المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقال ابن كثير: (كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت - منهج ابن عقيل الحنبلي وأقواله في التفسير جمعا ودراسة

[راشد بن حمود الثنيان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجي وعملي في البحث:

- ‌التمهيد ترجمة موجزة لابن عقيل

- ‌أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

- ‌ثانياً: مولده:

- ‌ثالثاً: أسرته:

- ‌رابعاً: شيوخه:

- ‌خامساً: تلاميذه:

- ‌سادساً: مكانته العلمية:

- ‌سابعاً: مصنفاته:

- ‌ثامناً: ابن عقيل والمعتزلة:

- ‌تاسعاً: وفاته

- ‌القسم الأول مصادر ابن عقيل ومنهجه في التفسير

- ‌الفصل الأول مصادر ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول مصادر القرآن وعلومه:

- ‌المبحث الثاني مصادر الحديث:

- ‌المبحث الثالث مصادر الفقه:

- ‌المبحث الرابع مصادر العقيدة:

- ‌الفصل الثاني منهج ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني تقييد المطلق:

- ‌المطلب الثالث بيان المجمل:

- ‌المطلب الرابع جمع النظائر:

- ‌المبحث الثاني تفسير القرآن بالسنة

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني بيان المجمل:

- ‌المطلب الثالث الترجيح بالسنة:

- ‌المبحث الثالث تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني دفع موهم التناقض:

- ‌المبحث الرابع تفسير القرآن باللغة:

- ‌المطلب الأول اهتمامه بمعاني المفردات والحروف، ومرجع الضمائر:

- ‌المطلب الثاني عنايته بالشعر وأقوال العرب:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالأوجه البلاغية ولطائف التفسير:

- ‌المبحث الخامس تفسيره لآيات الأحكام

- ‌المطلب الأول مذهبه الفقهي:

- ‌المطلب الثاني نقله للإجماع:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالقياس:

- ‌المطلب الرابع منهجه في الاستنباط:

- ‌الفصل الثالث علوم القرآن عند ابن عقيل

- ‌المبحث الأول الناسخ والمنسوخ:

- ‌المبحث الثاني أسباب النزول:

- ‌المبحث الثالث المحكم والمتشابه:

- ‌المبحث الرابع العام والخاص:

- ‌القسم الثاني أقوال ابن عقيل في التفسير - من أول القرآن إلى آخره - مع دراستها

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة القدر

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العصر

- ‌الخاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: وقال ابن كثير: (كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت

وقال ابن كثير: (كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها، وهو متصف بذلك؟ وهل هذا من تحصيل الحاصل أم لا؟ فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الله الهداية لما أرشده الله إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق

)

(1)

.

‌سورة البقرة

قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة:38].

2/ 1 - قال ابن عقيل: (قال الله سبحانه لآدم وحواء:

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} وهذا خطاب الذكور اهـ)

(2)

.

الدراسة:

ذكر ابن عقيل هذا ضمن أدلة من قال بدخول النساء في مطلق الأمر.

والمسألة المستفادة هنا هي: مسألة تغليب جمع الذكور، ولبيان هذه المسألة أقول: إن

الجمع لا يخلو من إحدى هذه الصور:

الأولى: أن يكون مفرد الجمع لا يصح إطلاقه على النساء، كالرجال، فهو جمع خاص بالرجال اتفاقاً.

الثانية: أن يكون مفرده لا يصح إطلاقه على الرجال، كالبنات، فهو جمع خاص بالنساء اتفاقاً.

الثالثة: أن يكون ذلك الجمع متناولاً للذكور والإناث لغة ووضعاً، كالناس فإنه يتناول الذكور والإناث بالاتفاق

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير 1/ 162.

(2)

ينظر: الواضح 3/ 125.

(3)

ينظر: التمهيد لأبي الخطاب 1/ 290، روضة الناظر لابن قدامة 2/ 148، الإحكام للآمدي 2/ 265.

ص: 87

أما الصورة الرابعة التي فيها الخلاف فهي: إذا كانت علامة الذكور فيه واضحة بينة، كجمع المذكر، نحو: المؤمنين، وقد اتفق أهل اللغة على تغليب جمع الذكور مع دخول النساء فيه. قال ابن منظور

(1)

: (وإنما المستجاز من ذلك رد التأنيث إلى التذكير؛ لأن التذكير هو الأصل بدلالة أن الشيء مذكر وهو يقع على المذكر والمؤنث فعلم بهذا عموم التذكير وأنه هو الأصل الذي لا ينكر)

(2)

.

ونُقل عن بعض اللغويين أن هذا قول جميع النحويين

(3)

.

أما اختلاف العلماء ففي مسألة اندراج النساء تحت لفظ جمع المذكر؛ هل هو بالتغليب أو بأصل الوضع؟

فقد ذهب ابن عقيل وجماعة من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن قدامة

(4)

ورواية عن الإمام أحمد وهو قول لابن داود

(5)

إلى أن دخول النساء في جمع المذكر بأصل الوضع واستدلوا بأدلة من أهمها: استخدام العرب والآية التي معنا.

(1)

هو أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي ابن منظور الأنصاري، من أشهر كتبه: لسان العرب، وله اختصارات كثيرة لكتب الأدب المطولة، مات سنة 711 هـ، له ترجمة في: فوات الوفيات 2/ 265، الدرر الكامنة 4/ 262.

(2)

لسان العرب 2/ 57.

(3)

لسان العرب 9/ 9. وأشار إلى الاتفاق القاضي أبو يعلى الحنبلي في العدة 2/ 353، وابن النجار في شرح الكوكب المنير 3/ 237.

(4)

ينظر: العدة 2/ 351، روضة الناظر 2/ 148.

(5)

هو محمد بن داود بن علي الظاهري أبو بكر الأصبهاني، ولد داود الظاهري، أحد أذكياء زمانه، مات سنة 297 هـ، له ترجمة في: تاريخ بغداد 5/ 256، شذرات الذهب 2/ 226.

ص: 88

وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد أن النساء لا يدخلن في ذلك بأصل الوضع بل بالتغليب، واختارها من الحنابلة أبو الخطاب

(1)

، والطوفي

(2)

، واستدلوا بأدلة من أهمها: ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ .. فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب:35])

(3)

.

(1)

ينظر: التمهيد 1/ 291، وهو الإمام محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي الحنبلي من كتبه التمهيد في أصول الفقه، مات سنة 510 هـ، له ترجمة في: الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 116، شذرات الذهب 4/ 27.

(2)

في شرح مختصر روضة الناظر 2/ 515، وهو أبو الربيع سليمان بن عبدالقوي الطوفي الصرصري البغدادي تتلمذ على شيخ الإسلام، مات سنة 716 هـ، له ترجمة في: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 366، شذرات الذهب 6/ 39.

(3)

أخرجه أحمد 6/ 301 (26575)، والطبري في التفسير 10/ 300، والحاكم 2/ 416، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ص: 89

والحاصل الملخص: هو القول بأن دخول النساء في جمع المذكر راجع للسياق والقرائن، فسماه بعضهم تغليباً، والآخرون أصلاً، وبهذا تتفق الأقوال

(1)

، ولذا يستدل من قال بدخولهن بأصل الوضع بدلالة التغليب للذكور، وأما أن يفسر قول من قال بدخول النساء في جمع المذكر بأصل الوضع بأنه ينصرف جمع المذكر للنساء كما ينصرف إلى الرجال على حد سواء فهذا لا يسوغ، للقطع باختصاص الذكور بهذه الصيغة لغة واختصاص النساء بغيرها، وإجماع أهل اللغة على ذلك، ولذا قال أبو المعالي

(2)

: (وما ذكره هؤلاء من تغليب علامة التذكير عند محاولة التعبير عن الجنسين فصحيح في الجملة، ولكنهم لم يفهموه على وجهه؛ فإن ما ذكروه سائغ إن أريد، فأما أن يقال: وضع اللسان على أن المسلمين مسترسل على الرجال والنساء استرساله على آحاد الرجال فلا، والذي ذكروه صالح لو أريد، وليس في اللسان القضاء به إلا عند قرينة شاهدة عليه)

(3)

.

وقد قال ابن عقيل ضمن جوابه على دليل من منع الدخول بأصل الوضع: (وإن قلنا: إنهن يدخلن، فإنما يدخلن من جهة الظاهر، فأما من جهة الصريح والنص فلا .. )

(4)

، فالصواب أن تناول صيغة جمع المذكر للنساء بقرينة شرف الذكورية وتسمى التغليب وهو واقع في اللغة كما سبق، وتدخل النساء في جمع المذكر حسب دلالة العرف، وكذا دلالة الشرع؛ لأن عموم الأحكام الشرعية شاملة للجنسين

(5)

.

(1)

ينظر: شرح مختصر روضة الناظر 2/ 516.

(2)

هو أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الطائي السنبِسي الجويني الشافعي، له مصنفات من أشهرها: البرهان والورقات في أصول الفقه، مات سنة 478 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 18/ 468، شذرات الذهب 3/ 358.

(3)

البرهان 1/ 245.

(4)

الواضح 3/ 131.

(5)

ينظر: شرح الكوكب المنير 3/ 236.

ص: 90

قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة:43].

3/ 2 - قال ابن عقيل: (ومثل قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} بين ذلك في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم رضي الله عنه في الزكوات والديات

(1)

، وكتابه الذي كتبه لأبي بكر في الصدقات

(2)

اهـ)

(3)

.

الدراسة:

هذه المسألة التي أشار إليه ابن عقيل من المسائل الواضحة، فلا نجد في القرآن الأحكام التفصيلية لمقادير الزكاة؛ وإنما بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته بياناً شافياً كافياً.

وقد أشار إلى هذا القرطبي بقوله: (فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم)

(4)

.

وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: (ويكون البيان - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة أيضاً: كنحو الذي كتبه لعمرو بن حزم في الصدقات والديات وسائر الأحكام، وكتابه الذي كتبه لأبي بكر الصديق في الصدقات)

(5)

. والله أعلم.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة:46].

(1)

حديث عمرو بن حزم أخرجه بطوله: ابن حبان في صحيحه في باب ذكر كتبة المصطفى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى أهل اليمن 14/ 501 (6559)، والحاكم وصححه في مستدركه كتاب الزكاة 1/ 552 (1447)، والبيهقي في كتاب الزكاة باب كيف فرض الصدقة 4/ 149 (7255).

(2)

هو حديث أنس بن مالك في الصدقات، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين .. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم (1454).

(3)

ينظر: الواضح في أصول الفقه 1/ 193.

(4)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 1/ 235.

(5)

العدة 1/ 114.

ص: 91

4/ 3 - قال ابن عقيل: ({الَّذِينَ يَظُنُّونَ} والمراد به: يعلمون اهـ)

(1)

.

الدراسة:

بيّن ابن عقيل معنى الظن في الآية: بأنه العلم، والظن في اللغة يطلق على معنيين متضادين.

قال ابن فارس

(2)

: (الظاء والنون أُصيل صحيح، يدل على معنيين مختلفين: يقين وشك)

(3)

.

وقال ابن منظور: (الظن شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم)

(4)

.

وقال الطبري: (إن العرب قد تسمي اليقين ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سُدْفة، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده)

(5)

.

وقد ذهب الجمهور

(6)

إلى أن معنى الظن في هذه الآية: العلم واليقين

(7)

.

وقيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم

(1)

الواضح 3/ 488.

(2)

هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، من أشهر مصنفاته: معجم مقاييس اللغة، مات سنة 395 هـ، ينظر: سير أعلام النبلاء 17/ 103، شذرات الذهب 3/ 132.

(3)

معجم مقاييس اللغة 3/ 462.

(4)

لسان العرب 13/ 272.

(5)

جامع البيان 1/ 623.

(6)

نسبه للجمهور: الماوردي في النكت والعيون 1/ 116، وابن عطية في المحرر الوجيز 1/ 137، والقرطبي في تفسيره 1/ 255.

(7)

ينظر: كلام ابن اليزيدي في غريب القرآن وتفسيره ص 22، والطبري في جامع البيان 1/ 624، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 66، وابن كثير في تفسيره 1/ 258.

ص: 92

يتوقعون لقاءه مذنبين، ذكره الماوردي

(1)

، ونسبه ابن عطية

(2)

للمهدوي

(3)

، وقال:(وهذا تعسف)

(4)

، وقد أصاب رحمه الله فسياق الآية يدل على أن معناه في هذا الموضع: اليقين، وهو قول عامة المفسرين سلفاً وخلفاً.

قال قطرب

(5)

: ({الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} .. فهذا يقين، ولو كان شكاً لم يجز في ذلك المعنى، وكان كفراً، ولكنه يقين)

(6)

.

وقال البغوي: ({الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يستيقنون، فالظن من الأضداد يكون شكاً ويقيناً)

(7)

.

وقال ابن كثير: (أي يعلمون)

(8)

.

(1)

النكت والعيون 1/ 116، و هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي له من المؤلفات: الأحكام السلطانية، والحاوي الكبير وغيرها مات سنة 450 هـ، له ترجمة في: طبقات السيوطي 25، شذرات الذهب 3/ 285.

(2)

هو عبدالحق بن غالب بن عبدالملك بن عطية أبو محمد الغرناطي القاضي، له التفسير المشهور: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، توفي سنة 541 هـ، وله ترجمة في: طبقات السيوطي ص 50، طبقات الداوودي 1/ 265.

(3)

المحرر الوجيز 1/ 136، وهو أحمد بن عمار أبو العباس المهدوي صاحب التفسير الكبير: التفصيل الجامع لعلوم التنزيل، واختصره وسماه: التحصيل في مختصر التفصيل، ولا أعلمه مطبوعاً، مات بعد سنة 430 هـ، له ترجمة في: طبقات السيوطي ص 19، طبقات الداوودي 1/ 56.

(4)

المحرر الوجيز 1/ 138.

(5)

هو أبو علي محمد بن المستنير، النحوي اللغوي البصري، مولى سالم بن زياد المعروف بقطرب، له من التصانيف: معاني القرآن في التفسير، مات سنة 206 هـ، له ترجمة في: طبقات الداوودي 2/ 256، طبقات الأدنه وي ص 28.

(6)

الأضداد له ص 71، والأضداد لابن الأنباري ص 3، 19.

(7)

معالم التنزيل 1/ 38.

(8)

تفسير ابن كثير 1/ 258.

ص: 93

وقال الشنقيطي: (المراد بالظن هنا اليقين)

(1)

.

وقد ذكر ابن عاشور

(2)

السر في التعبير بالظن بدلاً عن العلم واليقين: هو أن لفظ الظن مشترك بين الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح

(3)

فيشمل المعنيين كما هو المراد في الآية بخلاف لفظ العلم واليقين فيقتصر على الاعتقاد الجازم. والله تعالى أعلم.

قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة:78].

5/ 4 - قال ابن عقيل: ({أَمَانِيَّ} يعني: تلاوة اهـ)

(4)

.

الدراسة:

فسر ابن عقيل كلمة: {أَمَانِيَّ} في هذه الآية بالتلاوة، وهو قول للكسائي، والزجاج

(5)

، والفراء

(6)

، وابن اليزيدي

(7)

، ومستندهم قوله تعالى:{إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، أي: في تلاوته

(8)

، وهذا هو القول الأول في معنى {أَمَانِيَّ} .

(1)

أضواء البيان 1/ 68.

(2)

هو محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة بتونس، من مصنفاته: التحرير والتنوير في التفسير، مات سنة 1393 هـ، له ترجمة في: الأعلام 6/ 174.

(3)

ينظر: التحرير والتنوير 1/ 481.

(4)

الواضح 2/ 372.

(5)

ينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/ 159.

(6)

معاني القرآن 1/ 49، وهو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبدالله بن مروان الديلمي، من مصنفاته معاني القرآن، مات سنة 207 هـ، له ترجمة في: طبقات الداوودي 2/ 367.

(7)

غريب القرآن وتفسيره ص 26، وهو أبو عبدالرحمن عبدالله بن يحيى بن المبارك العدوي البغدادي، المعروف بابن اليزيدي، مات سنة 237 هـ، له ترجمة: الأنساب 5/ 693.

(8)

معجم مفردات القرآن ص 531.

ص: 94

القول الثاني: ذهب ابن عباس ومجاهد

(1)

إلى أن معنى الأماني الكذب، واختاره الفراء

(2)

، ورجحه الطبري بقوله: (وأولى ما روينا في تأويل قوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} بالحق وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك

(3)

- وقول مجاهد: أن الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً)

(4)

.

القول الثالث: ذهب قتادة

(5)

إلى أن معنى الأماني: أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم

(6)

.

(1)

جامع البيان 2/ 156، وهو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي شيخ القراء والمفسرين، مات سنة 102 هـ، له ترجمة في: الجرح والتعديل 8/ 319، سير أعلام النبلاء 4/ 449.

(2)

معاني القرآن 1/ 50.

(3)

هو أبو محمد، وقيل: أبو القاسم الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير أصله من الكوفة ثم أقام ببلخ، مات سنة 102 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 598.

(4)

جامع البيان 2/ 157.

(5)

قتادة هو ابن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، كان حافظاً، ومفسراً وفقيهاً، مات سنة 118 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 269، طبقات الداوودي 2/ 47.

(6)

جامع البيان 2/ 156.

ص: 95

القول الرابع: أن الأماني: التقدير، يقال: منى لك الماني أي قدر لك المقدر، قاله ابن فارس

(1)

، والجوهري

(2)

، والراغب الأصفهاني

(3)

.

وعند التأمل في هذه المعاني لا نجد بينها تعارضاً؛ بل الكلمة تحتملها جميعاً.

قال ابن فارس: (الميم والنون والحرف المعتل أصل واحد صحيح، يدل على تقدير شيء ونفاذ القضاء به)

(4)

، فالتلاوة تقدير ووضع كل آية موضعها

(5)

، وكذلك هي تقدير لا يتبعه عمل وفهم للمتلو، وكذلك الكذب تقدير ما لا حقيقة له، والتمني كالمقدمة له، كما قال الراغب: (ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار التمني كالمبدء للكذب فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني، وعلى ذلك ما روي عن عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت

)

(6)

، ولذا فسرها جمع من أهل العلم بأكثر من معنى بلا ترجيح

(7)

.

(1)

معجم مقاييس اللغة 5/ 276.

(2)

الصحاح 5/ 1983، هو أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، له: تاج اللغة وصحاح العربية المسمى بالصحاح، مات سنة 398 هـ، له ترجمة في: لسان الميزان 1/ 518، شذرات الذهب 3/ 143.

(3)

معجم مفردات القرآن ص 530، وهو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، مات سنة 503 هـ، ينظر: سير أعلام النبلاء 18/ 120، طبقات الداوودي 2/ 329 باسم المفضل والصواب أنه الحسين.

(4)

معجم مقاييس اللغة 5/ 276.

(5)

معجم مقاييس اللغة 5/ 277 بتصرف يسير.

(6)

معجم مفردات القرآن ص 530، وقول عثمان رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 41 (124).

(7)

ينظر: غريب القرآن وتفسيره لابن اليزيدي ص 26، أحكام القرآن للقرطبي 2/ 6 - 7، بدائع التفسير لابن القيم 1/ 320.

ص: 96

قال ابن تيمية بعد ذكر الأقوال في قوله تعالى: {أَمَانِيَّ} : (والآية تعمها فإنه سبحانه وتعالى قال: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} ،لم يقل: لا يقرؤون ولا يسمعون، ثم قال:{إِلَّا أَمَانِيَّ} وهذا استثناء منقطع؛ لكن يعلمون أماني: إما بقراءتهم لها، وإما بسماعهم قراءة غيرهم، وإن جعل الاستثناء متصلاً كان التقدير: لا يعلمون الكتاب إلا علم أماني، لا علم تلاوة فقط بلا فهم، والأماني جمع أمنية وهي التلاوة

)

(1)

.

وهذا لا يمنع من كون بعضها أولى من بعض؛ لأن العبارات وإن كانت ترجع لمعنى واحد، إلا أن السياق أو غيره من القرائن يقوي أحدها، ولأجل هذا فقد رجح الطبري - كما سبق - القول الثاني، وعلل ذلك بقوله: (والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، وأنه أولى بتأويل قوله:{إِلَّا أَمَانِيَّ} من غيره من الأقوال قول الله جل ثناؤه: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً، ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين

الخ)

(2)

.

وقال الفراء في القول الثاني: (وهذا أبين الوجهين)

(3)

.

وقال الشنقيطي بعد ذكره للقول الأول: ( .. وهذا القول لا يتناسب مع قوله:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} لأن الأمي لا يقرأ)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

مجموع الفتاوى 17/ 434.

(2)

جامع البيان 2/ 158.

(3)

معاني القرآن 1/ 50.

(4)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/ 70، ويراجع للاستزادة في هذه المسألة:

النكت والعيون للماوردي 1/ 150، زاد المسير 1/ 91، المحرر الوجيز 1/ 169، معالم التنزيل 1/ 54، تفسير ابن كثير 1/ 305.

ص: 97

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} [البقرة:93].

6/ 5 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} وحذف حب العجل، ولو ذكر حب العجل لكان هو الحقيقة اهـ)

(1)

.

الدراسة:

في كلام ابن عقيل مسألتان:

المسألة الأولى: هل في القرآن مجاز؟ الخلاف في ذلك مشهور معروف:

عرَّف العلماء المجاز: بأنه استعمال الكلام في غير ما وضع له لقرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، وقسيمه الحقيقة: وهي الكلام الذي استعمل فيما وضع له في الأصل

(2)

.

وقد اختلف العلماء في وقوع المجاز في اللغة وفي القرآن:

فذهب بعض العلماء إلى منع وجود المجاز في اللغة، ورجح هذا القول وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية وألف رسالة في الحقيقة والمجاز

(3)

، ورد القول بوقوعه، وما تذرع به من قال به، وأبطل الحد الذي حد به

(4)

.

(1)

ينظر الواضح 2/ 385، 4/ 30.

(2)

ينظر: العدة 1/ 172، روضة الناظر 2/ 8، الواضح 2/ 384، شرح الكوكب المنير 1/ 149.

(3)

مضمنة في مجموع الفتاوى 20/ 400.

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى 7/ 87 وما بعدها.

ص: 98

ومن كلامه أنه قال: (لم ينقل أحد قط عن أهل الوضع أنهم قالوا: هذا حقيقة وهذا مجاز، بل ولا ذكر هذا أحد عن الصحابة الذين فسروا القرآن وبينوا معانيه، ولا من بعدهم، ولا غير هؤلاء، ولا أحد من أئمة الفقه الأربعة وغيرهم، وإنما وجد في كلام أحمد بن حنبل لكن بمعنى آخر

(1)

، كما أنه وجد في كلام أبي عبيدة معمر بن المثنى بمعنى آخر

(2)

، ولم يوجد أيضاً تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز في كلام أئمة النحو واللغة: كأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، والخليل، وسيبويه، والكسائي، والفراء، ولا يعلمه أحد من هؤلاء عن العرب)

(3)

.

وتبعه تلميذه ابن القيم، وعقد له فصلاً في الصواعق المرسلة قال فيه:(كسر الطاغوت الثالث وهو المجاز من خمسين وجهاً)

(4)

.

وذهب كثير من العلماء إلى القول بالمجاز في اللغة، ثم اختلف هؤلاء في جواز إطلاقه في القرآن: فمنهم من أجازه، وهو مذهب جمهور أهل الأصول

(5)

، ومنهم من منعه

(6)

.

(1)

كلام الإمام أحمد أنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله تبارك وتعالى: [إِنَّا]، [نَحْنُ] ونحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنعطيك، إنا سنفعل؛ فذكر أن هذا مجاز اللغة، وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في القرآن مجازاً، كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب وغيرهم، وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين، ينظر: مجموع الفتاوى 7/ 89.

(2)

وضح هذا المعنى بقوله: (إنما عنى بمجاز الآية: ما يعبر به عن الآية) مجموع الفتاوى 7/ 88.

(3)

مجموع الفتاوى 20/ 451 بتصرف.

(4)

مختصر الصواعق المرسلة 2/ 241.

(5)

ينظر: شرح مختصر روضة الناظر 1/ 532، الإحكام للآمدي 1/ 45، المسودة ص 564، شرح الكوكب المنير 1/ 191.

(6)

ينظر: المسودة ص 564، شرح الكوكب المنير 1/ 191.

ص: 99

وقد ألف الشنقيطي رسالة في منعه سماها (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) تكلم فيها عن المسألة، وحرر رأيه بقوله:(والذي ندين الله به ويلزم قبوله كل منصف محقق أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقاً على كلا القولين، أما على القول بأنه لا مجاز في اللغة وهو الحق؛ فعدم المجاز في القرآن واضح، وأما على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن، وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه .. ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن)

(1)

.

ثم أجاب بأجوبة سديدة على ما ادعي فيه المجاز في كتاب الله تعالى

(2)

.

ولا بد من العلم بأن حقيقة الخطاب هو ما أراده المتكلم في خطابه، كما قال ابن القيم في الصواعق المرسلة:(الفصل الحادي عشر: في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين متنافيان، وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى)

(3)

.

ولو قيل بالمجاز لأصبح أكثر كلام الناس لا حقيقة له، وهذا مما يضعف القول به ويرده.

قال ابن القيم: (وقد قال بعض أئمة النحاة: أكثر اللغة مجاز، فإذا كان أكثر اللغة مجازاً سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقل ما شئت، وأول ما شئت، وأنزل عن الحقيقة ولا يضرك أي مجاز ركبته)

(4)

. فإذا قيل مثلاً: قطع الأمير يد زيد. قيل: هل قطعها حساً أو معنى؟ وهل قطعها بنفسه؟ أو أمر بذلك؟ وهكذا.

المسألة الثانية:

ذكر العلماء في تفسير هذه الآية قولين:

(1)

منع جواز المجاز ص 36.

(2)

ينظر: ص 61.

(3)

1/ 310.

(4)

الصواعق المرسلة 2/ 451.

ص: 100

القول الأول: أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل، وهذا هو قول قتادة وأبي العالية

(1)

، وذلك أن من عادة العرب إذا أرادوا العبارة عن مخامرة حب أو بغض استعملوا لفظ الشراب لأنه أبلغ ما يتغلغل في البدن، ولو قيل: إنهم أحبوا العجل لم تكن هذه المبالغة

(2)

، ويكون هذا من باب حذف المضاف وهو الحب، وحلول المضاف إليه مقامه اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام فيكون كالمذكور، إذ كان معلوماً أن العجل لا يُشرِبُ القلبَ، وأن الذي يُشرِب القلبَ منه حبه، وهو مستعمل كثيراً، كما قال تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163]، وقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، والمراد: أهل القرية.

القول الثاني: أنهم سقوا الماء الذي ذُرِّي فيه سُحالة العجل، وهذا هو قول السدي

(3)

، وابن جريج

(4)

، ودليل تذريته في البحر قوله تعالى:{ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)} [طه:97].

(1)

جامع البيان 2/ 263، وأبو العالية: هو رفيع بن مهران البصري الرياحي، كان إماماً في القرآن والتفسير، مات سنة 93 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 207، طبقات الداوودي 1/ 178.

(2)

ينظر: المفردات ص 289 بتصرف كثير.

(3)

هو أبو محمد إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة السدي الهاشمي الكوفي، المشهور بالتفسير، مات سنة 127 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 264، طبقات الداوودي 1/ 110.

(4)

جامع البيان 2/ 265، وابن جريج هو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج أبو الوليد ويقال: أبو خالد الرومي الأموي مولاهم المكي صاحب التصانيف، مات سنة 150 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 6/ 325، طبقات الداوودي 1/ 358.

ص: 101

والراجح بعد النظر في القولين: القول الأول وهو الذي قال به ابن عقيل، ويؤيده ما قاله الطبري:(وأولى التأويلين الذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، لأن الماء لا يقال منه: أُشرِب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء)

(1)

.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " تعرض الفِتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشرِبها نُكِت فيه نُكتة سوداء .. " الحديث

(2)

.

قال النووي: (معنى أُشربها دخلت فيه دخولاً تاماً وألزمها وحلت منه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] أي حب العجل)

(3)

.

وهو ما رجحه الفراء

(4)

، وابن الجوزي

(5)

، والبغوي

(6)

، وابن عطية

(7)

، والقرطبي

(8)

.

وهذا من إيجاز الحذف، ومثله قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: أهلها.

فالإيجاز ضربان:

أحدهما: إيجاز الحذف وشرطه أن يكون في اللفظ دلالة على المحذوف.

(1)

جامع البيان 1/ 467.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب رفع الأمانة والإيمان عن بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب (144) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(3)

شرح صحيح مسلم 2/ 330.

(4)

معاني القرآن 1/ 61.

(5)

زاد المسير 1/ 101.

(6)

معالم التنزيل 1/ 60.

(7)

المحرر الوجيز 1/ 180.

(8)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 23.

ص: 102

والثاني: إيجاز القصر، وهو ما ليس بحذف، لكن معناه كثير يزيد على لفظه

(1)

كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، ولأجل تحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل حسن الإيجاز بنوعيه

(2)

، ومن قواعد التفسير: أن القرآن بلغة العرب والعرب تحذف ما كفى منه الظاهر في الكلام إذا لم تشك في معرفة السامع مكان الحذف

(3)

. والله تعالى أعلم.

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} [البقرة:94 - 95].

7/ 6 - قال ابن عقيل: ({وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95] وأخبر سبحانه عن تمنيهم الموت في النار، وأنهم يقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: ليمتنا؛ فبان بذلك أنه أراد بالأبد: مدتهم في الدنيا، ومبلغ أعمارهم اهـ)

(4)

.

الدراسة:

تناول ابن عقيل في كلامه مسألتين:

المسألة الأولى:

نفى ابن عقيل أن يكون المراد بالأبد ما لا نهاية له، وعلى هذا فالمراد بالآية: أن اليهود لن يتمنوا الموت مدة بقائهم في الدنيا، ويؤيد هذا أن الله ذكر تمنيهم الموت في النار بقوله سبحانه:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فالأبد مدة من الزمان مهما طالت، وهو في الآية أبدٌ من الآباد، وهذا هو قول عامة العلماء في معنى الأبد، وفي المراد به بالآية.

(1)

ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة ص 184.

(2)

ينظر: التحرير والتنوير 1/ 122.

(3)

قواعد التفسير 1/ 364.

(4)

ينظر: الواضح 4/ 104.

ص: 103

قال الطبري: ({وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]: يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله)

(1)

.

وقال ابن فارس: (الهمزة والباء والدال يدل بناؤها على طول المدة)

(2)

.

وقال البغوي: (ولن لا تكون للتأبيد

(3)

، كقوله تعالى:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95] إخباراً عن اليهود، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة، كما قال الله تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77])

(4)

.

ومثله قال ابن الجوزي

(5)

.

ومما يؤيد هذا أيضاً حديث سراقة بن مالك في الحج حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المتعة فقال: ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد "

(6)

.

والمراد بأبد الأبد في هذا الحديث: إلى نهاية الدنيا.

قال ابن الأثير

(7)

: (والأبد: الدهر، أي: هي لآخر الدهر)

(8)

.

المسألة الثانية:

(1)

جامع البيان 2/ 274.

(2)

معجم مقاييس اللغة 1/ 34، لسان العرب 3/ 68.

(3)

خلافاً للزمخشري، ينظر: الكشاف 2/ 145، فهي دعوى بلا دليل، ينظر: مغني اللبيب ص 281.

(4)

معالم التنزيل 2/ 164.

(5)

ينظر: زاد المسير 3/ 196.

(6)

أخرجه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218).

(7)

هو أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني الجزري الشافعي، ويعرف بابن الأثير، من مصنفاته: الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف، النهاية في غريب الحديث والأثر، مات سنة 606 هـ، له ترجمة في: طبقات الشافعية 5/ 153، شذرات الذهب 5/ 22.

(8)

النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 13.

ص: 104

فسر ابن عقيل القضاء بالموت، والقضاء في اللغة: إحكام الأمر وإتقانه، والموت أمر محكم ومتقن، ولذلك سمي قضاء.

قال ابن فارس: (القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته

وسميت المنية قضاء لأنه أمر يُنْفَذ في ابن آدم وغيره من الخلق)

(1)

.

وهذا التفسير تؤيده الأدلة، ومن ذلك:

قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] أي: قتله

(2)

.

وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] أي: مات على ما عاهد عليه

(3)

.

قال الطبري: (قالوا: ليمتنا ربك، فيفْرُغ من إماتتنا)

(4)

.

وقال السمرقندي

(5)

: ({يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يعني: ادع لنا ربك لقبض أرواحنا)

(6)

.

وتتابع العلماء على هذا التفسير

(7)

. والله أعلم.

(1)

معجم مقاييس اللغة 4/ 99، وينظر: المفردات ص 453.

(2)

ينظر: معاني القرآن للنحاس 5/ 167.

(3)

ينظر: معاني القرآن للنحاس 5/ 338.

(4)

جامع البيان 20/ 649.

(5)

هو أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي، له: بحر العلوم في التفسير، وكتاب النوازل في الفقه، مات سنة 393 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 16/ 322، طبقات الداوودي 2/ 346.

(6)

تفسير السمرقندي 3/ 252.

(7)

ينظر: الوجيز 2/ 979، تفسير السمعاني 5/ 117، المفردات ص 454، الكشاف 4/ 276، زاد المسير 7/ 145، تفسير ابن كثير 7/ 3157.

ص: 105

قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة:106].8/ 7 - قال ابن عقيل: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يعني: خيراً لكم، وإلا فالقرآن نفسه لا يتفاضل، لكونه كلاماً لله سبحانه، وصفة من صفاته التي لا تحتمل التفاضل والتخاير. وما هو خير لنا يحصل من وجوه:

أحدها: في السهولة المخففة عنا ثقل التكليف، وذلك خير من وجهين: أحدهما: انتفاء المشقة على النفس، والثاني: حصول الاستجابة والمسارعة، فإن النفوس إلى الأسهل أسرع، وإذا أسرعت الاستجابة، تحقق إسقاط الفرض، وحصول الأجر. والثاني من وجوه الخير: كثرة المشقة التي يتوفر بها الثواب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:" ثوابك على قدر نصبك "

(1)

. وقد يكون الخير الأصلح الذي لا نعلم وجهه.

وقوله: {أَوْ مِثْلِهَا} : في السهولة أو الصعوبة أو المثوبة. فإن قيل: فما أفاد التبديل بالمثل شيئاً، إذا كان المثل ما سد مسد مثله.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الحج باب أجر العمرة على قدر النصب (1695)، ومسلم في كتاب الحج باب وجوه الإحرام (1211).

ص: 106

قيل: بل قد يفيد، إما زوال الملل؛ فإن النفوس قد تمل، فإذا انتقلت إلى غيرٍ، سهل عليها التكليف، فإن المغايرة تخفف الأفعال. وقد تكون مثلاً لها في السهولة والأجر، لكن يحصل بتغيرها وتبديلها بغيرها زيادة تعبد، وهو التسليم والتحكم لأمر الله في تغيير أحكامه، ونقل عباده من عبادة إلى عبادة من غير لوم ولا اعتراض، بخلاف ما نطقت به الآيات عن أهل الشرك والنفاق؛ من قولهم:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]، وقولهم:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقوله:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:101]، فإذا حصل من المؤمنين المسارعة إلى طاعة الله، والرضا بتبديل الأحكام، وتغير التكليف، كان لهم المضاعفة في الثواب والله أعلم اهـ)

(1)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه على هذه الآية إلى أربع مسائل، وهي كالتالي:

المسألة الأولى:

معنى: (بخير منها):

قال ابن عقيل: (يعني خيراً لكم) ولم أجد من خالف من المفسرين في هذا المعنى.

قال الجصاص

(2)

: (فحصل من اتفاق الجميع أن المراد خير لكم إما في التخفيف أو في المصلحة)

(3)

.

(1)

ينظر: الواضح 1/ 254، 4/ 236.

(2)

هو الإمام أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص، كان إمام الحنفية في عصره، مات سنة 370 هـ، له ترجمة في: طبقات الداوودي 1/ 56.

(3)

أحكام القرآن 1/ 72.

ص: 107

وقال الرازي

(1)

: (أي بخير منها لكم؛ لأنه إن كان أخف كان خيراً في الدنيا والآخرة، وإن كان أشد كان خيراً في الآخرة لامتثال أمر الله تعالى فيه)

(2)

.

المسألة الثانية:

هل يستفاد من هذا المعنى تفاضل كلام الله؟.

الخلاف في هذه المسألة مبسوط في المطولات، وهي مسألة مشهورة عند المتقدمين، هل كلام الله يتفاضل أم لا؟ على قولين:

فالقول الأول: أنه لا يتفاضل؛ وهو قول ابن عقيل وما ذهب إليه ابن جرير الطبري

(3)

،

وأبو بكر الجصاص

(4)

، وجماعة من الفقهاء.

ودليلهم: أن القرآن كله كلام الله فهو صفة من صفاته فلا تحتمل التفاضل.

والقول الثاني: أنه يتفاضل، وبهذا قال أبو بكر بن العربي

(5)

، والقرطبي، وابن تيمية، وكثير من أهل العلم.

ومن أدلتهم: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا المنذر: أتدري أي آية من كتاب معك الله أعظم؟ " قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، قال: فضرب في صدري، وقال:" لِيُهنِك العلم أبا المنذر "

(6)

.

(1)

هو زين الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، من مصنفاته: تفسير غريب القرآن العظيم، ومختار الصحاح، وغيرها، واختلف في سنة وفاته لكنها بعد 666 هـ، ينظر: مقدمة محقق تفسير غريب القرآن العظيم د. حسين ألمالي.

(2)

تفسير غريب القرآن العظيم ص 206، وذكر مثله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 2/ 48، والفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 2/ 573.

(3)

ينظر: جامع البيان 2/ 403.

(4)

ينظر: أحكام القرآن 1/ 72.

(5)

وممن نسب له الاختيار القرطبي في تفسيره 1/ 78.

(6)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (810).

ص: 108

وقوله صلى الله عليه وسلم في سورة الإخلاص: " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن "

(1)

، وغيرها كثير.

قال القرطبي: (والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق)

(2)

.

وقال أيضاً: (ويدل على القول الأول - يعني التفاضل - قوله تعالى: {أَوْ مِثْلِهَا})

(3)

.

وقال ابن الحصار

(4)

: (عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص) أي الواردة بالتفضيل

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب فضل قل هو الله أحد (5013) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 1/ 78.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 48.

(4)

هو سعيد بن محمد بن بشر القرطبي المالكي، المشهور بابن الحصار، يعرف بولي بني فطيس، وكان أحد الأذكياء المتفننين، مات سنة 422 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 17/ 474.

(5)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 1/ 78، ويراجع في هذه المسألة: تفسير ابن كثير 1/ 133، شرح الكوكب المنير 2/ 118 - 122.

ص: 109

وأطال ابن تيمية في مجموع الفتاوى الكلام حولها فيما يزيد على خمسين صفحة وحرر محل النزاع، وشفى وكفى، ونص على كلام ابن عقيل في الواضح وبسط الكلام فيه

(1)

، ومن ذلك قوله رحمه الله: (والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم

ولم يعرف قط أحد من السلف رد مثل هذا ولا قال لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض فإنه كله من صفات الله ونحو ذلك إنما حدث هذا الإنكار لما ظهرت بدع الجهمية

(2)

)

(3)

.

وقال أيضاً في آخر الكلام على المسألة: (فنقول: قد علم أن تفاضل القرآن وغيره من كلام الله ليس باعتبار نسبته إلى المتكلم، فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه)

(4)

.

وذكر نحوه الشيخ ابن عثيمين

(5)

فقال: ( .. وهذا موضع يجب فيه التفصيل؛ فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به؛ فإنه لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل

)

(6)

.

وبهذا التفصيل يحصل الفصل في المسألة، والله أعلم.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 17/ 47

(2)

الجهمية: هم أتباع جهم بن صفوان، ومن عقائدهم: نفي جميع أسماء الله تعالى وصفاته، والقول بالإرجاء، وأن القرآن مخلوق، ينظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 67، الفرق بين الفرق ص 199.

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى 17/ 13، 46.

(4)

مجموع الفتاوى 17/ 129، وينظر كلامه في درء تعارض العقل والنقل 7/ 271.

(5)

هو أبو عبدالله محمد بن صالح بن عثيمين الوهيبي التميمي، من مؤلفاته: تفسير آيات الأحكام ولم يكمل، أصول في التفسير، مات سنة 1420 هـ، له ترجمة في: مقدمة مجموع فتاواه جمع فهد السليمان 1/ 9.

(6)

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين جمع وترتيب فهد بن ناصر السليمان 8/ 133.

ص: 110

المسألة الثالثة:

أوجه الخيرية في النسخ:

قال ابن عقيل: (وما هو خير لنا يحصل من وجوه:

أحدها: في السهولة المخففة عنا ثقل التكليف، وذلك خير من وجهين:

أحدهما: انتفاء المشقة على النفس، والثاني: حصول الاستجابة والمسارعة، فإن النفوس إلى الأسهل أسرع، وإذا أسرعت الاستجابة، تحقق إسقاط الفرض، وحصول الأجر. والثاني من وجوه الخير: كثرة المشقة التي يتوفر بها الثواب .. )

(1)

.

ومن أوجه الخيرية في النسخ:

1 -

حصول الأجر والثواب على الامتثال والانقياد والتسليم

(2)

، وزيادته إن كان النسخ إلى أشد

(3)

، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب:71]، والتيسير على المكلف إن كان النسخ إلى أخف.

2 -

الابتلاء والاختبار لعباده ليظهر الصادق في إيمانه - فينال الخيرية - من الكاذب، قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165].

3 -

تأليف قلوب العباد للتكاليف وتطويرها إلى مرتبة الكمال من خلال التدرج في التشريع، مراعاة لحداثة الناس بالجاهلية، وتطور أحوالهم، فيكون أدعى للقبول، ومثاله: التدرج في تحريم الخمر، والتدرج في فرض الصيام.

4 -

تطييب نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه في تمييز هذه الأمة وفضلها، ومن ذلك تحويل القبلة إلى الكعبة.

5 -

وبالجملة فكل آية ثبت فيها النسخ ففيها حكمة وخير، فالشارع الحكيم يعلم مصالح خلقه ولا يشرع لهم إلا الخير سواء علموه أو خفي عنهم، فالنسخ رفع وإنزال للآيات لمقتض {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل:101] حسب تغير الأحوال والظروف والأزمان

(4)

.

(1)

الواضح 1/ 254.

(2)

ينظر: مناهل العرفان 2/ 163.

(3)

ينظر: كشف الأسرار 3/ 187.

(4)

ينظر: كشف الأسرار 3/ 160.

ص: 111

قال الشافعي

(1)

: (إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأنزل عليهم الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيهم فرائض أثبتها، وأخرى نسخها؛ رحمة لخلقه بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته والنجاة من عذابه، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ فله الحمد على نعمه)

(2)

.

المسألة الرابعة:

معنى {أَوْ مِثْلِهَا} ، وما فائدة التبديل بالمثل؟.

ذكر ابن عقيل أنه في السهولة أو الصعوبة أو المثوبة، وهذا هو ما ذكره عامة المفسرين.

قال الماوردي: (يعني مثل حكمها، في الخفة والثقل والثواب والأجر)

(3)

.

وقال البغوي: (في المنفعة والثواب)

(4)

.

وذَكَر ابن عقيل فائدة التبديل بمثلها بقوله: (إما زوال الملل؛ فإن النفوس قد تمل، فإذا انتقلت إلى غيرٍ سهل عليها التكليف، فإن المغايرة تخفف الأفعال. وقد تكون مثلاً لها في السهولة والأجر، لكن يحصل بتغيرها وتبديلها بغيرها زيادة تعبد، وهو التسليم والتحكم لأمر الله في تغيير أحكامه، ونقل عباده من عبادة إلى عبادة من غير لوم ولا اعتراض)

(5)

.

وقال ابن الجوزي: (فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار)

(6)

.

(1)

هو الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس الشافعي، مكي الأصل مصري الدار، مات سنة 204 هـ، له ترجمة في: الجرح والتعديل 7/ 201 (1130)، تهذيب الكمال 24/ 355.

(2)

الرسالة ص 106.

(3)

النكت والعيون 1/ 171.

(4)

معالم التنزيل 1/ 67، ومثله ذكر ابن الجوزي في زاد المسير 1/ 111.

(5)

الواضح 1/ 255.

(6)

زاد المسير 1/ 111.

ص: 112

وقال الزرقاني

(1)

: (وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته، فالابتلاء والاختبار، ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب)

(2)

. والله أعلم.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143][البقرة:143]. 9/ 8 -

قال ابن عقيل: ({وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يعني: عدولاً؛ بدليل قوله سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)} [القلم:28]، وقال الشاعر:

هم وسطٌ ترضى الأنامُ بحُكْمِهم

إذا نزلت إحدى الليالي بِمُعْظَم

(3)

اهـ)

(4)

.

الدراسة:

أبان ابن عقيل في كلامه معنى {وَسَطًا} في الآية، واستدل لما قال بالقرآن والشعر.

(1)

هو محمد عبدالعظيم الزرقاني، من علماء الأزهر، ومن كتبه: مناهل العرفان في علوم القرآن، مات سنة:

1367 هـ، له ترجمة في: الأعلام 6/ 210.

(2)

مناهل العرفان 2/ 196.

(3)

البيت نسبه الطبري: لزهير 2/ 8، وكذلك القرطبي 2/ 104، وروايته في ديوانه يختلف صدره عما هنا؛ ينظر: ديوان زهير بن أبي سلمى ص 86 فنصه من المعلقة:

لِحَيٍّ حِلالٍ يَعصِمُ الناسَ أمرُهُم

إذا طَرَقَت إحدى الليالي بمعظَم. ويُروى بكسر الظاء، والحِلال: جمع حال مثل صاحب وصحاب، الطروق: الإتيان ليلاً، معظم: أمر عظيم. ينظر: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري ص 272، شرح المعلقات السبع للزوزني ص 154.

(4)

ينظر: الواضح 5/ 106.

ص: 113

ومن خلال تتبع كلام المفسرين وأهل اللغة تبين لي أن في هذه الكلمة ثلاثة أقوال:

الأول: العدل. وهو قول ابن عقيل، وبه قال الفراء

(1)

، وابن اليزيدي

(2)

، والطبري

(3)

، وابن فارس

(4)

، والجوهري

(5)

، والراغب

(6)

، والرازي

(7)

، ورجحه القرطبي بقوله:(والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها)

(8)

.

الثاني: الخيار.

قال الطبري: (وأما الوسط، فإنه في كلام العرب الخيار)

(9)

، وهذا موافق للقول الأول فالاختلاف فيه اختلاف تنوع، ولذا قال الطبري:(وأما التأويل؛ فإنه جاء الوسط بمعنى العدل، وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم)

(10)

.

الثالث: أن الوسط من التوسط بين الإفراط والتفريط.

قال الكلبي

(11)

: (يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير؛ لأنهما مذمومان في الدين)

(12)

.

وهذا التأويل لا يخرج في معناه عما قبله بل أول ما يدخل فيه العدل الخيار، ومن هنا يمكن الجمع بين الأقوال برجوعها إلى معنى واحد وهو العدل الخيار الذي من لازمه عدم الإفراط أو التفريط.

(1)

معاني القرآن 1/ 83.

(2)

ينظر: غريب القرآن وتفسيره ص 31.

(3)

جامع البيان 2/ 627.

(4)

معجم مقاييس اللغة 6/ 108.

(5)

في الصحاح 3/ 975.

(6)

المفردات ص 595.

(7)

في تفسير غريب القرآن العظيم ص 291.

(8)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 104.

(9)

جامع البيان 2/ 626.

(10)

جامع البيان 2/ 627.

(11)

هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي الكوفي، مات سنة 146 هـ، ينظر: تهذيب الكمال 25/ 246 (5234)، طبقات الداوودي 2/ 149.

(12)

معالم التنزيل 1/ 83.

ص: 114

قال الطبري: (وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه

ولا هم أهل تقصير فيه

ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها)

(1)

. ولهذا جمع غير واحد من المفسرين بين هذه المعاني في تفسيرها.

قال ابن العربي: (الوسط في اللغة: الخِيَار، وهو العدل)

(2)

.

وقال البغوي: (أي عدلاً خياراً)

(3)

.

ومن الأدلة على هذا المعنى قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28].

قال القرطبي: (أي أعدلهم وخيرهم)

(4)

، واستدلوا أيضاً بالبيت السابق وسياقه يفيد المعنى المراد نفسه في الآية، والله أعلم.

قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة:177].

10/ 9 - قال ابن عقيل: ({وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} والمراد به: البار، أو البر بر من آمن بالله اهـ)

(5)

.

الدراسة:

اختلف العلماء في معنى الآية على أقوال:

(1)

جامع البيان 2/ 626.

(2)

أحكام القرآن لابن العربي 1/ 61.

(3)

معالم التنزيل 1/ 83، وينظر: بهجة الأريب لابن التركماني ص 38.

(4)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 104.

(5)

ينظر الواضح 1/ 207.

ص: 115

القول الأول: أن المعنى: البر بر من آمن بالله، فيكون من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو كثير في اللغة والقرآن تقول العرب: الجود حاتم؛ أي جود حاتم فتستغني بذكر حاتم من إعادة جوده؛ لدلالة الكلام على ما حذفته

(1)

، وكقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82]، والمعنى: أهل القرية، وهذا هو قول الفراء

(2)

، وقطرب

(3)

.

القول الثاني: أن المعنى: ولكن ذا البر من آمن بالله، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك

(4)

.

حكى القولين الزجاج وغيره

(5)

، ومنه قوله تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]، أي: ذوو درجات

(6)

.

القول الثالث: أن المعنى: ولكن البار من آمن بالله، فيكون البر مصدراً وضع موضع الاسم

(7)

كقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} [طه:132] أي: للمتقي

(8)

، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف، كقولك: رجل عدل ورضي

(9)

، وهذا اختيار أبي عبيدة

(10)

.

(1)

ينظر: جامع البيان 3/ 77.

(2)

معاني القرآن 1/ 62.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 160.

(4)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 2/ 160.

(5)

ينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/ 232، النكت والعيون 1/ 224، زاد المسير 1/ 155.

(6)

معالم التنزيل 1/ 100، والجامع لأحكام القرآن 2/ 160.

(7)

ينظر: جامع البيان 3/ 77.

(8)

ينظر: معالم التنزيل 1/ 100.

(9)

ينظر: المحرر الوجيز 1/ 243.

(10)

ينظر: مجاز القرآن 1/ 65، الجامع لأحكام القرآن 2/ 160، وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى التيمي النحوي البصري، من تصانيفه: مجاز القرآن، مات سنة 210 هـ وقيل غيرها، له ترجمة في: طبقات الداوودي 2/ 326، طبقات الأدنه وي ص 30.

ص: 116

وجماع القول في الآية أن الأقوال لا تعارض بينها، بل هي متفقة في المعنى: فالبار، وذا البر، والبر بر من آمن بمعنى واحد، ولذا قال الزجاج:(والمعنى: ولكن ذا البر من آمن بالله، ويجوز أن تكون: ولكن البر بر من آمن بالله .. )

(1)

.

وكذا قال ابن عقيل: (البار، أو البر: بر من آمن بالله) على التخيير بين الألفاظ.

وقال القرطبي حينما حكى القول الثالث: (ويجوز أن يكون البر بمعنى البارَّ والبَرّ)

(2)

. والله تعالى أعلم.

قال الله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة:184].

11/ 10 - قال ابن عقيل: ({فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]: (وتقديره بإجماعنا: فأفطر

ثم قوله: {فَعِدَّةٌ} تقديره: فليصم بعدة أيام الإفطار

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] دلالة على أن اليسر هو تأخير الأداء لأجل المرض اهـ)

(3)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه حول الآية إلى مسائل:

المسألة الأولى: التقدير في قوله: { .. مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ .. } :

فيه قولان:

(1)

معاني القرآن وإعرابه 1/ 232.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 160، وينظر: جامع البيان 3/ 77، التفسير الكبير 5/ 38.

(3)

ينظر: الواضح 3/ 76، والتذكرة ص 109.

ص: 117

القول الأول: أن يقدر: فأفطر فعدة، بمعنى أنه لا يقضي إذا صام في المرض أو السفر، وهو مذهب جمهور الفقهاء

(1)

، وقد نقل ابن عقيل إجماع الحنابلة، بل نقل بعضهم إجماع المسلين.

ومن ذلك قول ابن عبدالبر: (وأجمع الفقهاء أن المسافر بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر)

(2)

.

وقال الجصاص: (ويدل على أن ذلك مضمر فيه اتفاق المسلمين على أن المريض متى صام أجزأه ولا قضاء عليه إلا أن يفطر)

(3)

.

وقال ابن تيمية: (ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة)

(4)

- يعني في السفر - وقال أيضاً: (ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان: فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين)

(5)

.

وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ - وكان كثير الصيام -، فقال:" إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "

(6)

، وقال أنس:(كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)

(7)

.

(1)

ينظر: النكت والعيون 1/ 238، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/ 190، والأم للشافعي 2/ 139، والمغني 4/ 389.

(2)

التمهيد 7/ 221.

(3)

أحكام القرآن 1/ 259.

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى 33/ 95.

(5)

مجموع الفتاوى 22/ 287.

(6)

أخرجه البخاري في باب الصوم في السفر والإفطار من كتاب الصوم (1943)، ومسلم في باب التخيير في الصوم والفطر في السفر من كتاب الصيام (1121).

(7)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار (1947)، ومسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان (1118).

ص: 118

القول الثاني: عدم التقدير، وأن القضاء لازم مع وجود السفر صام أو أفطر، وهذا قول داود الظاهري

(1)

، وابن حزم

(2)

، وحكي عن بعض السلف

(3)

، استدلالاً بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس من البر الصوم في السفر "

(4)

، وغيره من الأدلة التي فيها النهي عن الصوم في السفر، لكن هذا القول مهجور كما أشار ابن عبدالبر إلى هذا بقوله:(هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده)

(5)

.

وقال الجصاص: (واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز صوم المسافر، غير شيء يروى عن أبي هريرة أنه قال: من صام في السفر فعليه القضاء، وتابعه عليه شواذ من الناس لا يعدون خلافاً)

(6)

.

(1)

النكت والعيون 1/ 238. وهو داود بن علي بن خلف الظاهري أبو سليمان، أحد المجتهدين، تنسب إليه الطائفة الظاهرية، سميت لأخذها بظاهر الكتاب والسنة، وإعراضها عن التأويل والرأي، مات سنة 270 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 9/ 20، لسان الميزان 2/ 490.

(2)

المحلى 6/ 176، وهو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم المحدث الفقيه الأصولي، له كتاب: المحلى شرح المجلى، مات سنة 456 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 18/ 184، شذرات الذهب 3/ 299.

(3)

منهم عمر وابن عمر وأبو هريرة والزهري والنخعي وغيرهم، ينظر: فتح الباري 4/ 229.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر (1946)، ومسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان (1115) من حديث جابر رضي الله عنه.

(5)

التمهيد 22/ 49.

(6)

أحكام القرآن 1/ 259.

ص: 119

وقال ابن العربي: (قال علماؤنا: هذا القول - يعني الأول - من لطيف الفصاحة، لأن تقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر .... وقد عزي إلى قوم: إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره .... ، وجزالة القول وقوة الفصاحة تقتضي [فأفطر]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الصوم في السفر " قولاً وفعلاً)

(1)

، وعلى هذا فالراجح القول الأول لقوة أدلتهم وإمكان الجمع بينها وبين أدلة القول الثاني، وهو الذي عليه عامة العلماء.

قال الشافعي: (وكان فرض الصوم والأمر بالفطر في المرض والسفر في آية واحدة، ولم أعلم مخالفاً أن كل آية إنما أنزلت متتابعة لا متفرقة، وقد تنزل الآيتان في السورة مفترقتين فأما آية فلا ; لأن معنى الآية أنها كلام واحد غير منقطع يستأنف بعده غيره فلم يختلفوا كما وصفت أن آية لم تنزل إلا معاً لا مفترقة، فدلت سنة رسول الله على أن أمر الله المريض والمسافر بالفطر إرخاصاً لهما لئلا يُحرَجا إن فعلا؛ لأنهما يجزيهما أن يصوما في تينك الحالين شهر رمضان؛ لأن الفطر في السفر لو كان غير رخصة لمن أراد الفطر فيه لم يصم رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

(1)

أحكام القرآن 1/ 112.

(2)

أحكام القرآن 1/ 107، اختلاف الحديث له ص 492.

ص: 120

وقال الطبري: (وهذا القول أولى عندنا بالصواب؛ لإجماع الجميع على أن مريضاً لو صام شهر رمضان - وهو ممن له الإفطار في مرضه - أن صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوماً بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره، لأن الذي جُعل للمسافر من الإفطار وأُمر به من قضاء عدة من أيام أخر، مثل الذي جُعل من ذلك للمريض وأُمر به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها، وذلك قول الله جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فلا عسر أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عِدَّة من أيام أُخَر، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأداه)

(1)

.

وقال ابن تيمية: (والصحيح ما عليه الأئمة، وليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر، فإنه نفى أن يكون من البر ولم ينف أن يكون جائزاً .. )

(2)

.

وتحمل أحاديث النهي الصحيحة على حالات معينة، كمن بلغ منه الصوم مثل ما بلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس من البر الصوم في السفر " فيحرم عليه لتعريضه نفسه للضرر، وما روي من أخبار فيحمل على هذا إن ثبتت، وما لا يصح فلا يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الطبري: (وغير جائز أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قِيلُ ذلك؛ لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد لا يجوز الاحتجاج بها في الدين)

(3)

.

وعلى هذا فكلام ابن عقيل في التقدير هو الصحيح والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية:

(1)

جامع البيان 3/ 213.

(2)

مجموع الفتاوى 22/ 287.

(3)

جامع البيان 3/ 217.

ص: 121

التقدير في قوله: {فَعِدَّةٌ} فليصم بعدة أيام الإفطار، وهذا هو ظاهر الآية، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] يعني العدد

(1)

، فالقضاء على من أفطر لازم بالإجماع، قال ابن قدامة:(ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء إذا أفطروا، بغير خلاف)

(2)

.

واختلف العلماء في عدد الأيام التي تقضى:

القول الأول: بمثل عدد الأيام التي أفطرها فلو أفطر شهر رمضان وهو ناقص فلا يلزمه إلا تسعاً وعشرين يوماً، وهو مذهب الحنفية

(3)

، قال الجصاص:(من غير خلاف من أحد من أصحابنا)

(4)

، وهو قول ابن حزم

(5)

، والمشهور عند المالكية

(6)

، والصحيح من مذهب الحنابلة

(7)

.

القول الثاني: حكى بعض أصحاب مالك

(8)

عنه: أن رمضان يُقضى بالأهلة، بمعنى: أنه إن قضى شهراً هلالياً أجزأه سواء كان تاماً أو ناقصاً، وإن لم يقض شهراً صام بعدد الأيام، وهي رواية عند بعض الحنابلة

(9)

، ولا أدري كيف استدلالهم لهذا القول، ولذا قال ابن حزم:(ولا برهان على صحة هذا القول)

(10)

.

(1)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 268.

(2)

المغني 4/ 389.

(3)

ينظر: المبسوط 3/ 139.

(4)

أحكام القرآن 1/ 267.

(5)

المحلى 6/ 188.

(6)

شرح مختصر خليل للخرشي 3/ 384.

(7)

كشاف القناع 2/ 333، والإنصاف 7/ 497.

(8)

هو أبو عبدالله مالك بن أنس الأصبحي الحميري، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، من مصنفاته: الموطأ وغيره، مات سنة 179 هـ، له ترجمة في: تهذيب التهذيب 10/ 5، سير أعلام النبلاء 8/ 48. ينظر: شرح مختصر خليل، ونسبه أيضاً لابن وهب 3/ 384.

(9)

الإنصاف 7/ 497.

(10)

المحلى 6/ 188.

ص: 122

والدليل الواضح مع أصحاب القول الأول، وهو أن الله لم يقل: فشهر من أيام أخر، بل قال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(1)

. والله أعلم.

المسألة الثالثة:

قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، قال ابن عقيل:(دلالة على أن اليسر هو تأخير الأداء لأجل المرض)

(2)

. وما ذكره ابن عقيل مثال للمراد، والأولى حمل دلالتها على العموم في أمور الدين.

قال القرطبي: (والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78])

(3)

، فهذا المقطع من الآية دليل على أن المأمور به فيما سبق لا يراد به إلا اليسر، ومن ذلك جواز تأخير الصوم للمريض والمسافر وأهل الأعذار، ومن ذلك أن من صام وقد رخص له بالفطر لا يلزمه القضاء على القول الصحيح، ولذا قال الطبري:(قول الله جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فلا عسر أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عِدَّة من أيام أُخَر، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأداه)

(4)

. والله أعلم.

قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184].

(1)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 267.

(2)

الواضح 3/ 76.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 201.

(4)

جامع البيان 3/ 214.

ص: 123

12/ 11 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، ثم نسخ إلى الصوم حتماً وتعييناً من غير تخيير، مع الإقامة والصحة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] اهـ)

(1)

.

الدراسة:

اختلف العلماء في نسخ هذه الآية على قولين:

القول الأول:

ذهب ابن عقيل إلى أن الآية الأولى تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم والإفطار، وقد نسخ هذا بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].

وهذا هو المروي عن معاذ بن جبل

(2)

، وابن عمر

(3)

، وعكرمة

(4)

، والحسن البصري

(1)

الواضح 1/ 251.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 246، والطبري في جامع البيان 3/ 161.

(3)

أخرجه البخاري في التفسير باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185](4506) عن ابن عمر رضي الله عنه.

(4)

هو أبو عبدالله عكرمة القرشي مولاهم المدني البربري الأصل، مات سنة 105 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 12.

ص: 124

- رضي الله عنهم

(1)

، وهو قول قتادة

(2)

، والنحاس

(3)

، ومكي

(4)

، والواحدي

(5)

، وابن الجوزي

(6)

، وغيرهم

(7)

، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه

(8)

.

القول الثاني: ذهب ابن عباس رضي الله عنه، والسدي

(9)

، إلى أن الآية محكمة، على تأويل: كانوا يطيقونه في حال شبابهم وحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم

(10)

، أو أن معنى يطيقونه: يتكلَّفونه، ويؤيدها قراءة ابن عباس (وعلى الذين يُطَوّقونه)

(11)

، أي: يطيقونه على جهد ومشقة.

والراجح هو القول الأول لأمور منها:

(1)

ينظر: جامع البيان 3/ 161 وما بعدها، وهو الحسن البصري بن أبي الحسن أبو سعيد مولى زيد بن ثابت له التفسير رواه عنه جماعة، وكتابه إلى عبدالملك بن مروان في الرد على القدرية، توفي سنة 110 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 563، طبقات الداوودي 1/ 150.

(2)

الناسخ والمنسوخ له ص 37.

(3)

الناسخ والمنسوخ له ص 94.

(4)

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 149.

(5)

الوجيز 1/ 150.

(6)

نواسخ القرآن ص 203.

(7)

ينظر: ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي ص 25، مناهل العرفان 2/ 258.

(8)

ينظر: جامع البيان 3/ 165.

(9)

ينظر: جامع البيان 3/ 169 وما بعدها.

(10)

ينظر: المحرر الوجيز 1/ 52.

(11)

أخرجها عبدالرزاق في مصنفه (7575) عن ابن جريج، وينظر: جامع البيان 3/ 172.

ص: 125

1 -

يدل عليه فعل الصحابة رضي الله عنهم بعد نزول الآية، كما جاء عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال:(لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)

(1)

.

وقال الطبري خلال ترجيح القول الأول: (يؤيد هذا القول: الأخبار التي ذكرناها آنفاً عن معاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع، من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم أفطره، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فأُلزِموا فرض صومه وبطل الخيار والفدية)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185](4507) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 94.

(2)

جامع البيان 3/ 178.

ص: 126

2 -

دلالة سياق الآية على تخيير المطيق للصيام من عدمه إذا كان صحيحاً مقيماً.

قال النحاس: (في هذه الآية أقوال أصحها أنها منسوخة، سياق الآية يدل على ذلك، والنظر، والتوقيف من رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

)

(2)

. فالمعنى المعروف في العربية لـ[يطيقونه]: أي يستطيعونه، قال الجوهري:(في طوْقِي أي: في وُسْعِي، وطوَّقْتُك الشيء أي: كلّفْتُكَه)

(3)

، فلا يفيد معنى التكليف إلا مع التشديد، كما أن القول بأن المراد: لا يطيقونه، يرده آخر الآية؛ لأنه والحالة هذه لا يشرع له الصيام، فآخرها هو قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة:184].

3 -

أن القول الثاني مبني على أن في الآية تقديراً لمحذوف وهذا خلاف الأصل. قال النحاس: (الصواب أن يقال: الآية منسوخة بقوله جل وعز: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]؛ لأن من لم يجعلها منسوخة جعله مجازاً، وقال المعنى فيه: يطيقونه على جهد، وقال: كانوا يطيقونه، فأضمر كان وهو مستغن عن هذا)

(4)

.

(1)

ثم ذكر بسنده الرواية عن سلمة بن الأكوع وابن عباس رضي الله عنهم.

(2)

الناسخ والمنسوخ ص 94.

(3)

الصحاح 4/ 1252.

(4)

الناسخ والمنسوخ ص 95.

ص: 127

4 -

أن من قال بعدم النسخ اعتمد على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأها:

(يُطَوَّقونه)، أي: يشق عليهم، ولكنها قراءة شاذة

(1)

.

قال الطبري: (وأما قراءة من قرأ ذلك: (وعلى الذين يُطَوَّقونه) فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم نقلاً ظاهراً قاطعاً للعذر؛ لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله، ولا يُعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله بالآراء والظنون والأقوال الشاذة)

(2)

، ومثله قال النحاس

(3)

، وابن الجوزي

(4)

.

5 -

أن معنى هذه القراءة الشاذة: لا يدل على مشقة تصل بصاحبها إلى الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير

(5)

، وفي كل عمل مشقة نسبية، خصوصاً أول مشروعيته، وهذا لا يقول به أصحاب القول الثاني.

(1)

ينظر: المحتسب 1/ 118.

(2)

جامع البيان 3/ 180.

(3)

الناسخ والمنسوخ ص 96.

(4)

نواسخ القرآن ص 213.

(5)

ينظر: مناهل العرفان 2/ 259.

ص: 128

6 -

أن القول بالنسخ هو ما يُحمل عليه تفسير جمهور العلماء، وقراءتهم.

قال الطبري: (وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] منسوخ بقول الله تعالى ذكره: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]؛ لأن الهاء التي في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] من ذكر الصيام، ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين، فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقاً من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين كان معلوماً أن الآية منسوخة)

(1)

. وقال أيضاً: (وأما قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] فإن قراءة كافة المسلمين: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] وعلى ذلك خطوط مصاحفهم وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها لنقل جميعهم تصويب ذلك قرناً عن قرن)

(2)

. والله أعلم.

قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة:197].

13/ 12 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وعنى به: أوجب فيهن اهـ)

(3)

.

الدراسة:

استدل ابن عقيل هنا على أن الفرض بمعنى الواجب

(4)

.

(1)

جامع البيان 3/ 178.

(2)

جامع البيان 3/ 161.

(3)

الواضح 3/ 164.

(4)

وينظر: الواضح 1/ 125.

ص: 129

وتفسير الفرض بالواجب في هذه الآية هو ما حكى الطبري عليه الإجماع فقال: (وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضاً الحج، بعد إجماع جميعهم على أن معنى الفرض: الإيجاب والإلزام)

(1)

.

وقال الجصاص: (ومعنى فرض الحج فيهن: إيجابه فيهن)

(2)

.

وقال ابن عطية: (أي: من ألزمه نفسه)

(3)

.

وقال الرازي: (أي: أوجب وقطع)

(4)

.

وقال ابن كثير: (أي: أوجب بإحرامه حجاً)

(5)

.

وقال ابن منظور: (وقوله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي: أوجبه على نفسه بإحرامه)

(6)

.

وهنا يرد سؤال:

هل الفرض في غير هذه الآية بمعنى الواجب على الإطلاق؟

(7)

.

قال ابن عقيل: (الفرض والواجب سواء في أصح الروايات عن أحمد رضي الله عنه، وبها قال أصحاب الشافعي

(8)

، وعنه رواية أخرى: أن الفرض ما ثبت بدليل مقطوع عليه، والواجب غيره، وهو ما ثبت بخبر واحد أو قياس، فالفرض على هذه الرواية آكد من الواجب، وبها قال أبو حنيفة

(9)

، وعنه: أن الفرض ما ثبت بقرآن، ولا يسمى فرضاً ما ثبت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم)

(10)

.

(1)

جامع البيان 3/ 453.

(2)

أحكام القرآن 1/ 366.

(3)

المحرر الوجيز 1/ 271.

(4)

تفسير غريب القرآن العظيم ص 281.

(5)

تفسير ابن كثير 2/ 506.

(6)

لسان العرب 7/ 202.

(7)

يراجع في هذه المسألة مفصلاً: المسودة ص 50، العدة 1/ 162، 2/ 176، روضة الناظر 1/ 91، شرح الكوكب المنير 1/ 351.

(8)

ينظر: المستصفى 1/ 66.

(9)

ينظر: أصول السرخسي 1/ 110.

(10)

الواضح في أصول الفقه 3/ 163.

ص: 130

وقال الطوفي: (والنزاع لفظي، إذ لا نزاع في انقسام الواجب إلى ظني وقطعي، فليسموا هم القطعي ما شاؤوا)

(1)

، وقال أيضاً:(واتفقنا عل تسمية الظني واجباً، وبقي النزاع في القطعي، فنحن نسميه واجباً وفرضاً بطريق الترادف، وهم يخصونه باسم الفرض، وذلك مما لا يضرنا وإياهم، فليسموه ما شاؤوا)

(2)

.

قال ابن اللحام

(3)

: (فإن أريد: أن المأمور به ينقسم إلى مقطوع به ومظنون، فلا نزاع في ذلك، وإن أريد: أنه لا تختلف أحكامهما، فهذا محل نظر)

(4)

، وهذا كلام يجمع لنا الخلاصة من الخلاف إذ أن اللفظ لا مشاحة في إطلاقه، لكن لا يخفى علينا أن من سوى بينهما يرى أن هنا واجباً آكد من واجب. والله أعلم.

قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة:197].

14/ 13 - قال ابن عقيل: ({فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} الرفث: الجماع ودواعيه، والفسوق: السباب، والجدال: المماراة فيما لا يعني اهـ)

(5)

.

الدراسة:

ذكر ابن عقيل في تفسير هذه الآية معنى ثلاث كلمات:

الكلمة الأولى: الرفث:

(1)

شرح مختصر روضة الناظر 1/ 265، وهذا ما ذهب إليه ابن قدامة في روضة الناظر 1/ 93، والغزالي في المستصفى 1/ 66.

(2)

شرح مختصر روضة الناظر 1/ 276.

(3)

هو علي بن محمد بن علي العلاء البعلي ثم الدمشقي الحنبلي، ويعرف بابن اللحام، ممن تتلمذ على ابن رجب وبرع في مذهبه ودرس وأفتى، مات سنة 803 هـ، له ترجمة في: شذرات الذهب 7/ 31.

(4)

القواعد ص 99.

(5)

التذكرة ص 104.

ص: 131

ذكر العلماء الخلاف في معناها على قولين:

القول الأول: أنه الجماع قاله ابن عباس، وابن عمر

(1)

، والحسن، ومجاهد، وقتادة

(2)

، والفراء

(3)

، وجماعة من السلف.

القول الثاني: أنه الجماع وما دونه من التعريض ونحوه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر أيضاً

(4)

.

وهذان القولان لا تعارض بينهما؛ فالجميع متفق على أن الجماع رفث، قال ابن عبدالبر:(ولم يختلف العلماء في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] أن الرفث الجماع)

(5)

، ولم ينف أصحاب القول الأول ما دونه، فالراجح ما ذكره ابن عقيل وهو الجمع بين القولين بأن الرفث: الجماع ودواعيه، وهذا هو ما رجحه الطبري؛ حيث قال بعد بيانه أن الرفث يطلق على الإفحاش في القول ويستعمل في الكناية عن الجماع:(فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين في تأويله وفي هذا النهي من الله: عن بعض معاني {الرَّفَثُ} أم عن جميع معانيه؟ وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر بخصوص الرفث الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني الرفث يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة)

(6)

.

وقال الراغب: (الرفث كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه)

(7)

.

وكذا ابن العربي فقد قال: (الرفث: كل قول يتعلق بذكر النساء

وقد يطلق على الفعل من الجماع والمباشرة

)

(8)

.

(1)

هو عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي مات سنة 73 هـ، له ترجمة في: الإصابة 4/ 181 (4837)، شذرات الذهب 2/ 15.

(2)

ينظر جامع البيان 3/ 463 وما بعدها.

(3)

معاني القرآن 1/ 120.

(4)

جامع البيان 3/ 458 - 459.

(5)

التمهيد 22/ 147.

(6)

جامع البيان 3/ 469.

(7)

المفردات ص 225.

(8)

أحكام القرآن 1/ 188.

ص: 132

وقال الرازي: (الرفث: الجماع ومنه قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] والرفث أيضاً: الفحش من القول، وتكليم النساء في الجماع)

(1)

.

الكلمة الثانية: الفسوق:

اختلف أهل التفسير في معناه في هذه الآية على أربعة أقوال:

القول الأول: أن المراد بالفسوق المعاصي كلها، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة:282] وهو مروي عن ابن عباس، وعطاء

(2)

، ومجاهد

(3)

، وخصه بعضهم بما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد وأخذ الشعر وتقليم الظفر وما أشبه ذلك وروي هذا عن ابن عمر

(4)

، ورجحه الطبري

(5)

.

القول الثاني: أن المراد به السباب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "

(6)

وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس

(7)

، وهو تفسير ابن عقيل.

(1)

تفسير غريب القرآن العظيم ص 136.

(2)

هو عطاء بن أبي مسلم أبو عثمان الخراساني له كتاب تنزيل القرآن، وتفسيره، توفي سنة 135 هـ، له ترجمة في: ميزان الاعتدال 3/ 73، طبقات الداوودي 1/ 385.

(3)

جامع البيان 3/ 470.

(4)

جامع البيان 3/ 473.

(5)

جامع البيان 3/ 476.

(6)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)، ومسلم في كتاب الإيمان باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (64).

(7)

جامع البيان 3/ 474.

ص: 133

القول الثالث: أن المراد به الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] وهو مروي عن ابن زيد

(1)

.

القول الرابع: أن المراد به التنابز بالألقاب، ومنه قوله تعالى:{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات:11] وهو مروي عن الضحاك بن مزاحم

(2)

.

ومعنى الفسوق في اللغة شامل لجميع هذه الأقوال فهو واقع على كثير الذنب وقليله

(3)

، ولهذا فالراجح صحة الجميع ويجمعها القول الأول، ويكون اختلاف العلماء من باب ذكر المثال.

قال ابن عطية: (وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال)

(4)

.

وقال القرطبي: (والقول الأول أصح لأنه يتناول جميع الأقوال)

(5)

.

(1)

جامع البيان 3/ 457، وهو عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أخو أسامة وعبدالله وفيهم لين وكان عبدالرحمن صاحب قرآن وتفسير جمع تفسيراً في مجلد وكتاباً في الناسخ والمنسوخ، توفي سنة 182 هـ، وله ترجمة في: سير أعلام النبلاء 8/ 349، طبقات الداوودي 1/ 271.

(2)

جامع البيان 3/ 476.

(3)

ينظر: المفردات ص 425، بصائر ذوي التمييز 4/ 192.

(4)

المحرر الوجيز 1/ 273.

(5)

الجامع لأحكام القرآن 2/ 271.

ص: 134

وقال ابن كثير: (والذين قالوا الفسوق ههنا هو جميع المعاصي الصواب معهم كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع السنة منهيا عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وقال في الحرم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج:25] واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد وحلق الشعر وقلم الأظفار ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر وما ذكرناه أولى والله أعلم)

(1)

.

الكلمة الثالثة: الجدال:

قال ابن عقيل: (الجدال: المماراة فيما لا يعني).

وقال الراغب: (الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة)

(2)

، وقد اختلف أهل التفسير في معنى الجدال في هذه الآية على قولين:

أحدهما: أن المعنى لا يمارين أحد أحداً، فيخرجه المراء إلى الغضب وفعل ما لا يليق بالحج، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والزهري

(3)

وغيرهم

(4)

.

والقول الثاني: أن المعنى لا شك في الحج ولا مراء، فإنه قد استقام أمره وعرف موضعه ووقته وزال النسيء عنه، وإليه ذهب مجاهد

(5)

، ورجحه الطبري

(6)

، وابن كثير

(7)

.

وخلاصة الخلاف في الجدال:

(1)

تفسير ابن كثير 1/ 238.

(2)

المفردات ص 101.

(3)

هو أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري مات سنة 124 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 326.

(4)

ينظر: جامع البيان 3/ 478، تفسير ابن أبي حاتم 1/ 348.

(5)

تفسير عبدالرزاق 1/ 77، جامع البيان 3/ 484.

(6)

جامع البيان 3/ 487.

(7)

تفسير ابن كثير 1/ 239.

ص: 135

أنه اتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه.

فمحل الخلاف هو ما يجر إلى النزاع والخصام وينافي حرمة الحج، وقد أشار ابن عقيل إلى هذا المعنى حيث قال:(المماراة فيما لا يعني)؛ فذهب البعض إلى العموم وخصه البعض بالاختلاف في وقت أو موضع الحج

(1)

، والتعميم أولى للإطلاق في الآية، وهو وإن كان ممنوعاً في كل مكان وزمان، فإنه يغلظ المنع عنه في الحج، والله تعالى أعلم وأحكم.

قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} [البقرة:228].

15/ 14 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} والمراد به كل الحرائر من المطلقات بوائن أو رجعيات، وقال في آخرها:

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} يرجع إلى الرجعيات، فالأول على عمومه، والآخر خاص في الرجعيات اهـ)

(2)

.

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 2/ 272.

(2)

ينظر: الواضح 3/ 433.

ص: 136

الدراسة:

كلام ابن عقيل في هذه الآية واضح، ومثله قال ابن العربي

(1)

، إلا أن العموم في لفظ المطلقات مخصوص بالمدخول بهن غير الحوامل فقط، وخرجت المطلقة قبل الدخول بها بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، وكذلك اللائي لا يحضن سواء كانت صغيرة أو آيسة والحامل بقوله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]

(2)

.

قال القرطبي في لفظ المطلقات بالآية: (عام في المطلقات ثلاثاً، وفيما دونها لا خلاف فيه، ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث، وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة)

(3)

.

(1)

أحكام القرآن 1/ 254.

(2)

وقد نُقِل الإجماعُ على أن عدة الحامل وضع حملها إلا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، ومذهبه الأخذ باليقين لمعارضة عموم قوله تعالى في المتوفى عنها:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، ولم يخص حاملاً من غير حامل، وعموم قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، ولم يخص المتوفى عنها، فمن لم يبلغه حديث سبيعة المتفق عليه لزمه الأخذ باليقين، ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 73، والتمهيد لابن عبدالبر 11/ 311.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 3/ 80.

ص: 137

والثمرة من الإشارة إلى هذا التفسير: أنه إذا كان أول الآية عاماً وآخرها خاصاً، حُمِل كل واحد منهما على ما ورد، ولا يخص أولها بآخرها

(1)

. والله تعالى أعلم.

قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} .

16/ 15 - قال ابن عقيل: ({يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وذلك واقع في الطهر كوقوعه في الحيض، إلا أنه في الحيض أظهر؛ لاتصافه بموضوعه وهو الاجتماع، وذلك إنما يتأتى في الدم اهـ)

(2)

.

الدراسة:

قبل الدخول فيما أشار إليه ابن عقيل أبين ما يلي:

اتفق أهل اللغة على أن المراد بالقرء: الوقت

(3)

.

قال الجوهري: (وإنما القرء الوقت، فقد يكون للحيض، وقد يكون للطهر .. )

(4)

.

وقال ابن العربي: ( .. وأوصيكم ألا تشتغلوا الآن بذلك لوجوه؛ أقربها: أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت)

(5)

.

لكن اختلف السلف والخلف في المراد بالقروء في الآية قديماً وحديثاً على قولين

(6)

:

القول الأول:

(1)

ينظر في هذه المسألة: العدة لأبي يعلى 2/ 614، والتمهيد لأبي الخطاب 2/ 167، والواضح 3/ 433.

(2)

ينظر: الجدل على طريقة الفقهاء ص 3، وينظر: الواضح 4/ 66.

(3)

ينظر: معجم مقاييس اللغة 5/ 79، المفردات ص 445.

(4)

الصحاح 1/ 50.

(5)

أحكام القرآن 1/ 250.

(6)

ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 250.

ص: 138

أنها الأطهار، وهو قو ل عائشة

(1)

، وزيد بن ثابت

(2)

، وابن عمر

(3)

، ومالك

(4)

، والشافعي

(5)

، ورواية عن أحمد

(6)

، وهو قول الفقهاء السبعة

(7)

، والزهري

(8)

.

ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء "

(9)

.

القول الثاني:

(1)

هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهو عبدالله بن عثمان بن عامر بن كعب القرشي التميمي رضي الله عنهما، ماتت سنة 58 هـ، لها ترجمة في: الإصابة 8/ 16 (11457).

(2)

هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي المقرئ الفرضي مات سنة 45 هـ له ترجمة في: الإصابة 2/ 592 (2882)، سير أعلام النبلاء 2/ 578.

(3)

جامع البيان 4/ 97.

(4)

المحرر الوجيز 1/ 304.

(5)

الرسالة للشافعي 569.

(6)

المقنع 3/ 1004.

(7)

الفقهاء السبعة هم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبدالله بن عبدالله بن عتبة، وسليمان بن يسار،

ينظر: حلية الأولياء 2/ 161، سير أعلام النبلاء 4/ 438.

(8)

معالم التنزيل للبغوي 1/ 150، والزهري هو أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، مات سنة 124 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 326.

(9)

أخرجه البخاري كتاب الطلاق باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1](5251)، ومسلم كتاب الطلاق (1471).

ص: 139

أنها الحيض، وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود

(1)

، وأبي موسى الأشعري

(2)

،

والأسود

(3)

، وعكرمة، والنخعي

(4)

، ومجاهد، والضحاك

(5)

، والأوزاعي

(6)

، والثوري

(7)

، وأصح الروايتين عن أحمد

(8)

.

ويستدلون له بقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: " تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها "

(9)

. وجه الدلالة: أن المرأة إنما تدع الصلاة وقت الحيض، ويدل عليه ما بعده أيضاً.

(1)

هو أبو عبدالرحمن عبدالله بن مسعود الهذلي المكي المهاجري البدري مات سنة 32 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 1/ 461.

(2)

هو عبدالله بن قيس أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المقرئ، مات سنة 44 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 2/ 380، الجرح والتعديل 5/ 138.

(3)

هو الأسود بن يزيد بن قيس الإمام أبو عمرو النخعي الكوفي، مات سنة 75 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 50، وينظر في نسبة القول إلى هؤلاء: جامع البيان 4/ 88.

(4)

هو الإمام الحافظ إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني ثم الكوفي مات سنة 96 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 520.

(5)

هو أبو محمد وقيل أبو القاسم الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير أصله من الكوفة ثم أقام ببلخ، مات سنة 102 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 598.

(6)

هو عبدالرحمن بن عمرو بن يحمد أبو عمرو الأوزاعي، مات سنة 157 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 7/ 107، ونسب القول له البغوي في معالم التنزيل 1/ 150.

(7)

هو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبدالله الثوري، مات سنة 161 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 7/ 229.

(8)

المقنع 3/ 1004.

(9)

أخرجه الترمذي باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة (126)، وابن ماجة (625)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 40 (109).

ص: 140

قال ابن كثير: (فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض)

(1)

؛ وقد صححه بعض العلماء

(2)

، فالصواب في المسألة: هو ما ذكره ابن عقيل؛ من أن القرء يقع على الحيض والطهر إلا أنه في الحيض أظهر لصراحة ما استدلوا به وصحته في بيان القرء، ولما جاء في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

• إنما ذلك عرق، فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء "

(3)

، وأما حديث ابن عمر فليس صريحاً في معنى القرء، وإنما هو بيان العدة التي تطلق فيها المرأة، والله أعلم.

قال الجصاص: (قد حصل من اتفاق السلف وقوع اسم الأقراء على المعنيين من الحيض ومن الأطهار من وجهين، أحدهما: أن اللفظ لو لم يكن محتملاً لهما لما تأوله السلف عليهما لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما يتصرف عليه المعاني من العبارات

) إلى أن قال: ( .. ومن جهة أخرى أن هذا الاختلاف قد كان شائعاً بينهم مستفيضاً، ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته، بل سوغ له القول فيه .. )

(4)

.

قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة:245].

(1)

تفسير ابن كثير 2/ 563.

(2)

ينظر: صحيح سنن الترمذي للألباني 1/ 40 (109)، إرواء الغليل له أيضاً (2119).

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب في المرأة (280)، والنسائي كتاب الطهارة باب ذكر الأقراء 1/ 121، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 53 (250).

(4)

أحكام القرآن للجصاص 1/ 441.

ص: 141

17/ 16 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} والمراد به: فقراء عباد الله اهـ)

(1)

.

الدراسة:

أبان ابن عقيل أن المراد بقوله تعالى: {يُقْرِضُ اللَّهَ} : أي يقرض عباده المحتاجين.

وفي تفسيره تخصيص، والآية تدل على ما هو أعم منه.

ففي هذه الآية حث من الله تعالى على جميع الأعمال الصالحة ومنها النفقة في سبيله في كل مجال وفي الجهاد على وجه الخصوص، وهذا ما ذكره عامة أهل العلم.

قال النحاس: (أصل القرض: ما يفعل ليجازى عليه)

(2)

.

وقال ابن منظور: (وقال الأخفش في قوله تعالى: {يُقْرِضُ} أي: يفعل فعلاً حسناً في اتباع أمر الله وطاعته، والعرب تقول لكل من فعل إليه خيراً: قد أحسنت قرضي، وقد أقرضتني قرضاً حسناً)

(3)

.

(1)

الواضح 2/ 381.

(2)

معاني القرآن 1/ 247.

(3)

لسان العرب 7/ 147.

ص: 142

وقال الطبري: (القول في تأويل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة:245] يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله فيعين مُضعِفاً

(1)

، أو يُقوِّي ذا فاقةٍ أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقتراً، وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه، وإنما سماه الله تعالى ذكره قرضاً؛ لأن معنى القرض: إعطاء الرجل غيره ماله مملِّكاً له ليَقضِيَه مثله إذا اقتضاه، فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه قرضاً، إذ كان معنى القرض في لغة العرب ما وصفنا)

(2)

.

وقال البغوي: ({مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] القرض: اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما عدّ لهم من الثواب قرضاً؛ لأنهم يعملونه لطلب ثوابه)

(3)

.

وقال ابن كثير: (وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع)

(4)

.

(1)

المضعِف: الرجل الذي دابته ضعيفة، ينظر: لسان العرب 9/ 206.

(2)

جامع البيان 4/ 428.

(3)

معالم التنزيل 1/ 168.

(4)

تفسير ابن كثير 2/ 610.

ص: 143

ومما يؤيد هذا التفسير ويوضحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب: كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي "

(1)

.

فإن قيل: ما مناسبة اختيار هذا الأسلوب: {يُقْرِضُ اللَّهَ} دون غيره؟.

فالجواب من وجوه:

1 -

أن فيه تأكيداً لاستحقاق الثواب بالعمل، إذ لا يكون قرضاً إلا والعوض مستحق به

(2)

.

2 -

أن فيه حثاً وترغيباً على البذل والزيادة في أعمال الخير.

3 -

أن في أعمال الخير قطعاً من الوقت أو المال أو غيره لله تعالى، ومن معاني القرض في اللغة: القطع

(3)

.

4 -

أن ما يقدمه الإنسان ينتظر بدله وجزاءه، وهكذا القرض.

5 -

أن الجزاء يتأخر عن العمل في الغالب، وكذلك الأمر في القرض

(4)

.

6 -

بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى، وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات

(5)

بإذنه تعالى وفضله؛ ومما يشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20].

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل عيادة المريض (2579) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 547.

(3)

ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 306، لسان العرب 7/ 217.

(4)

ينظر: زاد المسير 1/ 240.

(5)

التفسير الكبير 4/ 147.

ص: 144

7 -

ذكر لفظ القرض فيه تقريب للأفهام؛ لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظر المسلف رد ما أسلف

(1)

.

8 -

ذكر لفظ القرض فيه ضمان وأمان للمنفق بأنه لن يضيع عليه شيء، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]. والله أعلم.

قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283].

18/ 17 - قال ابن عقيل: (ويعتبر القبض في الرهن؛ قال سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} اهـ)

(2)

.

الدراسة:

استدل ابن عقيل بالآية على اعتبار القبض في الرهن، وهو مما اتفق عليه الفقهاء في الجملة

(3)

، واختلفوا في تحديد نوع اشتراطه، هل هو شرط لزوم، أو شرط تمام؟.

وفائدة الفرق: أن من قال: شرط لزوم قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن.

ومن قال: شرط تمام قال: يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت

(4)

.

(1)

ينظر: التسهيل 1/ 118.

(2)

ينظر: التذكرة ص 129.

(3)

ينظر: بداية المجتهد ص 619، أحكام القرآن للجصاص 1/ 635، أحكام القرآن لابن العربي 1/ 343، بدائع الصنائع 8/ 145، المجموع 12/ 299، المغني 6/ 445.

(4)

ينظر: بداية المجتهد ص 619.

ص: 145

فذهب الجمهور - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أن عقد الرهن لا يلزم إلا بالقبض؛ للآية التي معنا. فلو لزم عقد الرهن بدون قبض لما كان للتقييد به في الآية فائدة

(1)

.

وقال المالكية: يلزم الرهن بالعقد، ثم يجبر الراهن على التسليم للمرتهن، وعمدة مالك: قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول كالبيع؛ لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، والرهن عقد

(2)

، ووافقه أحمد في غير المكيل والموزون في رواية ليست هي المذهب

(3)

.

والقول الأول أقرب للصواب؛ لأن في البيع والعقود اللازمة معاوضة فتلزم بالعقد، والرهن عقد إرفاق يفتقر إلى القبول، فافتقر إلى القبض كالقرض، والصدقة، وهو أشبه بالهبة والتبرع إذ الراهن لا يستحق في مقابله شيء على المرتهن، والإمضاء فيها يكون بالقبض، والرهن الذي لم يقبض لا يلزم إقباضه، كما لو مات الراهن، وقد وصف الله الرهن بكونه مقبوضاً في الآية فيقتضي اشتراطه وعدم لزوم الرهن إلا بالقبض. والله تعالى أعلم.

ومن ثمرات المسألة:

1 -

أنه لو تعاقد الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن في يد الراهن، لم يصح الرهن

(4)

.

2 -

أن الرهن الذي لم يقبض لا يلزم إقباضه، كما لو مات الراهن فلا يلزم الورثة تسليم الرهن.

(1)

ينظر: النكت والعيون 1/ 359، بدائع الصنائع 8/ 145، المجموع 12/ 299، زاد المسير 1/ 280، المغني 6/ 445، وهو قول ابن حزم في المحلى 8/ 230.

(2)

ينظر: بداية المجتهد ص 619، أحكام القرآن لابن العربي 1/ 343، المغني 6/ 446، الجامع لأحكام القرآن 3/ 265.

(3)

الكافي في فقه الإمام أحمد 2/ 74.

(4)

بدائع الصنائع 8/ 148.

ص: 146