الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدراسة:
أشار ابن عقيل إلى أن الحق المستثنى في الآية - وهو ما أباح الله قتل النفس به - بينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذا هو ما عليه جميع المفسرين، ومنهم الطبري
(1)
، والسمعاني
(2)
، والبغوي
(3)
، والقرطبي
(4)
.
قال النحاس: (وقوله جل وعز: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] بين هذا الحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: شرك بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ")
(5)
.
وقال ابن جزي: ({وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] فسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس ")
(6)
.
سورة الأعراف
قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف:12].
56/ 1 - قال ابن عقيل مستدلاً بأن الأمر على الفور: (وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، ولو كان على التراخي لما حسن العتب اهـ)
(7)
.
_
الدراسة:
استدل ابن عقيل بهذه الآية على أن الأمر على الفور، كما استدل بها من قال بهذا القول، وهي مسألة كبيرة في أصول الفقه اختلف فيها العلماء أعرض لها بما يناسب المقام فأقول:
أولاً: تحرير محل النزاع:
(1)
ينظر: جامع البيان 9/ 662.
(2)
تفسير السمعاني 3/ 238.
(3)
معالم التنزيل 3/ 94.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 7/ 133.
(5)
معاني القرآن 4/ 148.
(6)
التسهيل 1/ 292.
(7)
الواضح 3/ 19.
1.
أنه يخرج كل أمر متصل بقرينة تقتضي الفور كالأمر بالتعجل ونحو ذلك.
2.
وكذلك كل أمر اتصلت به قرينة تقتضي التراخي كالصلوات المفروضة.
3.
ويبقى في محل الخلاف: الأمر المطلق الخالي من القرائن.
ثانياً: أقوال العلماء فيها:
القول الأول: أن الأمر على الفور، وهو قول الظاهرية
(1)
، والمالكية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وبعض الشافعية
(4)
، وبعض الحنفية
(5)
.
ومن أدلتهم: الآية التي معنا، وهي قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11 - 12]، والاستدلال في هذا الدليل من وجهين:
الأول: من قوله تعالى: {فَسَجَدُوا} فالفاء للتعقيب، والملائكة فهمت أن مقتضى الأمر على الفور فسجدت عقب الأمر مباشرة.
الثاني: أن الله وبخ إبليس وطرده وقال له: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] ولم يحتج إبليس بأن الأمر على التراخي، ولو كان له لفعل.
القول الثاني: أن الأمر على التراخي، وهو قول لأكثر أصحاب الشافعي
(6)
، وبعض الحنفية
(7)
، وهو قول المعتزلة
(8)
.
(1)
الإحكام لابن حزم 3/ 311.
(2)
المذكرة ص 234.
(3)
العدة 1/ 281.
(4)
الإحكام للآمدي 2/ 165، وينظر: الواضح 3/ 18.
(5)
بدائع الصنائع 3/ 42.
(6)
الإحكام للآمدي 2/ 165.
(7)
كشف الأسرار 1/ 254.
(8)
المعتمد 1/ 120.
ومن أقوى حججهم: أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة على الصحيح
(1)
، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة، ولو كان واجباً على الفورية لم يتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرض عليه
(2)
.
قلت: القول الراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول - أن الأمر يقتضي الفور - وهو قول الجمهور لقوة ما استدلوا به، ولأنه الأصل، والأبرأ للذمة، والفور: هو مقتضى الأمر عند أهل اللسان؛ فلو قال السيد لعبده: أسقني، فأخر حسن لومه وتوبيخه
(3)
، ولأن الامتثال على الفور إسراع في الخير، ولا خلاف بين العلماء أن التعجيل أفضل
(4)
، ولأنه لو قيل على التراخي فلا يخلو من أحد حالين:
الأولى / أن له التأخير أبداً ولا يكون مفرطاً.
الثانية / أنه يكون مفرطاً مستحقاً للوعيد إن مات قبل فعله.
فإن قلنا: إنه لا يكون مفرطاً بتركه طول حياته، فهذا خرج عن حد الواجب إلى النوافل لأن ما كان مخيراً بين فعله وتركه فهو نافلة أو مباح، وهذا باطل وما أدى إليه فهو باطل.
وإن قلنا: يلحقه الوعيد بالموت أدى إلى أن يكون الله ألزمه إتيان عبادة في وقت لا يعلمه ونهاه عن تأخيرها عنه، ولا يجوز أن يتعبده الله بعبادة في وقت مجهول، كما لا يجوز أن يتعبده بعبادة مجهولة؛ فإذا بطل هذا القسمان صح القول بأن الأمر على الفور وهو الحق
(5)
.
(1)
والدليل على ذلك أن آية وجوب الحج في صدر سورة آل عمران، وصدر هذه السورة نزل عام الوفود، ينظر: تفسير ابن كثير 2/ 738، الشرح الممتع 7/ 17.
(2)
ينظر: الأم 2/ 118، بدائع الصنائع 3/ 42.
(3)
ينظر: روضة الناظر 2/ 88.
(4)
ينظر: بدائع الصنائع 3/ 43.
(5)
ينظر في هذه المسألة: العدة 1/ 281، الواضح 3/ 16، روضة الناظر 2/ 85، المسودة ص 24، شرح الكوكب المنير 3/ 48.
وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم حجه للسنة العاشرة؛ فقد ذكر العلماء له صلى الله عليه وسلم أعذاراً منها:
1 -
أنه أخره بأمر من الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ويصادف وقفته يوم الجمعة، ويكمل الله دينه
(1)
، قال تعالى:{لَنَا أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
2 -
كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى السنة التاسعة عام الوفود، ولا شك أن استقبال المسلمين الوافدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في دينهم أمر مهم، بل قد نقول أنه واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس
(2)
.
(1)
ينظر: المغني 5/ 37.
(2)
الشرح الممتع 7/ 18.
3 -
أنه كره رؤية المشركين عراة حول البيت، فأخر الحج حتى يطهر منهم ولذلك بعث أبا بكر رضي الله عنه ينادي:" أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان "
(1)
. وهذا العذر في نظري أنه أقوى الأعذار، والله أعلم.
…
ومما يدل على تأكد تعجيل الحج وعذر النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] "
(2)
. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له "
(3)
. والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف:12].
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1622)، ومسلم في كتاب الحج باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1347) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج (812)، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبدالله مجهول، والحارث يُضَعف في الحديث، وينظر: تلخيص الحبير 2/ 222.
(3)
أخرجه أحمد 1/ 314 من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وحسنه الألباني في الإرواء 4/ 168، وحسنه الأرنؤوط في تحقيق المسند 5/ 58.
57/ 2 - قال ابن عقيل: ({مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، فأثبت أمره له بالسجود، ولم يقع منه السجود، وقد أجمع المسلمون على أنه عالم بامتناعه قبل وقوع الامتناع منه اهـ)
(1)
.
الدراسة:
استدل ابن عقيل بهذه الآية على أنه يجوز أن يأمر الله سبحانه بما يعلم أن المأمور لا يفعله، وهو استدلال صحيح، وقد نص على هذه المسألة الإمام أحمد بقوله:(علم الله أن آدم سيأكل من الشجرة التي نهاه عنها قبل أن يخلقه)
(2)
.
وقالت المعتزلة: لا يجوز
(3)
.
واحتجوا بأنه لا يصح أن يَأْمر الله المكلف بما يعلم أنه لا يفعله؛ لأنه عبث، والله منزه عن العبث في قوله وفعله.
قال ابن عقيل: (والجواب: أن هذا كلام يرده النص، ولا عبرة بما استدلوا به مع كون الإجماع انعقد على خلافه، ونص الكتاب قضى بإبطاله، على أنه فاسد في نفسه لو ورد مع عدم الإجماع والنص، وهو أن الله خلق من في معلومه أنه لا ينتفع بخلقه ولا يطيعه في أمره، فلا يستحق الثواب، بل لا يسعى إلا فيما يوجب عليه العقاب ولم يك في خلقه عابثاً، كذلك أمره لا يكون به عابثاً)
(4)
.
وكذلك أمر الله إبراهيم بذبح ولده وعلم أنه لا يذبحه، وليس هذا عبثاً؛ لأن فيه إظهار أمر الله، وإظهار صدق امتثال العبد لأمر الله، وفيه إقرار المأمور بوجوب طاعة الله في أوامره، وفيه إشارة إلى أن الله سيجازيه بالثواب إذا أداه
(5)
، ولا يقاس أمر الله تعالى بأمر المخلوقين، وليس كل ما كان قبيحاً من العبد يكون قبيحاً من الرب، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
(6)
.
(1)
الواضح 3/ 188.
(2)
العدة 2/ 395.
(3)
ينظر: المعتمد 1/ 166.
(4)
الواضح 3/ 188.
(5)
ينظر: العدة 2/ 396.
(6)
ينظر: منهاج السنة 3/ 151.
ويبطل أيضاً: بأن الله قد أمر الكفار بالإيمان، ولم يختلف في تكليفهم الإيمان اثنان، ولا فصّل أحد من الأئمة، فقال: إن المعلوم إيمانه هو المأمور به دون من عُلم أنه لا يؤمن، والقول المخالف للإجماع لا يلتفت إليه
(1)
.
ويتضح هذا إذا عرفنا أن مذهب السلف أن أوامر الله تنقسم إلى كونية وشرعية، وأن الأوامر الشرعية قد تقع وقد لا تقع.
قال ابن القيم: (فصل وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علماً، وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي؛ فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله، وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً، فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته، وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته)
(2)
. والله أعلم.
قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف:15].
(1)
ينظر: الواضح 3/ 188.
(2)
شفاء العليل ص 47.
58/ 3 - قال ابن عقيل: (فأما إبليس حيث طلب الإنظار، وخطب طول الأعمار أجابه سبحانه فقال:{إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف:15] فلو كان أمره لإصلاحه وصلاح عاقبته لما أجابه إلى الإبقاء، وقد كشفت العاقبة أن إنظاره الذي أجابه الحق إليه وبال عليه وعلى من اتبعه، فلو كان الله سبحانه أراد حفظه عن الفساد، وأراد به الصلاح، وبغيره ممن علم أنه يغويه؛ لفعل في حقه ما فعله في حق طفل الخضر، فعلم أن مطلق الأمر والمشيئة بفعل الأصلح لمن شاء، وفي حق من شاء، ويأمر من لا يريد صلاحه بما شاء، فهذا طريق مهيع
(1)
قد ملأ كتابه الكريم بأمثاله اهـ)
(2)
.
__
الدراسة:
استدل ابن عقيل بهذه الآية على أن الأمر من جهة الله سبحانه لا يقف على مصلحة المأمور؛ بل يجوز أن يأمره بما يعلم أنه لا يعود بصلاح حاله.
قال ابن عقيل: (وبهذا قال الفقهاء أجمع، خلافاً للمعتزلة ومن وافقهم في تلك الأصول في قولهم: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة)
(3)
.
قالت المعتزلة: القول والفعل إذا خلا من فائدة كان عبثاً، وقد نزه الله نفسه عن العبث والباطل
(4)
، فمن تنزه عن فعل يخلو من نفع به، فهو على أن ينزه من فعل هو محض مضرة لا فائدة فيه أولى. فيقولون: إن الله أمر الكافر بالإيمان، ولكن الكافر شاء الكفر، ليفروا من كون الله يأمر بالكفر ويعذب عليه. وقد وقعوا في شر مما فروا منه، وهو أنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، ولا دليل عليه؛ بل هو مخالف للدليل
(5)
.
(1)
أي: واضح واسع بيِّن، ينظر: لسان العرب 8/ 379.
(2)
الواضح 3/ 215.
(3)
الواضح 3/ 214.
(4)
ينظر: المعتمد 1/ 166.
(5)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 321 بتصرف، و ينظر ما سبق عند قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] ص 261.
والجواب: أنه لا بد من التفصيل حتى يتبين الكلام السليم:
فأولاً: أهل السنة يقولون: إن الله وإن كان مريداً للمعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها، ولا يأمر بها، بل يبغضها، وينهى عنها، وهذا هو قول السلف قاطبة.
ثانياً: المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى، مثل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وهي مقصودة لذاتها، ولا يلزم وقوعها، فقد تقع وقد لا تقع.
والإرادة الكونية: هي المرادفة للمشيئة الشاملة لجميع الحوادث، مثل قوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وهذه لا بد من وقوعها، وقد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها ولا يرضاها، وهي مقصودة لغيرها؛ كخلق إبليس وسائر الشرور؛ لتحصل بسبب ذلك المجاهدة والتوبة والاستغفار وغير ذلك من المحاب
(1)
.
ومن لم يثبت الإرادتين ويفرق بينهما فقد ضل كالجبرية والقدرية، فالجبرية أثبتوا الإرادة الكونية فقط، والقدرية أثبتوا الإرادة الشرعية فقط، وأهل السنة أثبتوا الإرادتين وفرقوا بينهما
(2)
.
وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى، فليس بين الأمر والإرادة تلازم، فالواحد منا يأمر غيره وينهاه مريداً نصحه ومبيناً ما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، فجهة أمره لغيره نصحاً غيرُ جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان
(3)
.
(1)
والإرادتان الشرعية والكونية تجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي.
(2)
شرح العقيدة الواسطية للفوزان ص 42.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 79 وما بعدها بتصرف.
وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، ومن النصوص في المشيئة قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس:99]، وقوله:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام:39].
…
ومن نصوص المحبة والرضا قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وقوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]
(1)
.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى 8/ 475.
قال ابن أبي العز
(1)
: (فإن قيل كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهته؟. قيل هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره؛ فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه، وإرادتِه بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية فهو سبحانه يكره الشيء ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته)
(2)
.
ويقال: إن جميع ما أمر الله به وحصل منه ضررٌ فبه حكمة مطلوبة ولا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به، ولهذا لم يأت في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر إلى الله سبحانه، بل يذكر على أحد أوجه ثلاثة:
1 -
أن يدخل في عموم المخلوقات، وهنا يفيد عموم القدرة والمشيئة والخلق كقوله:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16].
(1)
هو أبو الحسن علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي الحنفي من مصنفاته شرح العقيدة الطحاوية مات سنة 792 هـ، له ترجمة في: الدرر الكامنة 3/ 87، شذرات الذهب 6/ 326.
(2)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 327.
2 -
أن يضاف إلى السبب الفاعل مثل قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق:2].
3 -
أن يحذف فاعله مثل قوله تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن:10]. ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} [الأعراف:167]
(1)
.
فالله سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد كل شيء، وسبب لشقاوة كثير من العباد، ومع هذا: فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب سبحانه ترتبت على خلقه، ووجودُها أحب إليه من عدمها، منها: أنه يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات، كما ظهرت قدرته في: خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك أدل دليل على كمال صفاته وأفعاله
(2)
.
قال النسفي
(3)
: ({قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف:15] إلى النفخة الأولى، وإنما أُجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء، وفيه تقريب لقلوب الأحباب، أي: هذا بِرِّي بمن يسيئني فكيف بمن يحبني، وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال)
(4)
.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى 8/ 94.
(2)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/ 327.
(3)
هو أبو البركات عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي من أهم تصانيفه: مدارك التنزيل وحقائق التأويل في التفسير، مات سنة 710 هـ، له ترجمة في: الدرر الكامنة 3/ 17، طبقات الأدنه وي ص 263.
(4)
تفسير النسفي 2/ 46.
وقال ابن كثير: (أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب)
(1)
.
وقال السعدي
(2)
: (فلما أعلن عدو الله بعداوة الله وعداوة آدم وذريته سأل الله النظرة والإمهال إلى يوم البعث ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم، ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق من الكاذب ومن يطيعه ومن يطيع عدوه أجابه لما سأل فقال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف:15])
(3)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف:138].
59/ 4 - قال ابن عقيل: ({يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138]، يعني: يلازمونها اهـ)
(4)
.
(1)
تفسير ابن كثير 3/ 1411.
(2)
هو الشيخ أبو عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله آل سعدي التميمي النجدي الحنبلي، من أهم مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين، مات سنة 1376 هـ، له ترجمة في: رسالة بعنوان: (حياة الشيخ عبدالرحمن السعدي في سطور) لأحمد بن عبدالله القرعاوي.
(3)
تفسير السعدي 1/ 284.
(4)
التذكرة ص 97.
الدراسة:
فسر ابن عقيل الاعتكاف بالملازمة، وهو المعنى اللغوي له كما قال الزجاج:(ومعنى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138]، أي: يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه، عَكَفَ يعْكِف ويعْكُفُ، ومن هذا قيل للملازم للمسجد معتكف)
(1)
.
وقال النحاس: (ومعنى: {يَعْكُفُونَ} [الأعراف:138]، يواظبون ويلازمون، ومنه قيل: اعتكف فلان)
(2)
. وهذا هو ما عليه أكثر المفسرين
(3)
.
وقال ابن فارس: (العين والكاف والفاء أصل صحيح يدل على مقابلة وحبس)
(4)
. وفسر بعضهم الاعتكاف بالمواظبة
(5)
، وبعضهم بالإقامة
(6)
.
وهذه الألفاظ بمعنى واحد، فالملازمة للشيء حبس للنفس عليه، وهو كذلك مواظبة وإقامة وإقبال عليه
(7)
، وكلها موافقة تماماً لما عليه المشركون مع أصنامهم كما نصت الآية.
أما المعنى الشرعي للاعتكاف: فهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى
(8)
.
قال الراغب: (والاعتكاف في الشرع: هو الاحتباس في المسجد على سبيل القربة، ويقال: عكفته على كذا، أي: حبسته عليه)
(9)
.
وقال الرازي: (والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله تقرباً إليه)
(10)
.
(1)
معاني القرآن وإعرابه 2/ 371.
(2)
معاني القرآن 3/ 73.
(3)
ينظر: تفسير السمرقندي 1/ 560، الكشاف 2/ 141، المحرر الوجيز 2/ 447، التفسير الكبير 5/ 97.
(4)
معجم مقاييس اللغة 4/ 108، وينظر: الصحاح 3/ 1162.
(5)
ينظر: تفسير النسفي 2/ 73، تفسير أبي السعود 3/ 24.
(6)
ينظر: الوجيز 1/ 411، معالم التنزيل 2/ 162، تذكر الأريب في تفسير الغريب 1/ 187، الجامع لأحكام القرآن 7/ 273.
(7)
ينظر: المفردات ص 383، تفسير غريب القرآن العظيم ص 340، لسان العرب 9/ 255.
(8)
حاشية الروض المربع 3/ 472.
(9)
المفردات ص 383.
(10)
التفسير الكبير 5/ 97.
والخلاصة: أن من معاني الاعتكاف في اللغة: الملازمة والحبس والإقبال والإقامة والمواظبة.
وأضاف الشرع إليه أن يقصد القربة لله تعالى فيه. والله تعالى أعلم.
60/ 5 - قال ابن عقيل: ({وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150]، وهو النهاية في الغضب اهـ)
(1)
.
الدراسة:
ذكر العلماء في الأسِف معنيين
(2)
:
المعنى الأول: النهاية في الغضب وهو تفسير أبي الدرداء رضي الله عنه
(3)
حيث قال: (الأسف: منزلة وراء الغضب أشد من ذلك)
(4)
، وهو قول ابن عقيل، واختيار الزجاج
(5)
.
المعنى الثاني: شدة الحزن.
(1)
الواضح 2/ 381.
(2)
ينظر: جامع البيان 10/ 449، الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز ومعانيها ص 133.
(3)
هو أبو الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهور بكنيته واختلف في اسمه فقيل هو: عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر، ويقال: ابن عبد الله، وقيل: ابن ثعلبة بن عبد الله الأنصاري الخزرجي قاضي دمشق وسيد القراء فيها روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، مات سنة 32 هـ، له ترجمة في: الإصابة 4/ 747، سير أعلام النبلاء 2/ 335.
(4)
جامع البيان 10/ 450، تفسير ابن كثير 3/ 1478.
(5)
معاني القرآن وإعرابه 2/ 378.