر إلى شيطان رجيم والمثل هو عيسى بن مريم عليه السلام. فعيسى بن مريم نظر إليه قومه فمنهم من أحبه وأسرف في حبه فبالغوا وغالوا وجعلوا منه إلها. والله سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء في الآية الحادية والسبعين بعد المائة من سورة النساء {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
(1) سورة مريم، الآيات 16 - 36.
(2)
سورة مريم، 88 - 95.
(3)
الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري 4 / 127، ومسلم 7 / 343، من حديث عمر بن الخطاب، وانظر الكلام حول هذا المقام:(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) ص175.
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1) .
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الآية السابعة والسبعين من سورة المائدة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . (2) .
فهؤلاء قد غالوا في المسيح عليه السلام ورفعوه إلى مرتبة الألوهية " أجاب توما وقال له ربي وإلهي "(يوحنا 20: 28) .
وفي الوقت ذاته نجد أقواما آخرين اتهموه بأنه شيطان. هؤلاء هم اليهود.
أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته " (متى 12: 24 -26) .
ثم نجد النظرة الإسلامية وهي نظرة وسط تقرر الحق والحقيقة فحينما نشير إلى عيسى عليه السلام فإنه ينبغي لنا أن نضع في ذاكرتنا أن عيسى ليس وحده الشخص التاريخي الذي غالى فيه الناس علوا وهبوطا. فكثير من الشخصيات التاريخية غالى فيها الناس فبعضهم ارتفع بها إلى ما فوق مستوى البشرية وبعضهم هبط بها إلى الحضيض.
فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه غالى فيه البعض حتى ادعوا أنه إله وسجدوا له فحرقهم رضي الله عنه بالنار. كما أن هناك جمهرة من الناس
(1) سورة النساء، آية 171.
(2)
سورة المائدة - 77.
كفروه ولعنوه وخرجوا عليه. والحق والحقيقة في علي غير ذلك. وليس الأشخاص الدينيون فقط هم الذين يقف منهم الناس هذا الموقف، فعيسى رجل دين وعلي أيضا كذلك. ولكن في رجال الدنيا نجد أيضا من يرتفع بهم إلى ما فوق مستوى البشرية أحيانا. والباب هو باب المدح المبالغ فيه، المدح المذموم حيث نرى الشعراء المداحين ومن على شاكلتهم وهم يتحدثون عن الطغاة وعن الأقزام فيمجدونهم ويحولونهم إلى عمالقة وإلى آلهة. فنسمع عن واحد من هؤلاء الغلاة يقول لأحد الملوك الظلمة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
وهذا شاعر آخر يقول:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
…
لتخافك النطف التي لم تخلق
لم يكن هذا في العصر القديم وحده وإنما هذا في العصور الحديثة أيضا، الناس يبالغون في تمجيد الطغاة والظلمة حتى يرفعونهم فوق مستوى البشر. ولعلنا نذكر أن بعض الصحف كتبت عن أحد الحكام تقول: إنه فوق مستوى البشر. بل إن واحدا من الشعراء قال قصيدة في نعيه كان في أولها:
قتلناك يا آخر الأنبياء
…
بينما نجد جماهير كثيرة تلعنه وتمقته.
إذن مصيبة المصائب هي المبالغة في المدح ومصيبة المصائب هي المبالغة في الذم.
ولهذا حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبالغ في مدحه فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» فإنهم دخلوا في الشرك والكفر من باب إطراء عيسى عليه السلام إلى حد الغلو والمغالاة فزعموا أنه النور الأول الذي
انبثق من ذات الله وصاروا يبالغون في هذه النظرية حتى وصلوا إلى القول ببنوته لله وأنه الله إلى آخر الخلافات العقائدية التي تَمخضت عنها مجامعهم الكنسية من أول مجمع نيقية عام 325 م، إلى ما تلاه من مجامع.
إن الحديث عن الإطراء يطول ولكننا نريد أن نوصي المسلمين بأن يحذروا المبالغة في الإطراء حتى لا يدخل عليهم الشر الذي دخل على الأمم قبلهم. ولقد ندد رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ففي آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم كما تقول أمنا المبرأة عائشة رضي الله عنها: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم (أي مرض الموت) طفق يطرح خميصة على وجهه حتى إذا اغتم بها كشفها وقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . يحذر مثل ما صنعوا (1) . وتقول أم حبيبة تحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأته في الحبشة من الكنائس وما فيها من صور وقبور فقال لها: «أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح أقاموا على قبره مسجدا، أولئك شرار الخلق عند الله» (2) .
فليحذر المسلمون أن يبالغوا في إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الشر يأتي من باب الإسراف في الإطراء.
والآن أترككم مع الأستاذ العلامة إبراهيم خليل أحمد يطوف بنا حول موضوعات تتصل بالأقانيم الثلاثة - والبنوة كما جاءت في كتبهم - ثم كيف تطرق الثالوث إلى العقيدة المسيحية ثم يحدثنا إن اتسع الوقت عن المجامع
(1) الحديث رواه البخاري 1 / 422، 6 / 386، ومسلم 1 / 377 واللفظ له، والنسائي في 1 / 115، والدارمي 1 / 326، وأحمد في المسند 1 / 218، وعبد الرزاق في المصنف 1 / 406، وأبو عوانة في صحيحه 1 / 399.
(2)
الحديث رواه البخاري 1 / 416 - 422، ومسلم 2 / 66، والنسائي 1 / 115، وابن أبي شيبة في المصنف 4 / 140، وأحمد في المسند 6 / 51، وأبو عوانة في صحيحه 1 / 400، وابن سعد في الطبقات 2 / 240، والبغوي 2 / 415، والبيهقي في السنن الكبرى 4 / 80.
المقدسة وكيف أن العقيدة المسيحية قد تطورت عبر المجامع، وأرجو الله أن يكون حديثه موفقا ومملوءً بالعلم والحكمة.