المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النحل قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ - منهج ابن عقيل الحنبلي وأقواله في التفسير جمعا ودراسة

[راشد بن حمود الثنيان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجي وعملي في البحث:

- ‌التمهيد ترجمة موجزة لابن عقيل

- ‌أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

- ‌ثانياً: مولده:

- ‌ثالثاً: أسرته:

- ‌رابعاً: شيوخه:

- ‌خامساً: تلاميذه:

- ‌سادساً: مكانته العلمية:

- ‌سابعاً: مصنفاته:

- ‌ثامناً: ابن عقيل والمعتزلة:

- ‌تاسعاً: وفاته

- ‌القسم الأول مصادر ابن عقيل ومنهجه في التفسير

- ‌الفصل الأول مصادر ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول مصادر القرآن وعلومه:

- ‌المبحث الثاني مصادر الحديث:

- ‌المبحث الثالث مصادر الفقه:

- ‌المبحث الرابع مصادر العقيدة:

- ‌الفصل الثاني منهج ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني تقييد المطلق:

- ‌المطلب الثالث بيان المجمل:

- ‌المطلب الرابع جمع النظائر:

- ‌المبحث الثاني تفسير القرآن بالسنة

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني بيان المجمل:

- ‌المطلب الثالث الترجيح بالسنة:

- ‌المبحث الثالث تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني دفع موهم التناقض:

- ‌المبحث الرابع تفسير القرآن باللغة:

- ‌المطلب الأول اهتمامه بمعاني المفردات والحروف، ومرجع الضمائر:

- ‌المطلب الثاني عنايته بالشعر وأقوال العرب:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالأوجه البلاغية ولطائف التفسير:

- ‌المبحث الخامس تفسيره لآيات الأحكام

- ‌المطلب الأول مذهبه الفقهي:

- ‌المطلب الثاني نقله للإجماع:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالقياس:

- ‌المطلب الرابع منهجه في الاستنباط:

- ‌الفصل الثالث علوم القرآن عند ابن عقيل

- ‌المبحث الأول الناسخ والمنسوخ:

- ‌المبحث الثاني أسباب النزول:

- ‌المبحث الثالث المحكم والمتشابه:

- ‌المبحث الرابع العام والخاص:

- ‌القسم الثاني أقوال ابن عقيل في التفسير - من أول القرآن إلى آخره - مع دراستها

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة القدر

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العصر

- ‌الخاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌ ‌سورة النحل قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ

‌سورة النحل

قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} [النحل:9].

84/ 1 - قال ابن عقيل: (الجور: هو الميل عن الحق، ومنه قوله سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}، وتقول العرب: جار السهم، إذا مال اهـ)

(1)

.

الدراسة:

فسر ابن عقيل الجور في الآية بالميل عن الحق، وهذا هو ما اتفق عليه أهل اللغة والتفسير.

قال ابن فارس: (الجيم والواو والراء أصل واحد، وهو الميل عن الطريق)

(2)

.

وقال الطبري: (وقوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل:9]، يعني تعالى ذكره: ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، فالقاصد من السبل: الإسلام، والجائر منها: اليهودية

(3)

، والنصرانية

(4)

، وغير ذلك من ملل الكفر كلها، جائر عن سواء السبيل وقصدها، سوى الحنيفية المسلمة

) إلى أن قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)

(5)

.

وقال النحاس: (قال جل وعز: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل:9]، أي: ومن السبل جائر، أي: عادل عن الحق)

(6)

.

وقال الرازي: ({وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل:9]، أي: عادل مائل، ومعنى الجور في اللغة: الميل عن الحق)

(7)

. هذا هو الأصل في معنى الجور.

وذكر المفسرون أمثلة للسبل الجائرة

(8)

:

(1)

الواضح 1/ 150.

(2)

معجم مقاييس اللغة 1/ 493، وينظر: لسان العرب 4/ 153، المفردات ص 116.

(3)

اليهودية: هم أمة موسى، وكتابهم التوراة، حرفوه وغيروه، ينظر: الفصل في الملل والنحل والأهواء لابن حزم 1/ 82، الملل والنحل للشهرستاني 1/ 177.

(4)

النصرانية: هم أمة المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته عليه السلام، التي افترقت اثنتين وسبعين فرقة فبدلت وغيرت، ينظر: الفصل في الملل والنحل والأهواء لابن حزم 1/ 47، الملل والنحل للشهرستاني 1/ 185.

(5)

جامع البيان 14/ 177، وينظر: تفسير السمرقندي 2/ 267، تفسير النسفي 2/ 251.

(6)

معاني القرآن 4/ 58.

(7)

التفسير الكبير 19/ 184.

(8)

ينظر: جامع البيان 14/ 180.

ص: 325

قال ابن كثير: ({وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل:9]، أي: حائد مائل زائغ عن الحق، قال ابن عباس وغيره: (هي الطرق المختلفة، والآراء والأهواء المتفرقة، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية

(1)

)

(2)

، وبنحوه قال ابن عطية

(3)

، وشيخ الإسلام

(4)

، وغيرهم

(5)

. والله أعلم.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل:43].

85/ 2 - قال ابن عقيل: ({فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وهذا يعم ما يسوغ، وما لا يسوغ، ومن يعلم علة الحكم، ومن لا يعلم اهـ)

(6)

.

الدراسة:

استدل ابن عقيل بعموم اللفظ على أن العامي يسأل أهل الذكر في عموم المسائل مما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ فيه، ولمن يعلم علة الحكم ومن لا يعلمها.

وهذا المسألة لا بد فيها من التفصيل فأقول:

إن كان يستطيع الاجتهاد والنظر في الأدلة فلا يعذر بتركه؛ ولو كان في بعض المسائل

(7)

.

(1)

المجوسية: هي عقيدة الذين أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد، يسمون أحدهما: النور، والآخر: الظلمة، ينظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 196، مجموع الفتاوى 8/ 258.

(2)

تفسير ابن كثير 5/ 1982.

(3)

المحرر الوجيز 3/ 381.

(4)

مجموع الفتاوى 15/ 202.

(5)

ينظر: معالم التنزيل 3/ 52، زاد المسير 4/ 328، الجامع لأحكام القرآن 10/ 81.

(6)

الواضح 5/ 417.

(7)

ينظر: العدة 4/ 1217، الإحكام للآمدي 4/ 223.

ص: 326

قال شيخ الإسلام: (ولهذا اتفق العلماء: على أنه إذا عرف الحق، لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في: جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه)

(1)

.

وإن كان عامياً لا يستطيع الاجتهاد ولا البحث ولا النظر في الأدلة، فهذا لا يكلف إلا ما يستطيع، وهو تقليد العلماء وهذا فرضه، وهو قول ابن عقيل، وعليه عامة العلماء

(2)

؛ لأن هذا غاية ما يستطيعه، وتكليفه بالبحث تكليف بما لا يطاق

(3)

.

قال ابن عبدالبر: (ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل:43]، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بمَيْزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لا بد له من تقليد عالمه)

(4)

.

وقال شيخ الإسلام: (والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد)

(5)

.

وأقوى الحجج: الآية التي معنا، فأمر سبحانه من لا علم له؛ أن يسأل من هو أعلم منه.

(1)

مجموع الفتاوى 7/ 71.

(2)

ينظر: شرح مختصر روضة الناظر 3/ 652، قال الشنقيطي:(ولم يخالف في جواز التقليد للعامي إلا بعض القدرية) المذكرة ص 373، وينظر الأصل: روضة الناظر 2/ 451.

(3)

ينظر: العدة 4/ 1217، شرح الكوكب المنير 4/ 533.

(4)

جامع بيان العلم وفضله 2/ 115، وينظر: روضة الناظر 2/ 451.

(5)

مجموع الفتاوى 20/ 203.

ص: 327

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم: إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة:" ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العِيِّ السؤال "

(1)

.

وأجمع الصحابة والتابعون رضي الله عنهم على عدم تكليف العامة الاجتهاد في الفروع، ولم ينكروا على عامي اتبع مفتياً سواء ذكر له الدليل أو لم يذكره

(2)

.

هذا ما ذَكَرت كتب الأصول، ولكن نجد في المقابل قول الشوكاني، الذي جعل عدم جواز التقليد للعامي قول الجمهور، ونقل دعوى ابن حزم الإجماع عليه

(3)

، وقال في إجماع الصحابة إن سؤال العالم ليفتيه بالنصوص ليس تقليداً، بل هو من طلب حكم الله في المسألة، والتقليد هو العمل بالرأي، ورد على الاستدلال بالآية التي معنا: بأن الآية غير عامة، ولو سلم بالعموم، فالمراد السؤال عن حكم الله لا حكم الرجال

(4)

.

وكل هذا غير مسلم، فقد سبقه من حكى رأي الجمهور، واستدل له ونقله، وسؤال العامي للمفتي هو عين التقليد لأن المجتهد لا يفتي إلا مستنداً لدليل نصاً أو استنباطاً، فالمقلد يسأل عن حكم الله، والمفتي يستنبط الحكم من نصوص الشرع، وهو حكم الله في حقه وحق من اتبعه.

وأدلة من حرم التقليد لا تنهض للاستدلال في المسألة المختلف فيها، ويحمل أكثرها على تحريم التقليد المذموم الخارج من محل النزاع

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب في تيمم المجروح (336) من حديث جابر رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 68.

(2)

ينظر: روضة الناظر 2/ 451، شرح مختصر روضة الناظر 3/ 652.

(3)

ولعل هذا في التقليد المذموم، ينظر: أضواء البيان 5/ 92.

(4)

ينظر: إرشاد الفحول 1/ 333، فتح القدير 3/ 494.

(5)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 15، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة ص 496.

ص: 328

ومن أقوى ما احتجوا به: ما ورد من النصوص التي تنهى عن القول على الله بلا علم، كقوله تعالى:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة:169]، وأن التقليد قول على الله بلا علم.

والجواب واضح: فالتقليد ليس قولاً على الله بلا علم؛ بل هو قول بعلم، ومستنده ما سبق من الأدلة على جواز التقليد.

وقالوا: المجتهد قد يخطئ فكيف يؤمر المقلد باتباع الخطأ، والجواب: أنه حتى لو بين المجتهد دليله فإن احتمال الخطأ وارد

(1)

. والله أعلم.

قال تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل:69].

(1)

ينظر: أضواء البيان 5/ 90، فقد أطال الكلام في المسألة وعرض الأدلة للقولين وذكر إجماعات في مسائل كثيرة يجوز فيها التقليد، منها: الإجماع على أن الأعمى يقلد في القبلة، والإجماع على تقليد الأئمة في الطهارة، وقراءة الفاتحة، وعلى جواز تقليد المؤذنين في دخول أوقات الصلوات .. وأشار إلى تنبيهات حول المسألة في أكثر من خمسين صفحة فلتراجع، وينظر أيضاً: أصول مذهب الإمام أحمد ص 751 وما بعدها.

ص: 329

86/ 3 - قال ابن عقيل: (قال سبحانه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]، وقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء:80]، فالأحق أن يكون الشفاء حقيقة مضافاً إلى الخالق سبحانه، والعسل عنده الشفاء، والماء يوجد عند نزوله الإنبات، والمنبت حقيقة هو الله سبحانه، فإنه سبحانه يقول:{فَأَحْيَيْنَا بِهِ} [فاطر:9]، {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل:11]، وقال:{فَأَنْبَتْنَا بِهِ} [النمل:60]، يعني: أنبتنا لكم عنده، وقد أضاف الله سبحانه الإضلال إلى الأصنام

(1)

والسامري

(2)

، والضلال فيهم لا بهم اهـ)

(3)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه على الآيات إلى أن الفعل يضاف إلى الله حقيقة، والمخلوق يكون عنده الفعل لا به

(4)

، وهذا مبني على قول من يعطل الأسباب والعلل، وهذا يؤدي إلى إبطال حكمة الله في مخلوقاته.

قال شيخ الإسلام: (ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها

(5)

فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع)

(6)

.

(1)

في قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36].

(2)

في قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} [طه:85].

(3)

الواضح 1/ 181.

(4)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 281، في القول بنفي الأسباب.

(5)

أي: الأسباب.

(6)

مجموع الفتاوى 3/ 112.

ص: 330

وقال أيضاً: (ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها

) إلى أن قال: (وهذا خلاف الكتاب والسنة، فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية [الأعراف:57]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، وقال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52])

(1)

.

والآيات في هذا الباب كثيرة، والأحاديث كذلك، وبهذا يتبين خطأ ما قرر ابن عقيل؛ لأنه يخالف القرآن والسنة، وما عليه سلف الأمة

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى 8/ 136.

(2)

ينظر: منهاج السنة 1/ 464، 3/ 286، شفاء العليل ص 231 وما بعدها.

ص: 331

فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، وما قدره الله فهو بسبب، وهذا قول وسط بين قول الجبرية: الذين يقولون: إن العبد مجبر على عمله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، والله خالق فعله حقيقة، وإضافة الفعل إلى العبد مجازاً

(1)

، والقدرية: الذين يقولون: إن العبد قادر على إيجاد فعله، وليس لله - تعالى الله عن قولهم - دخل في ذلك، لا قدرة ولا مشيئة ولا قضاء

(2)

، والقول الوسط هو الحق.

قال شيخ الإسلام في صفات الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة: (وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية)

(3)

. والله أعلم.

قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)} [النحل:72].

87/ 4 - قال ابن العربي: (سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية، وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له، ولا مالية فيه، ولا منفعة مثبوتة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها، فلأجل ذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل، فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة؛ لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها اهـ)

(4)

.

(1)

ينظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 67، تاريخ الفرق وعقائدها ص 149.

(2)

ينظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 41، الفرق بين الفرق ص 18.

(3)

العقيدة الواسطية ص 186 مع شرح الهراس.

(4)

أحكام القرآن 3/ 141.

ص: 332

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه إلى نكتة لطيفة من لطائف التفسير، وقد استحسنها بعض العلماء ممن جاء بعده ونقلها عنه، كابن العربي حيث قال بعدها:(وهذه من البدائع)

(1)

.

وبيان هذه المسألة:

أن الأصل في وجود الأبناء أن يكون من الأب والأم معاً، ولكنه في هذه الآية نسبه للأم، وأضافه إليها؛ لأن المراد بالأزواج في الآية النساء.

قال السمرقندي: ({وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ} [النحل:72] أي: خلق لكم من نسائكم بنين)

(2)

.

فذكر ابن عقيل هذه اللطيفة، ووافقه عليها ابن العربي، والقرطبي

(3)

، وخلاصتها:

أنه لما كان تخلق المولود في الأم، ووجوده ذا روح وصورة بها، وانفصاله كذلك عنها، أضيف إليها؛ ولأجله تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية

(4)

.

وذكر مسألة فقهية لها شبه بها في باب آخر، فقال: كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل، فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة؛ لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها

(5)

.

(1)

أحكام القرآن 3/ 141.

(2)

تفسير السمرقندي 2/ 282.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 10/ 143.

(4)

ينظر: شرح منتهى الإرادات 2/ 619.

(5)

ينظر: مطالب أولي النهى 5/ 555.

ص: 333

ولهذا ذكر العلماء أن من حِكَم النهي عن التزوج بالأمة: أن الولد يكون تبعاً لها في الرق، وإنما أبيح التزوج منها عند عدم الطول وخوف العنت، بيان ذلك في قول الله جل وعلا:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} [النساء:25].

قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل:89].

ص: 334

88/ 5 - قال ابن عقيل: ({وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وهذا يعم بيانَ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم، وبيانَ كلِّ مشكل ومجمل

(1)

، إلا ما خصه الدليل من المتشابه الذي انفرد بعلمه، وكلِّف الإيمان به من غير بيان معناه

(2)

اهـ)

(3)

.

__

الدراسة:

استدل ابن عقيل بهذه الآية على أن القرآن بيان لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها مما يحتاج إلى بيان؛ بدلالة ألفاظ العموم في الآية، إلا ما خصه الدليل مما تفرد الله بعلمه.

وهذا هو ما عليه جمهور العلماء

(4)

، استدلالاً بهذه الآية، وأمثلة ذلك كثيرة منها:

(1)

كالقرآن بالقرآن، ففيه المجمل والمبين، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ونحوها.

(2)

من أمثلة ذلك أمور الغيب: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن:26 - 27] ويدخل في ذلك كيفية صفات الباري سبحانه.

(3)

الواضح 3/ 392.

(4)

ينظر: العدة 2/ 569، روضة الناظر 2/ 162، الإحكام للآمدي 2/ 321.

ص: 335

قوله صلى الله عليه وسلم: " ما قطع من حي فهو ميت "

(1)

، خُصَّ بقوله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل:80]، فما قطع من الحي مما ذكر في الآية فهو طاهر، وليس له أحكام الميتة

(2)

.

قال العلماء: هذه لا يلحقها حكم الموت فلا تحتاج إلى ذكاة

(3)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم "

(4)

، وهذا عام مخصوص بقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فالحكم في الحديث عام في كل النساء، ولكن لما خُصَّت الأمة بحكم أقل في الآية وهو أنها على النصف من عذاب الحرة، صار حكم الحديث خاصاً في الحرائر بالآية

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الصيد باب في صيدٍ قطع منه قطعة (2858)، والترمذي في كتاب الأطعمة باب ما قطع من الحي فهو ميت، وقال: حسن غريب (1480)، وابن ماجة في كتاب الصيد باب ما قطع من البهيمة وهي حية (3216) من حديث أبي واقد وابن عمر بألفاظ متقاربة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 552.

(2)

بل نقل الاتفاق على ذلك ابن رشد في بداية المجتهد ص 69.

(3)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص، وقال: هو المروي عن الحسن ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي 1/ 149، بداية المجتهد ص 68، المجموع 1/ 296، كشاف القناع 1/ 57.

(4)

سبق تخريجه، ينظر: ص 181.

(5)

ينظر: المحلى 12/ 100.

ص: 336

وقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله .. "

(1)

، خُصَّ بقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة:29]

(2)

، والتخصيص لا يَخْرُج عن كونه مُبَيِّناً.

فيدخل في قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] كل نوع من أنواع البيان

(3)

، ويعم أيضاً أنواع المبيَّنات

(4)

، وكل ما يحتاجه الناس، إلا ما خصه الدليل

(5)

، مثل أمور الغيب وما يكون في الآخرة.

قال القرطبي: (أي: ما تركنا شيئاً من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89])

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5](25)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله .. (20) من حديث عمر وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.

(2)

ينظر: المحلى 7/ 258.

(3)

كبيان المجمل، والمطلق، والعام، ونحوها.

(4)

كبيان القرآن بالقرآن أو بالسنة أو غيرها.

(5)

ينظر: جامع البيان 14/ 333 ولم يذكر مخالفاً للعموم، الوجيز 1/ 352، زاد المسير 4/ 367، لسان العرب 13/ 68، تفسير ابن كثير 5/ 2009.

(6)

الجامع لأحكام القرآن 6/ 420.

ص: 337

وقال السعدي: ({وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين، وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين، بألفاظ واضحة، ومعان جلية)

(1)

.

وذهب قوم إلى منع بيان السنة بالقرآن

(2)

، واحتجوا بقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، ووجه الاستدلال من وجهين:

1 -

أن الله جعل النبي صلى الله عليه وسلم هو المبَيِّن، وليس القرآن.

والجواب: أن يقال: إن المراد به بيان النبي صلى الله عليه وسلم لما يحتاج إلى بيان، أما ما بينه القرآن فهو كاف لبيان المراد. وكذلك يجاب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يبين القرآن من القرآن.

2 -

قالوا: لو جعلنا القرآن مبيِّناً لكان تبعاً، وهذا فيه نقصان للقرآن، فلا بد أن نجعل القرآن هو المبيَّن ليكون هو الأصل.

والجواب: أنه لا يسلم لهم بهذا، لأن الأقوى يقضي على الأدنى، كما أنه لم يقل أحد في بيان أخبار الآحاد بأخبار التواتر؛ بأن أخبار الآحاد أصل، وأخبار التواتر تبع

(3)

.

وكذلك: نجد أن القرآن بعضُه مبيِّن لبعض، ولم أر أحداً قال: إن بيان بعضه لبعض يجعل المبيِّن تبعاً للمبيَّن، ولم يقل أحد بأن هذا البيان يُنقِص المبيِّن.

وبهذا يتضح لنا صحة القول بأن بيان القرآن عام لكل ما يحتاج إلى بيان

(4)

. والله أعلم.

(1)

تفسير السعدي 4/ 230.

(2)

نُسب هذا للشافعي، ينظر: العدة 2/ 570، وفيه نظر! حيث قال الآمدي وغيره من الشافعية:(يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا، وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين)، الإحكام 2/ 321.

(3)

ينظر: العدة 2/ 570.

(4)

ينظر: الواضح 3/ 393، البحر المحيط للزركشي 3/ 379، التمهيد لأبي الخطاب 2/ 114.

ص: 338

قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل:106].

89/ 6 - قال ابن عقيل: ({إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]، يعني: من اعتقد الكفر، وإنما لم يعف عن أعمال القلوب ها هنا؛ لأن الإكراه لم يتسلط عليها اهـ)

(1)

.

الدراسة:

بين ابن عقيل في هذه الآية: أن المكره على الكفر يُعفى عنه، إذا لم يعتقد ذلك في قلبه، فإن اعتقده في قلبه كفر، لأن الإكراه لا يتصور على القلوب.

وبهذا فسرها جماهير العلماء.

قال الطبري: (فتأويل الكلام إذن: من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوحِ الصدرِ بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم)

(2)

.

وقال البغوي: (وأجمع العلماء: على أن من أكره على كلمة الكفر، يجوز له أن يقول بلسانه، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً، وإن أبى أن يقول حتى يقتل، كان أفضل)

(3)

.

وقال القرطبي: (أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان)

(4)

.

(1)

الواضح 1/ 84.

(2)

جامع البيان 14/ 375.

(3)

معالم التنزيل 3/ 71.

(4)

الجامع لأحكام القرآن 10/ 182، وينظر: تفسير ابن كثير 5/ 2019 ونَقَل الاتفاق أيضاً.

ص: 339

وقال السعدي: (من أكره على الكفر، وأجبر عليه، وقلبه مطمئن بالإيمان؛ راغب فيه، فإنه لا حرج عليه، ولا إثم، ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها)

(1)

.

وحكى القرطبي قولاً آخر ورده فقال: (غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر المرء الشرك كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتَبِين منه امرأته، ولا يصلَّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل:106]، وقال: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [النساء:97]، وقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [النساء:98]، فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما أمر به؛ قاله البخاري)

(2)

.

كل هذا مما يرجح لنا أن المكره معذور فيما يكون عليه الإكراه، وهو القول والفعل، أما العقيدة القلبية فلا يتصور الإكراه فيها

(3)

. والله أعلم.

(1)

تفسير السعدي 4/ 245.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 10/ 182، وينظر: صحيح البخاري كتاب الإكراه وتضمنت ترجمته ذكر الأدلة على العذر بالإكراه، والعذر للمستضعفين، والمكره لا يكون إلا مستضعفاً ص 1457.

(3)

ينظر: التسهيل 1/ 475، مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب 1/ 217.

ص: 340