الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده، لم يمنع من إرسال المسيح إلى بني إسرائيل.
فلماذا يرفضون أن يكون محمد رسولًا إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهم منذ المسيح لم يأتهم رسول من الله، كما قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
الصادق الأمين
فإن قال قائل: إن الشكوك تراودني في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، في ادعائه للنبوة.
قلنا له:
أولًا: إن الذين يقدحون في محمد صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يعلموا أن القدح فيه قدح في غيره من الأنبياء، وأن الشك فيه شك في غيره من الأنبياء، وأن تبرئة غيره من الأنبياء هو تبرئة له من باب أولى. إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من سيرة غيره من الأنبياء. . وكذلك شريعته، وأمته، والكتاب الذي أنزل إليه من ربه، ومعجزاته وهديه!! فمن كذب به صلى الله عليه وسلم وتشكك فيه. . فتكذيبه لغيره، وشكه فيه أولى. . .!
ومن آمن بغيره من الأنبياء، ونادى باتباعهم، فإن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه أولى، وأهدى!
(1) سورة المائدة، آية 19.
ثانيًا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أظهر دين الرسل قبله، وصدقهم، ونوه بذكرهم وتعظيمهم، حتى يحق لنا أن نقول: إن من آمن بالأنبياء والرسل مثل موسى والمسيح وغيرهما، إنما آمنوا بهم عن طريقه صلى الله عليه وسلم. بهم الكفار، ويحق لنا أن نقول: إن كثيرًا من الأمم، لولا محمد صلى الله عليه وسلم، وما قصه عليهم من القصص الحق في أخبارهم وآثارهم، لم يؤمنوا بهم!!
(ولولا أن القرآن الكريم -ذكر ما ذكر- عن ولادة المسيح وآية الله فيه وفي أمه، لاعتبر الناس هذا الموضوع أسطورة قديمة. . .) وهذا التعبير، قاله أحد الأدباء المسيحيين!!
ثالثًا: إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت شهادة أهل الكتاب له، وإيمان كثير منهم به، كما قال تعالى {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (1) .
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3) .
(1) سورة البقرة، آية 146.
(2)
سورة البقرة، آية 146.
(3)
سورة الأنعام، الآيتان 19، 20.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) . {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
وهذه الآيات القرآنية تشير إلى شواهد كثيرة موجودة في كتب القوم، من يهود أو نصارى، وقد نقلنا منها فيما سلف من أحاديث، الشيء الكثير.
فإن قال قائل: إننا لا نقر ولا نعترف بأن في الكتب المقدسة كأسفار العهدين القديم والجديد، إشارات أو بشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم .
(1) سورة آل عمران، آية 199.
(2)
سورة الأحقاف، الآيتان 9، 10.
(3)
سورة الرعد، آية 43.
(4)
سورة الفتح، آية 29.
قلنا لهم: يترتب على قولكم هذا أمران:
الأمر الأول: ألا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أي كتاب، يهودي أو نصراني، بحجة أن (القرآن) قال (مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل) وهو غير مكتوب عندهم لا في التوراة ولا في الإنجيل. . .!
لكن ثبت -تاريخيًا وواقعيًا- غير هذا، بل وضد هذا، فإن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه من اليهود والنصارى، في القديم والحديث، أعداد هائلة لا تكاد تنحصر، وهم لم يؤمنوا به إِلا بعد أن قرأوا هذه الآيات، ووقفوا من كتبهم على هذه البشارات!!
وأمر ثان: هو: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، ظهر وقهر أهل الكتاب من يهود ونصارى، وسبى من سبى منهم، وقتل من قتل من رجالهم، وأخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. . .
فلا بد أن يرد ذكره، وذكر الأحداث العظام التي جرت عليهم في أيامه. . .!
وإذا كان كاذبًا أو دعيًا -وحاشاه- فلا بد أن يرد في كتبهم التحذير من اتباعه. .!
ومعلوم أن أهل الكتاب يقولون قولين:
القول الأول: إنه ليس موجودًا في كتبنا. . .
والقول الثاني: إنه موجود ومذكور بالمدح والثناء.
وليس هناك قول ثالث، يدعي صاحبه أن اسمه أو صفته مذكورة في هذه الكتب بالذم والتحذير. . .
ولو كان موجودًا عندهم بالذم والتحذير، لكان هذا من أعظم ما يحتجون
به عليه في حياته، أو يواجهون به أتباعه بعد مماته، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم. . .
فإنه من المعلوم أن كثيرًا من أهل الكتاب -كانوا، وما زالوا- يبغضونه صلى الله عليه وسلم ويضمرون ويظهرون له من العداوة والتكذيب الشيء الكثير. . . مما يدفعهم إلى افتراء أمور خيالية وهمية ونسبتها إليه. . . حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين (الله أكبر) بأن (أكبر) هذا صنم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتعظيمه وعبادته!!
إن قومًا وصل بهم الافتراء والكذب إلى هذه الغاية. . . كان يمكنهم أن يظهروا ما في كتبهم من تكذيبه والتحذير منه، لكنهم لم يفعلوا لأن كتبهم خالية من هذا الادعاء!!
رابعًا: إن من ادعى النبوة -وكان صادقًا- فهو من أفضل خلق الله تعالى، وأكملهم في العلم والدين. . . إذ لا شك أن رسل الله وأنبياءه هم أفضل الناس، وأعدل الناس، وأبر الناس، وأهدى الناس. . .
وإن كان بعضهم أفضل من بعض. . .
كما قال تعالى عن الرسل {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (1) .
وكما قال سبحانه عن الأنبياء {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (2) .
أما من ادعى النبوة -وكان كاذبًا- فهو من أكفر خلق الله وأفجرهم وشرهم، كما قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) .
(1) سورة البقرة، آية 253.
(2)
سورة الإسراء، آية 55.
(3)
سورة الأنعام، آية 93.
وقال تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (2) .
فالكذب أصل الشر، وأعظم الكذب ما كان كذبًا على الله عز وجل. . .
والصدق أصل الخير، وأعظمه الصدق في التبليغ عن الله تبارك وتعالى. .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» .
وهذا المعنى يعرفه العقلاء من بني الإنسان، ولهذا، فإنه ينبغي لنا أن ننقل هذه المناقشة الواعية الدقيقة التي تمت بين (هِرْقَل) وبين (أبي سفيان) وهي مناقشة تنم عن فهم، وعلم، وعقل، اتسم بها (هرقل) . . .!
كان (هرقل) هذا. . . ملكًا على النصارى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، سأل عن عشرة أمور كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «حدثني أبو سفيان بن حرب من فِيْه إلى فيَّ، قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة، قال: فبينا أنا بالشام، إِذ جيء بكتاب
(1) سورة الزمر، آية 32-34.
(2)
سورة الزمر، آية 60.
من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل.
فقال هرقل: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قالوا: نعم.
قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه.
قال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قال أبو سفيان: قلت أنا.
فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه.
قال: فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه.
ثم قال لترجمانه:
سله: كيف حسبه فيكم؟
قال: قلت: هو فينا ذو حسب.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: ومن اتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: لا، بل يزيدون؟
قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟
قال: قلت: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟
قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه؟
قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها.
قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه.
قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟
قال: قلت: لا.
قال: ماذا يأمركم؟
قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: عن أتباعه، أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله. .
وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟
فزعمت: أن لا، فكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالًا، ينال منكم، وتنالون منه، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.
ثم سألتك: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال: إِن يكن ما تقول فيه حقًّا: إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين -الفلاحين، والعامة- و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .»
وفي رواية: فماذا يأمركم به؟
قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد
(1) سورة آل عمران، آية 64.
آباؤنا، يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، فقال: هذه صفة نبي.
خامسًا: نزول القرآن الكريم عليه، مع أنه (أمّيّ) لم يذهب إلى مدرسة، ولم يجلس إلى معلم، ولم يهاجر في طلب علم.
قال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) .
وقال تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) .
وتأملوا -إن شئتم- قوله تعالى {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} .
وهذا العمر الذي لبثه فيهم، والذي بلغ أربعين عامًا!!
لم يؤثر عنه في خلالها علم، ولا شعر، ولا بلاغة، ولا فصاحة. . .!
فلما بلغ الأربعين تحدث. . . وتحدث كثيرًا بالعلم النافع، والهدي القويم، والخير العميم. . .!
وتحول (الأميُّ) إلى معلم. . . لا معلم مدرسة أو منطقة أو مدينة أو قبيلة أو دولة. . . وليس معلم زمان واحد، أو جيل فريد. . .!
وإنما أصبح معلمًا للدنيا بأسرها، بكل ألوانها وأجناسها، معلمًا لكل العصور والدهور. .!
(1) سورة العنكبوت، آية 48.
(2)
سورة يونس، الآيتان 15، 16.
وقال الله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (1) .
إنه لم يتكلم من عند نفسه، ولم ينطق بقوة جنانه، أو بروعة بيانه، أو بفصاحة لسانه. . . ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه الحكمة وفصل الخطاب.
وقد علمه الله أن يقول في دعائه:
وقال تعالى مبينًا التحول العظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه سبحانه وحده هو الذي علمه ورباه، وزكاه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (3) .
وقال عنه. وله: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (4) .
(1) سورة النساء، آية 113.
(2)
سورة طه، آية 114.
(3)
سورة الشورى، الآيات 51- 53.
(4)
سورة الضحى، الآيات 1-11.
والقرآن الكريم، وهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى.
وهو النص الوحيد الباقي لدين الله وهدايته، ومراده من عباده!
وهو المتعبد بتلاوته، والمتحدى بأقصر سورة منه!
وهذا هو السر في انتشار (رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وشيوعها في الخافقين، مع قلة ما يبذل في سبيلها- وبخاصة في هذا الزمان- من جهود، إذا قيست بما يقيمه أعداؤها في سبيلها من عقبات!!
إن الإسلام. . .
وإن القرآن. . .
وإن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام. . .
إن هذا الخير الكبير، ينتشر، ويمتد في انتشاره، حتى بين البلاد التي يسمونها (العالم الجديد) بلاد النور، والحرية، وحقوق الإنسان!!
لقد قال أحد الأدباء الإنجليز المشهورين: (جورج برنارد شو) :
" وإذا كان لنبوءات كبار الرجال أثر، فإنني أتنبأ بأن دين محمد، قد بدأ يكون مقبولًا لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولًا لديها أكثر غدًا، وسيكون دين الإنسانية جميعًا قبل الصيحة الأخيرة ".
وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» .
وسادسًا وسابعًا: فإن الدلائل والبراهين، القائمة الشاهدة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته أكثر من أن تحصى أو تستقصى:
فصحابته رضوان الله عليهم من أمارات صدقه، فالذي يدرس حياتهم في الجاهلية والإسلام، فرادى أو جماعات يجد عجبًا. . .
أمة متنابزة متخاصمة، بينهم تراث وعداوات، تقوم الحروب بينهم، ولا تهدأ إلا لتبدأ. . وهذه الحروب القائمة الدائمة المستمرة، تشعلها أوْهَى الأسباب، ولا تطفئها كل الجهود والمساعي. . .!
هذه الأمة، تحولت -بعون الله ومدده- إلى أمة متحالفة، متآلفة، متكاتفة، قوية. . . يقول عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» .
ويقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
ونقول باختصار- وباختصار شديد:
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من آياته. . . وأخلاقه، وأقواله، وأفعاله، وشريعته من آياته. . .
وأمته من آياته. . .
وغزواته من آياته. . . وعلم أمته ودينهم من آياته. . .
وكرامات صالحي أمته من آياته. . .
(1) سورة آل عمران، الآيتان 102، 103.
(2)
سورة الأنفال، الآيتان 62، 63.