الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عباس رضي الله عنه: (والأسف على وجهين: الغضب والحزن)
(1)
.
وقال النحاس: (الأسف: الشديد الغضب المغيظ ويكون الحزين)
(2)
.
وقال ابن منظور: (الأسف: المبالغة في الحزن والغضب)
(3)
.
وأكثر العلماء على ذكر القولين
(4)
، فكلاهما صحيح ولا تعارض بينهما فبالإمكان الجمع بينهما بما قال الرازي:(قال الواحدي: والقولان متقاربان؛ لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت، وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً، والأخرى غضباً؛ فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل، أسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وقد كان تعالى قال له: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85])
(5)
.
وقال ابن عطية: (والأسف قد يكون بمعنى الغضب الشديد، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن، والمعنيان مترتبان ههنا)
(6)
. والله تعالى أعلم.
سورة التوبة
[التوبة:29].
61/ 1 - قال ابن عقيل: (يعنى: حتى يبذلوها، وينزلوا على حكمنا فيها؛ للإجماع بأن السيف يرتفع عنهم قبل العطاء وبعد الإلزام اهـ)
(7)
.
(1)
جامع البيان 10/ 450.
(2)
معاني القرآن 3/ 82.
(3)
لسان العرب 9/ 5.
(4)
ينظر: تفسير السمعاني 2/ 217، المفردات ص 24، المحرر الوجيز 2/ 456، التفسير الكبير 15/ 10، الجامع لأحكام القرآن 7/ 286، أضواء البيان 3/ 56.
(5)
التفسير الكبير 15/ 10.
(6)
المحرر الوجيز 2/ 456.
(7)
التذكرة ص 324.
الدراسة:
أشار ابن عقيل إلى أن معنى الإعطاء في الآية الالتزام بإعطاء الجزية، والنزول على حكم المسلمين، وهذان هما الشرطان لجواز عقد الذمة
(1)
، وذلك للإجماع بأن القتل يرتفع عنهم بعد الالتزام وقبل العطاء، ولأن العطاء يكون في آخر الحول باتفاق
(2)
، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة رضي الله عنه:" فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم "
(3)
.
قال ابن قدامة: (ولا تعتبر حقيقة الإعطاء، ولا جريان الأحكام، لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول، والكف عنهم في ابتدائه عند البذل. والمراد بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا} [التوبة:29] أي يلتزموا الإعطاء، ويجيبوا إلى بذله، كقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، والمراد به: التزام ذلك دون حقيقته، فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول)
(4)
. والله أعلم.
قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة:35].
(1)
ينظر: المغني 13/ 207، المجموع 21/ 329.
(2)
نقل الاتفاق ابن رشد في بداية المجتهد ص 332، وينظر: المجموع 21/ 302.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب السير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث .. (1731).
(4)
المغني 13/ 207، وينظر في هذه المسألة: المدونة 1/ 529، بدائع الصنائع 9/ 426، المجموع 21/ 329، ومن التفاسير: أحكام القرآن 1/ 156، الجامع لأحكام القرآن 8/ 110، زاد المسير 3/ 317، تفسير ابن كثير 4/ 1643.
62/ 2 - قال ابن عقيل: ({فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}؛ لأن الجبهة تنزوي بالتعبيس في وجه الفقير، والجنب يلوى به عن الفقير، والظهر يُستدبر به الفقير، ولكل عضو من هجران الحقوق حظ؛ فله من الوعيد مثله اهـ)
(1)
.
الدراسة:
جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف .. "الحديث
(2)
.
وقد التمس العلماء الحكمة من تخصيص هذه الأعضاء، ومن ذلك ما ذكره ابن عقيل في كلامه السابق، وهو من ألطفها، فالجزاء من جنس العمل.
قال الزمخشري: (فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلا الأغراض الدنيوية، ومن وجاهة عند الناس وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يُتلقون بالجميل، ويُحَيون بالإكرام، ويُبجلون ويُحتَشمون، ومن أكل طيباتٍ يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمةٍ من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم لا يُخطِرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ذهب أهل الدثور بالأجور "
(3)
.
(1)
الفنون 2/ 478.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة (987).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازْوَرُّوا عنه
(1)
، وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم.
وقيل: معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم)
(2)
.
وقال ابن عاشور: (والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكي، فإن تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام، وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلاً لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم)
(3)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة:46].
63/ 3 - قال ابن عقيل: (قال الله في حق قوم: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة:46]، وأبان علة الكراهة، فقال:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة:47]، فأبان علة عاقبتهم وتثبيطهم عن الخروج لمصلحة جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد بجيشه الأصلح اهـ)
(4)
.
(1)
الازورار عن الشيء: العدول عنه، ينظر: لسان العرب 4/ 335.
(2)
الكشاف 2/ 256، وينظر في هذه المسألة: تفسير البيضاوي 3/ 143، التفسير الكبير 16/ 39، تفسير الثعالبي 2/ 128، روح المعاني 10/ 88.
(3)
التحرير والتنوير 6/ 179.
(4)
الواضح 3/ 215.
الدراسة:
أبان ابن عقيل في كلامه على هذه الآية أن الله تعالى كره خروج المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والكره عند أهل الحق من صفات الله الحقيقية على ما يليق به سبحانه، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم المخلوق
(1)
.
قال ابن عثيمين: (وفي الآية - يعني قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]- إثبات أن الله عز وجل يكره، وهذا ثابت في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء:38]
…
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كره لكم قيل وقال "
(2)
، فالكراهة ثابتة بالكتاب والسنة)
(3)
.
وقد بين الله سبب الكراهة في الآية التالية لها، بأنهم لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا فساداً، ولأسرعوا المشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة
(4)
، وفي منعهم وتثبيطهم الحكمة العظيمة: وهي مصلحة جيش النبي صلى الله عليه وسلم، لما أراد الله له الأصلح، وهذا هو ما عليه جميع المفسرين
(5)
.
(1)
ينظر: شرح العقيدة الواسطية لهراس ص 109.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون باب ما ينهى عن إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة (1715) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(3)
شرح العقيدة الواسطية له ص 227.
(4)
ينظر: تفسير ابن كثير 4/ 1664.
(5)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 155، المحرر الوجيز 3/ 40، التفسير الكبير 16/ 63، الجامع لأحكام القرآن 8/ 156.
قال الطبري: (وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به؛ لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضروهم ولم ينفعوا)
(1)
.
وقال ابن كثير: ({وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]، أي: أبغض أن يخرجوا معكم قدراً {فَثَبَّطَهُمْ}، أي: أخرهم، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة:46]، أي: قدراً، ثم بين وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} التوبة:47])
(2)
.
وقال ابن أبي العز: (فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله، وهو طاعة؛ فلما كرهه منهم، ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، أي: فساداً وشراً)
(3)
.
وقال الشنقيطي: (إن الله تعالى سبق في علمه أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا يخرجون إليها معه صلى الله عليه وسلم، والله ثبطهم عنها لحكمة، كما صرح به في قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} الآية [التوبة:46]، وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به تعالى في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47])
(4)
.
(1)
جامع البيان 11/ 482.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 1664.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 333.
(4)
أضواء البيان 1/ 356.
وقال السعدي: ({وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46] معكم في الخروج للغزو {فَثَبَّطَهُمْ} قدَراً وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم؛ بل خذلهم .. ) إلى أن قال: (ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، أي: نقصاً)
(1)
. والله أعلم.
قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [التوبة:62].
64/ 4 - قال ابن عقيل: ({وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ولم يقل يرضوهما وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله في كتابه
(2)
، وهاء الكناية في التثنية والجمع أبلغ من الجمع بالواو اهـ)
(3)
.
الدراسة:
للعلماء في إفراد الضمير: {يُرْضُوهُ} [التوبة:62] توجيهات كثيرة، أهمها ثلاثة:
1 -
أن الإفراد جاء لتعظيم الله سبحانه.
2 -
أنه في حكم أمر واحد إذ في رضى الله رضى رسوله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
تفسير السعدي 3/ 243.
(2)
يقصد به حديث الخطيب الذي قال: ومن يعصهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بئس الخطيب أنت .. " الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (870).
(3)
الواضح 3/ 305.
(4)
ينظر: الكشاف 2/ 272، التسهيل 1/ 362، تفسير أبي السعود 3/ 164.
3 -
أن الكلام فيه جملتان، حُذف خبر أحدهما لدلالة الثاني عليه
(1)
، والتقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه.
قال ابن عاشور: (وإنما أفرد الضمير في قوله: {يُرْضُوهُ} [التوبة:62] مع أن المعاد اثنان؛ لأنه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك
…
) إلى أن قال: (ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين)
(2)
.
4 -
ما ذكره ابن عقيل، وهو أن هاء الكناية في التثنية والجمع أبلغ من الجمع بالواو.
وكل ما ذكر من التوجيهات له حظ من النظر، وهذا من إعجاز القرآن.
قال الرازي: (وأما قوله {يُرْضُوهُ} [التوبة:62] بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول، ففيه وجوه:
الأول: أنه تعالى لا يُذكر مع غيره بالذكر المجمل بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيما له.
والثاني: أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله فاقتصر على ذكره
…
الثالث: يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا
…
عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
(3)
والرابع: أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى، وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله، فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر.
(1)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه 2/ 458، معاني القرآن للنحاس 3/ 228، تفسير السمرقندي 2/ 69، المحرر الوجيز 3/ 53، الجامع لأحكام القرآن 8/ 193.
(2)
التحرير والتنوير 10/ 245.
(3)
اختُلف في نسبة هذا البيت، والصحيح أنه لعمرو بن امرئ القيس كما نص على ذلك أكثر العلماء، ومنهم البغدادي في: خزانة الأدب 2/ 190، وابن منظور في لسان العرب 5/ 46، ونُسب هذا البيت إلى قيس بن الخَطِيم، ينظر: الكتاب لسيبويه 1/ 75، شرح ابن عقيل 1/ 191، ولم أجده في ديوانه، ولكنه في ملحقاته تحقيق: د. ناصر الدين الأسد ص 173.
الخامس: لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقاً لرضا الله تعالى، وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما، كما يقال: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني.
السادس: التقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك اهـ)
(1)
. والله أعلم.
65/ 5 - قال ابن عقيل: (قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" والله لأزيدن على السبعين "
(2)
، فعقل أن ما زاد على السبعين بخلافها اهـ)
(3)
.
(1)
التفسير الكبير 16/ 95.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ عبدالرزاق في تفسيره 2/ 284، وأخرجه البخاري في كتاب التفسير باب:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80](4670) بلفظ: " سأزيده على السبعين " من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
الواضح 3/ 269.
الدراسة:
استدل ابن عقيل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من الآية أن ما زاد على السبعين من الاستغفار جائز، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" لأزيدن على السبعين "، وهذا استدلال بمفهوم العدد ودليل الخطاب، وهو حجة شرعية
(1)
، لولا أنه جاء في كتاب الله ما يبين المراد في الآية، وهو قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6]، وأن المراد بالسبعين مرة: التكثير، وهذا هو ما ذكره جمهور العلماء
(2)
.
قال ابن حجر: (لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقياً)
(3)
.
ولفظ السبعين قد جرى عند العرب مجرى المثل للتكثير، والرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب
(4)
.
قال الزركشي: (قالوا: المراد بها الكثرة، وخصوص السبعين ليس مراداً)
(5)
.
(1)
ينظر: الواضح 3/ 266، التفسير الكبير 16/ 117، فتح الباري 8/ 428.
(2)
ينظر: العدة 2/ 448، تفسير البيضاوي 4/ 161، معالم التنزيل 2/ 266، البرهان 4/ 120، التسهيل 1/ 365، شرح الكوكب المنير 3/ 507.
(3)
فتح الباري 8/ 428.
(4)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 185، الكشاف 2/ 281، لسان العرب 8/ 147، تفسير النسفي 2/ 138، شرح الكوكب المنير 3/ 508.
(5)
البرهان في علوم القرآن 4/ 120.
وقال البيضاوي
(1)
: (وقد شاع استعمال السبعة، والسبعين، والسبعمائة، ونحوها في التكثير؛ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره)
(2)
.
وعلى فرض صحة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الحديث السابق: " لأزيدن " فالجواب:
1 -
فيجوز أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بَوَاطن المنافقين
(3)
.
2 -
ويجوز أنه قصد طلب المغفرة لهم لا لأجل أنه عقل ذلك من النطق، فلم يقل ليُغفر لهم؛ بل إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليهم
(4)
.
3 -
ويجوز أن يكون من جهة علمه أن هذا المعنى المشترك بين السبعين وما فوقها غير مراد في هذا المقام بخصوصه.
4 -
ويجوز أن لا يكون الفهم من التقييد بالعدد بل من جهة أن الأصل قبول استغفار النبي صلى الله عليه وسلم وقد تحقق النفي في السبعين فبقي ما فوقها على الأصل.
5 -
أو أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن الاستغفار لهم بعد ذلك
(5)
.
(1)
هو أبو سعيد عبدالله بن عمر بن محمد البيضاوي الشيرازي الشافعي قاض ومفسر، صنف: أنوار التنزيل وأسرار التأويل في التفسير، وطوالع الأنوار في العقيدة، مات سنة 685 هـ، له ترجمة في: طبقات الداوودي 1/ 248، البداية والنهاية 17/ 606.
(2)
تفسير البيضاوي 3/ 161، وينظر: لسان العرب 8/ 146، فتح القدير 2/ 494.
(3)
ينظر: المحلى 13/ 76.
(4)
ينظر: الكشاف 2/ 281.
(5)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 173.
وإلا فقد قال الجصاص في لفظ رواية: (" لأزيدن على السبعين " وهذا خطأ من راويه)
(1)
، والذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:" لو أعلم أني لو زدت على السبعين يُغفر له، لزدت عليها "
(2)
، فلم يعلق زيادة الاستغفار بالدليل، وإنما علقه بوجود طريق يعلم به أن الزيادة على السبعين تنفعهم
(3)
.
ومما يؤيد ذلك كله:
ما جاء في تمام الآية، حيث قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} [التوبة:80]، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل المغفرة للكفار مع علمه بأنه لا يغفر لهم، وقد نهي عن ذلك بقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ هُوَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة:113]، إلا أن هناك معنى آخر
(4)
. والله أعلم.
قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة:104].
66/ 6 - قال ابن عقيل: ({عَنْ عِبَادِهِ} أي: من عباده اهـ)
(5)
.
(1)
أحكام القرآن 3/ 185.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين (1366) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3)
ينظر: الواضح 3/ 274، أحكام القرآن للجصاص 3/ 185، المحرر الوجيز 3/ 64.
(4)
سبقت الإشارة إلى شيء من المعاني المحتملة وإنما هي على فرض صحة رواية: " لأزيدن ".
(5)
الواضح 1/ 123.
الدراسة:
مثَّل ابن عقيل لاستعمال [عن] بمعنى [من] بهذه الآية، وهو قول أبي يعلى
(1)
، والزمخشري
(2)
، وابن عطية
(3)
، والرازي
(4)
، وابن هشام
(5)
، والزركشي
(6)
، وغيرهم
(7)
.
قال الزمخشري: (يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه، فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه، ومعنى قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه)
(8)
.
والشاهد على هذا الاستعمال قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:16] بدليل قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة:27]، وقوله تعالى:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]
(9)
.
والأصل في معنى [عن] هو المجاوزة، ومع هذا المعنى، فهناك معان أخرى كثيرة، تستفاد من خصوصية كل سياق ترد فيه، دون أن يخرج هذا الحرف عن دلالته الأصلية
(10)
.
فإن قيل: فما سبب استعمال [عن] مكان [من]؟.
فالجواب:
(1)
العدة 1/ 212.
(2)
الكشاف 4/ 227.
(3)
المحرر الوجيز 5/ 35.
(4)
التفسير الكبير 16/ 148.
(5)
مغني اللبيب ص 156، وهو عبدالله بن يوسف بن أحمد أبو محمد جمال الدين ابن هشام، من أئمة العربية، له تصانيف كثيرة منها: الإعراب عن قواعد الإعراب، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، مات سنة 761 هـ، له ترجمة في: الدرر الكامنة 3/ 93، شذرات الذهب 6/ 191.
(6)
البرهان في علوم القرآن 4/ 287.
(7)
ينظر: زاد المسير 3/ 375، معجم حروف المعاني في القرآن الكريم 2/ 676.
(8)
الكشاف 4/ 227.
(9)
ينظر: مغني اللبيب ص 156.
(10)
ينظر: مغني اللبيب ص 156، معجم حروف المعاني في القرآن الكريم 2/ 667، من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم ص 325.
أن في استعمال [عن] في هذا الموضع تضمين الآية معنى العفو والصفح والتجاوز
(1)
.
أشار إلى هذا السمرقندي بقوله: (قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25] حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة)
(2)
.
كما أن في استعمال [عن] إشارة إلى تجاوز المذنب لحدوده، فهو بحاجة إلى استحضار هذا المعنى ليستوفي شروط التوبة فيحصل له القبول
(3)
.
وقال أبو حيان: ({عَنْ عِبَادِهِ} أي: يزيد الرجوع عن المعاصي)
(4)
.
وبتتبع قَبِل وتَقَبَّل في القرآن نجد أنهما تعديا بـ[من] إلا في ثلاثة مواضع كلها في سياق التوبة والتجاوز عن السيئات:
أحدها: آية التوبة التي معنا، وثانيها: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى:25]، وثالثها: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:16].
فكان من حِكَم اختيارها إفادة معنى زائد لا يوجد عند استعمال [من] في موضعها، فقد أفادت معنى [من] وزادت عليها محو الذنوب وصرفها عنهم فضلاً منه ورحمة، وكأن الله ميز الأعمال الصالحة وعزلها عن الأعمال السيئة، فقبل الطيب منها وتجاوز عن السييء
(5)
.
(1)
ينظر: البرهان في علوم القرآن 3/ 339.
(2)
تفسير السمرقندي 3/ 231.
(3)
ينظر: التفسير الكبير 16/ 148.
(4)
البحر المحيط 7/ 517.
(5)
ينظر: من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم ص 325.
67/ 7 - قال ابن عقيل: ({وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117]، فلعمري إنها مزية وحجة في البداية بذكرهم، لكن ما أراد به الترتيب بدليل أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بنيان المسجد وهو يحمل اللبن
(1)
:
• لا عيش إلا عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة "
(2)
، ولو عقل منها الترتيب، لما خالف ترتيب القرآن اهـ)
(3)
.
الدراسة:
في كلام ابن عقيل مسألتان:
المسألة الأولى:
هل [الواو] تفيد الترتيب أم لا؟.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
(1)
روي هذا الرجز: وهم يبنون المسجد وكذلك عند حفر الخندق وكلاهما في الصحيح.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا (2961) بنحوه، ومسلم في كتاب الجهاد وسير أعلام النبلاء باب غزوة الأحزاب وهي الخندق (1805) بلفظه من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
الواضح 3/ 307.
القول الأول: أن الواو لا تفيد الترتيب وهو قول جمهور العلماء
(1)
، ورجحه ابن عقيل، واحتجوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان "
(2)
، قالوا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وأمره بأحدهما ونهاه عن الأخرى، فعلم أن أحدهما يوجب الجمع والآخر الترتيب.
القول الثاني: أنها توجب الترتيب وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي
(3)
، واحتجوا: بما روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال حينما خطب رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله "
(4)
، قالوا: يعصهما يفيد الجمع، فالواو تفيد الترتيب لأنه لا يجوز أن يكون المنهي عنه هو المأمور به.
(1)
ينظر: العدة 1/ 194، رصف المباني ص 474، الجنى الداني ص 158، مغني اللبيب ص 343، شرح الكوكب المنير 1/ 229.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب لا يقال خبثت نفسي (4980) وأحمد 5/ 384، وصححه الأرنؤوط في تحقيق المسند 38/ 300.
(3)
البرهان 1/ 181، البحر المحيط للزركشي 2/ 253، الجنى الداني ص 159، مغني اللبيب ص 343.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (870) من حديث عدي رضي الله عنه.
والقول الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب فحسب، بمعنى أن الواو تفيد: القدر المشترك بين الترتيب والمعية، فيدخل فيه جميع معاني الواو: المعية والترتيب وعدمه، والفاصل في ذلك حال المقام
(1)
، والجواب عما استدلوا به: أنه إنما أمره بذلك لئلا يجمع بين ذكر الله وذكر رسوله في ضمير واحد فهذا هو المنهي عنه، ولهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، ولم يقل: يرضوهما.
ولأنه لو قال قائل: رأيت زيداً وعمراً، لم يفهم منه أنه رأى زيداً قبل عمرو، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب إذا رآهما معاً، أو رأى عمراً قبل زيد أن يكون كاذباً في خبره، ولكنه يفيد الجميع
(2)
.
المسألة الثانية:
أكد ابن عقيل - بقوله: لعمري التي تفيد التأكيد وليس القسم إذ لا يجوز القسم إلا بالله تعالى أو صفاته
(3)
- أن في هذه الآية مزية للمهاجرين في تقديمهم على الأنصار، ولا يلزم من ذلك أن تكون الواو للترتيب، بدليل تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار في رجزه مع الصحابة رضي الله عنهم ففهم منه أن الواو ليست للترتيب، ولهذا أشير لمسألة تفاضل الصحابة باختصار فأقول:
(1)
ينظر: الجنى الداني ص 158، شرح الكوكب المنير 1/ 29.
(2)
ينظر: العدة 1: 194، الجنى الداني ص 158، الإتقان 1/ 379.
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/ 40.
أولاً: أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول، ثم الذين يلونهم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "
(1)
، وجاءت تزكيتهم في القرآن في غير ما موضع، ومنها قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة:100]، وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة
(2)
.
ثانياً: أن الصحابة رضي الله عنهم أصناف، ومن أصول أهل السنة والجماعة قبول ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم؛ فَيُقَدِّمون إجمالاً السابقين الأولين من المهاجرين ثم من الأنصار، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل الثبات في غزوة الأحزاب التي نجم فيها النفاق، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم من هاجر من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى
(3)
.
قال شيخ الإسلام: (وتفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم تفضيل الأفراد على كل فرد، فإن القرن الثالث والرابع فيهم من هو أفضل من كثير ممن أدرك الصحابة)
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2651)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2)
ينظر: الصواعق المحرقة ص 315.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى 3/ 152، الصواعق المحرقة ص 323، معارج القبول 3/ 1196.
(4)
منهاج السنة 7/ 240.
ثالثاً: أما التفضيل تفصيلاً فهم متفاوتون، والمعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها أن أفضل الصحابة: الخلفاء الأربعة
(1)
، وأفضلهم: أبو بكر، ثم عمر
(2)
، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم
(3)
، لما جاء من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أحب إليك؟ قال: " عائشة ". فقلت: من الرجال؟ قال: " أبوها "، فقلت: ثم من؟ فقال: " عمر بن الخطاب "
(4)
.
ثم بعد أبي بكر و عمر: عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. قال ابن أبي العز: (وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل، كترتيبهم في الخلافة)
(5)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)
(6)
.
(1)
والذي استقر عليه أمر أهل السنة: أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ينظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 727.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى 11/ 222، شرح النووي على مسلم 13/ 533.
(3)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 710.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً "(3662)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384).
(5)
شرح العقيدة الطحاوية 2/ 727.
(6)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3698).
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء علي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح، ثم من صلى القبلتين، ثم عموم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال محمد بن عبدالوهاب
(2)
: (وأومن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم)
(3)
.
وهذا التفاضل لا ينقص قدر أحد منهم كما قد يرد عند بعض الناس.
قال شيخ الإسلام: (الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته أو دخول الهوى والفرية في ذلك كما فعلت الرافضة و النواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم)
(4)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة:122].
(1)
ينظر: شرح السنة للبربهاري ص 68.
(2)
هو الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان التميمي، كان حافظاً ذكياً فتعلم الكثير وانطلق للدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، ونفع الله به كثيراً وفي مصنفاته، ومنها: الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، وغيرها، مات سنة 1206 هـ، له تراجم في عدة مصادر، فلينظر: محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه للأستاذ مسعود الندوي ص 37 وما بعدها.
(3)
مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب 1/ 10.
(4)
منهاج السنة 7/ 257.
68/ 8 - قال ابن عقيل: (جعل الله تعالى طلب العلم فرضاً على الكفاية بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122]، بعد قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] اهـ)
(1)
.
الدراسة:
استفاد ابن عقيل من هذه الآية أن طلب العلم فرض على الكفاية، وهو استنباط صحيح
(2)
، ولكنه ليس في كل العلوم بل في نوع منها، فإذا بحثنا عن الحكم الشرعي لطلب العلم وجدنا أنه يختلف باختلاف الحاجة إليه
(3)
، فمنه ما هو فرض، ومنه ما هو محرم، والفرض منه ما هو على الكفاية، ومنه ما هو على الأعيان، وقد نقل ابن عبدالبر الإجماع على أن من العلم ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، واختلفوا في تلخيص ذلك
(4)
.
فأقسام العلم الشرعي ثلاثة:
القسم الأول: العلوم التي تعلمها فرض عين هي ما لا يسع الإنسان جهله من الفرائض كالشهادتين، والصلاة، وأركان الإسلام وما لا تتم إلا به، والمحرمات التي نص عليها الكتاب، أو السنة، أو أجمعت الأمة على تحريمه.
القسم الثاني: العلوم التي تعلمها فرض كفاية هي ما لا بد للناس منها في إقامة دينهم من العلوم الشرعية، كحفظ القرآن والأحاديث، وعلومهما والأصول، والفقه، واللغة والتصريف، ومعرفة رواة الحديث، والإجماع، والخلاف، وكذلك العلوم التي يُحتاج إليها في قوام أمر الدنيا كالطب، والحساب، والصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة، والفلاحة ونحوهما
(5)
.
(1)
الواضح 5/ 459.
(2)
جامع بيان العلم وفضله ص 11.
(3)
ينظر: الآداب الشرعية 2/ 33.
(4)
ينظر: جامع بيان العلم وفضله ص 10.
(5)
ينظر: المجموع 1/ 51.
وحجتهم فيه ما احتج به ابن عقيل وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122]، فألزم النفير في ذلك البعض دون الكل ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم
(1)
.
قال الزمخشري: ({وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] اللام لتأكيد النفي، ومعناه: أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح، ولا ممكن، وفيه: أنه لو صح وأمكن، ولم يؤد إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة)
(2)
.
وقال القرطبي: (هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة، والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر، فيتركوه وحده، فلو لا نفر بعدما علموا أن النفير لا يسع جميعهم من كل فرقة منهم طائفة وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموهم، وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان)
(3)
.
القسم الثالث: العلوم التي تعلمها على الاستحباب، كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية.
(1)
ينظر: جامع بيان العلم وفضله ص 11.
(2)
الكشاف 2/ 308.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 8/ 293، وينظر: التسهيل 1/ 373، روح المعاني 11/ 56.
هذه أقسام العلم الشرعي، ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم كتعلم السحر، ومنه ما هو مكروه كأشعار الغزل، ومنه ما هو مباح كالأشعار التي ليس فيها ما يعين على خير ولا شر
(1)
، وبهذا فقد حوى العلم جميع الأحكام التكليفية على حسب نوع العلم. والله أعلم.
سورة يونس
قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} [يونس:46].
69/ 1 - قال ابن عقيل: ({فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} بمعنى: والله شهيد على فعلهم حال فعلهم لا مرتباً على فعلهم، ويحتمل أن تكون على أصلها للتراخي بكون شهود الباري متراخياً عن وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال:{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} [يونس:46] اهـ)
(2)
.
_
الدراسة:
في كلام ابن عقيل مسألتان:
المسألة الأولى:
أن [ثم] حرف عطف يفيد الترتيب، ويقتضي تأخر ما بعده عما قبله
(3)
؛ إما تأخيراً بالذات أو بالمرتبة أو بالوضع
(4)
، وهذا هو مذهب الجمهور
(5)
.
وذهب جماعة من العلماء إلى أن [ثم] بمنزلة [الواو] لا ترتب، تمسكاً بقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6] ومعلوم أن هذا الجعل كان قبل الخلق، والجواب على هذا من عدة أوجه:
(1)
ينظر: المجموع 1/ 52، حاشية ابن عابدين 1/ 127.
(2)
الواضح 1/ 116، 3/ 302.
(3)
ينظر: العدة 1/ 199، مغني اللبيب ص 126.
(4)
ينظر: بصائر ذوي التمييز 2/ 344.
(5)
ينظر: الجنى الداني ص 426.
1 -
أن العطف على محذوف، أي من نفس واحدة، أنشأها ثم جعل منها زوجها.
2 -
أن العطف على: {وَاحِدَةٍ} [الزمر:6] على تأويلها بالفعل، أي: من نفس توحدت، أي: انفردت، ثم جعل منها زوجها.
3 -
أن الذرية أخرجت من ظهر آدم عليه السلام كالذر، ثم خلقت حواء.
4 -
أن حواء من آدم، ولأنه لم تجر العادة بمثله جيء بـ[ثم] إيذاناً بترتبه في الإعجاب، وظهور القدرة، لا لترتيب الزمان وتراخيه.
5 -
أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم
(1)
.
المسألة الثانية:
ذكر ابن عقيل أن [ثم] بمعنى [الواو] في قوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} [يونس:46]، وهذا هو ما فسر به أكثر العلماء
(2)
، قالوا: يتعذر العمل بحقيقة [ثم] لأنه تعالى شهيد على ما يفعلون قبل رجوعهم إليه، كما هو شهيد بعد ذلك فكانت [ثم] بمعنى الواو
(3)
.
وذهب جماعة إلى أن [ثم] على بابها، وأشار ابن عقيل إلى احتماله، وهو الأولى لعدة أمور منها:
1 -
ما ذكره ابن عقيل، باحتمال كون الشهادة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما في أول الآية.
2 -
أن الأولى البقاء على أصل معنى [ثم]، وهو الترتيب مع التراخي، وسبق أن الترتيب لا يلزم أن يكون في الذوات فقط.
3 -
أنه لا محذور في هذا التفسير.
4 -
إمكان الإجابة على ما ذكروا من لازم تفسيرها على معناها الأصلي
(4)
، وذلك بما يلي:
(1)
مغني اللبيب ص 127، وينظر: الجنى الداني ص 430.
(2)
ينظر: معاني القرآن للفراء 1/ 466، تفسير السمعاني 2/ 387، معالم التنزيل 2/ 300.
(3)
ينظر: كشف الأسرار 2/ 133، أصول الفقه الإسلامي 1/ 386.
(4)
ومثلها الآية السابقة التي تمت الإجابة عليها.
• أنه لا ينفي شهادة الله تعالى قبل رجوعهم، فإن [ثم] قد تفيد الاستمرار والبقاء، كما في قوله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه:82]، أي: بقي على ذلك الهدى من التوبة والإيمان والعمل الصالح
(1)
.
• أن [ثم] قد تأتي لمجرد الترتيب في الذكر، وذكر الأولى ثم الأولى دون اعتبار الزمن، كما في قول الشاعر:
قُل لِمَن سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوه
…
قَبْلَهُ ثُمَّ قَبْلَ ذلك جَدُّه
(2)
فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح، فابتدأ بسيادته ثم بسيادة أبيه ثم
…
بسيادة جده، لأن سيادة نفسه أخص
(3)
.
• ذكر جمع من العلماء أن [ثم] في هذه الآية ذكرت لترتب الأخبار لا لترتيب الوجود
(4)
، وأنه يقال: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. أي ثم أخبرك أن ما صنعت أمس أعجب
(5)
.
• أن [ثم] تستعمل في الجمل خاصة، لاستبعاد مضمون ما بعدها عما قبلها، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام:1]، فالإشراك بخالق السماوات والأرض مستبعد، غير مناسب، وهذا المعنى فرع عن التراخي، وهو واقع في الآية التي معنا من الكفار حيث استبعدوا شهادة الله عليهم.
(1)
ينظر: شرح الرضي لكافية ابن الحاجب 2/ 1317.
(2)
هذا البيت لأبي نُواس الحسن بن هانئ، في قصيدة يمدح بها العباس بن أبي جعفر، ينظر: شرح ديوانه 1/ 355.
(3)
شرح الرضي لكافية ابن الحاجب 2/ 1316.
(4)
ينظر: التبيان في إعراب القرآن 1/ 86، المحرر الوجيز 3/ 123، البرهان 4/ 266، شرح الكوكب المنير 1/ 237.
(5)
ينظر: مغني اللبيب ص 127.
• أن يكون هذا من إقامة العلة مقام المعلول فيكون التقدير: ثم نعذبهم لأن الله شهيد عليهم
(1)
.
• أن تكون الشهادة ذكرت والمراد: مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون، أو بإنطاق جوارحهم
(2)
(3)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87].
70/ 2 - قال ابن عقيل: ({قِبْلَةً}: جهة للطاعات ومستقبلاً لله سبحانه في العبادات، ومن كان مأموراً أن يجعل بيته قبلة، وهو موضع الغفلة ومناخ البطالة، أولى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادات محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا، وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأسواقاً، وجعلوا بيوتهم قبوراً اهـ)
(4)
.
__
الدراسة:
أشار ابن عقيل إلى مسألتين:
المسألة الأولى:
المراد بالبيوت، وقد ذكر العلماء أقوالاً فيها تداخل، وسأعرض للخلاف من أقرب طريق:
فأقول:
اختلف العلماء في معنى البيوت على قولين:
(1)
شرح الرضي لكافية ابن الحاجب 2/ 1317.
(2)
ينظر: الكشاف 2/ 333، تفسير البيضاوي 3/ 201، تفسير أبي السعود 3/ 246، فتح القدير 2/ 572.
(3)
ينظر في الخلاف: زاد المسير 4/ 28، تفسير النسفي 2/ 166، التسهيل 1/ 382، روح المعاني 11/ 129.
(4)
الفنون 1/ 283.
القول الأول: أنها المساجد، أي: اجعلوا مساجدكم جهة القبلة، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك
(1)
، وربما حملهم على هذا وقوع قوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس:87] بعده، وأن المساجد تسمى بيوتاً كما في قوله جل وعلا:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وهذا قول محتمل، ولكنه بعيد؛ لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريباً بإذنه، وحالة القوم مع فرعون لا تناسب هذا التفسير
(2)
.
القول الثاني: أنها بيوت السكنى واختلفوا على قولين:
الأول:
وهو قول ابن عقيل أن المراد: اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم وعباداتكم، وهو مروي عن ابن عباس، والنخعي، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد
(3)
.
الثاني:
أن المراد اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً، وهو قول سعيد بن جبير
(4)
.
والقول الراجح:
هو ما ذكره ابن عقيل بأن المراد: اجعلوا بيوتكم محلاً للطاعة والعبادة؛ وذلك لعدة أمور منها:
1 -
أن الأصل في إطلاق لفظ البيوت على بيوت السكنى، ولم يرد دلالة تدل على غير هذا
(5)
.
2 -
الحال التي كان عليها بنو إسرائيل من الخوف من فرعون وملئه تجعلهم لا يستطيعون الخروج للمساجد، لقوله تعالى قبلها:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83].
3 -
ما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: (كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم)
(6)
.
(1)
ينظر: جامع البيان 12/ 258.
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 371، التحرير والتنوير 11/ 265.
(3)
جامع البيان 12/ 255 وما بعدها، على اختلاف في ألفاظ أقوالهم.
(4)
جامع البيان 12/ 260.
(5)
ينظر: جامع البيان 12/ 260، التحرير والتنوير 11/ 265.
(6)
جامع البيان 12/ 255.
4 -
أن فرعون أمر بتخريب المساجد؛ فأُمر موسى وأخوه باتخاذ البيوت مساجد لتخفى عن فرعون
(1)
.
5 -
أن هذا القول هو المناسب للتبوؤ؛ لأن التبوؤ: السكنى
(2)
.
وهذا هو ما رجحه الفراء
(3)
، والطبري
(4)
، والواحدي
(5)
، والسعدي
(6)
، وغيرهم
(7)
.
…
وقد جاء في شرعنا الأمر بالإكثار من صلاة النافلة في البيوت وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، كما جاء عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة "
(8)
.
قال الشوكاني
(9)
: (الحديث يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت، وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس)
(10)
.
(1)
معاني القرآن للفراء 1/ 477.
(2)
ينظر: لسان العرب 1/ 38، التحرير والتنوير 11/ 265.
(3)
معاني القرآن 1/ 477.
(4)
جامع البيان 12/ 260.
(5)
الوجيز 1/ 506.
(6)
تفسير السعدي 3/ 382.
(7)
ينظر في هذه المسألة: معاني القرآن للنحاس 3/ 310، تفسير السمرقندي 2/ 128، النكت والعيون 2/ 447، زاد المسير 4/ 42، الجامع لأحكام القرآن 8/ 371، التحرير والتنوير 11/ 265.
(8)
أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة باب صلاة الليل (731) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(9)
هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني أبو عبدالله الصنعاني، فقيه مجتهد، ومن تصانيفه: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، فتح القدير، مات سنة 1250 هـ، له ترجمة في: البدر الطالع 2/ 106، الأعلام 6/ 298.
(10)
نيل الأوطار 3/ 74.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً "
(1)
.
وقد بوب البخاري في صحيحه: (باب المساجد في البيوت)، وذكر فيه حديث عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً من الأنصار رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سأفعل إن شاء الله " قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال:" أين تحب أن أصلي من بيتك " قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم
…
الحديث
(2)
.
المسألة الثانية:
أن المأمور بجعل بيته مكاناً للطاعة أولى أن يَعْقِل ذلك في المساجد.
وهذه لفتة لطيفة من ابن عقيل حيث ذكر أنه رأى في أهل زمانه من جعل المسجد سوقاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ومما جاء في ذلك:
(1)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (778).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب المساجد في البيوت (425)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (33) من حديث عتبان رضي الله عنه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك "
(1)
.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن الشراء والبيع في المسجد "
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا "
(3)
.
وكذلك رأى ابن عقيل في وقته من جعل بيته قبراً، وقد جاءت النصوص في النهي عن هذا ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة "
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً "
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب النهي عن البيع في المسجد (1321)، وقال: حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة 2/ 274 (1305).
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة (1079)، وصححه ابن خزيمة 2/ 274 (1304).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد (568).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب التطوع في البيت (1187)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (777) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
قال ابن تيمية: (يعني: أن القبور موضع الموتى، فإذا لم تصلوا في بيوتكم ولم تذكروا الله فيها كنتم كالميت، وكانت كالقبور، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ". وفي لفظ: " مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت "
(1)
)
(2)
.
ففي مجمل هذه الآية توجيه لمن وقع في ذلك وتنبيه له بأنه قد قصر وخالف وعكس ما أمر به، ولا ريب أن في هذه الفائدة المستنبطة من الآية توجيه لنا أيضاً ولمن بعدنا فقد زاد في وقتنا أضعافاً مما رأى ابن عقيل، والله المستعان.
سورة هود
قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود:14].
71/ 1 - قال ابن عقيل: ({فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، أي: أنزل من علم الله اهـ)
(3)
.
(1)
أخرج اللفظ الأول البخاري في كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله عز وجل (6407)، وأخرج اللفظ الثاني مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (779) كلاهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
الفتاوى الكبرى 3/ 73.
(3)
الواضح 1/ 122.
الدراسة:
فسر ابن عقيل [الباء] في الآية بمعنى [من]، وهو مستعمل في العربية، تقول العرب: شربت بماء كذا، أي من ماء كذا
(1)
، وكقوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]، أي منها
(2)
.
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أنزله وهو عالم بإنزاله، وعالم بأنه حق من عنده
(3)
.
والثاني: أَنزله فيه عِلْمُه الذي لا يعلمه البشر عما سلف وما سيكون، مما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً ليدل على أنه من عند الله
(4)
.
أما الأول: وإن كان محتملاً؛ فبعيد؛ لأنه لا يضيف معنى جديداً أن ينزله الله وهو يعلمه.
ويبقى الثاني هو الأرجح: وهو قول جمهور العلماء.
قال شيخ الإسلام: (وليس معنى مجرد كونه أنزله: أنه هو معلوم له؛ فإن جميع الأشياء معلومة له، وليس في ذلك ما يدل على أنها حق، لكن المعنى: أنزله فيه علمه كما يقال: فلان يتكلم بعلم، ويقول بعلم، فهو سبحانه أنزله بعلمه كما قال: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان:6])
(5)
.
(1)
ينظر: لسان العرب 1/ 487.
(2)
على رأي الكوفيين، ينظر: تأويل مشكل القرآن ص 302، العدة 1/ 211، مغني اللبيب ص 114. وقيل: الباء صلة، ينظر: المحرر الوجيز 5/ 410. وقيل: على معناها الأصلي والفعل يشرب مضمن معنى آخر وهو مذهب البصريين، بمعنى: يروى أو يتلذذ بها عباد الله، وهذا أمتن في اللغة، وأعمق في البلاغة، ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/ 126، مغني اللبيب ص 114، و ينظر: ص 551.
(3)
ينظر: الوجيز 1/ 515.
(4)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه 3/ 42، الصواعق المرسلة 3/ 877، فتح القدير 2/ 619.
(5)
مجموع الفتاوى 14/ 196.
ثم إن الجمهور اختلفوا: فبعضهم يفسر [الباء] بـ[من]
(1)
، أي: إنما أنزل من علم الله، وبهذا فسرها ابن عقيل.
قال شيخ الإسلام: (وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، قال الزجاج: أنزله وفيه علمه، وقال أبو سليمان الدمشقي: أنزله من علمه، وهكذا ذكر غيرهما، وهذا المعنى مأثور عن السلف)
(2)
.
وبعضهم يفسر [الباء] بمعناها الأصلي: وهو الإلصاق
(3)
، وهو أقرب للصواب، وأقوى في الدلالة؛ فيكون المعنى: أنزله وفيه علمه
(4)
.
قال ابن القيم: (وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، أي: أنزله وفيه علم لا يعلمه البشر، فالباء للمصاحبة، مثل قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، أي: أنزل وفيه علم الله، وذلك من أعظم البراهين على صحة نبوة من جاء به، ولم يصنع شيئاً من قال: إن المعنى أنزله وهو يعلمه، وهذا وإن كان حقاً فإن الله يعلم كل شيء، فليس في ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوى، فإن الله يعلم الحق والباطل، بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمناً لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه عليه وأعلمه به)
(5)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)} [هود:45].
(1)
ينظر: العدة 1/ 212، تفسير السمرقندي 2/ 141، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ص 55.
(2)
مجموع الفتاوى 16/ 464.
(3)
ينظر: رصف المباني ص 222، الجنى الداني ص 46.
(4)
ينظر: الكشاف 2/ 364، تفسير البيضاوي 3/ 225، معالم التنزيل 2/ 317، تفسير النسفي 2/ 182، روح المعاني 12/ 21.
(5)
الصواعق المرسلة 3/ 877.
72/ 2 - قال ابن عقيل: (قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] تمسكاً بقوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون:27]، وقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلَّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود:40] فأجابه الباري سبحانه عن ذلك جواب تخصيص لا جواب نكير عليه ما تعلق به العموم، فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، فدل على أن اللفظة عموم، ولولا دليل أخرج ابنه من أهله؛ لكان داخلاً تحت اللفظ اهـ)
(1)
.
_
الدراسة:
استدل ابن عقيل بالآية على أن صيغة العموم تدل على شمول الجنس الذي أطلقت عليه، وهذا قول جمهور الفقهاء والأصوليين
(2)
، ووجه الاستدلال: أن نوحاً عليه السلام دعا ربه نجاة ابنه إتماماً لوعده بنجاة أهله، فأجابه الباري جواب تخصيص لا نكير، إنه ليس ممن وعدت بنجاتهم لأنه ممن سبق عليهم القول، وكانت أعماله غير صالحة، فدل على صحة استدلاله بالعموم، ولولا أن الدليل أخرج ابنه، لكان داخلاً في عموم أهله.
وبهذا المعنى فسرها عامة المفسرين.
(1)
الواضح 3/ 314.
(2)
ينظر تفصيل المسألة والموافقة في الاستدلال: العدة 2/ 485، شرح الكوكب المنير 3/ 108.
قال السمعاني: (قوله سبحانه وتعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)} [هود:45]، يعني: أنت وعدتني أن تنجي أهلي، وأنت أحكم الحاكمين، يعني: وأنت أحكم الحاكمين بالعدل، قال الله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، معناه: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم)
(1)
.
وقال ابن كثير: (هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك الحق الذي لا يخلف؛ فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين، {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] أي: الذين وعدت إنجاءهم؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود:40])
(2)
. والله أعلم.
قال تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
73/ 3 - قال ابن عقيل: ({مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا}، أي: لا نفهم اهـ)
(3)
.
الدراسة:
فسر ابن عقيل الفقه: بالفهم، وهذا هو ما فسره به جمع من المفسرين وغيرهم
(4)
.
(1)
تفسير السمعاني 2/ 433، وينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 45، فتح القدير 2/ 640.
(2)
تفسير ابن كثير، وينظر: زاد المسير 4/ 87، تفسير الثعالبي 2/ 207، تفسير السعدي 3/ 427.
(3)
الواضح 1/ 7.
(4)
ينظر: تفسير البيضاوي 3/ 256، معالم التنزيل 2/ 336، الكشاف 2/ 399، التسهيل 1/ 404، لسان العرب 13/ 522، الجلالين ص 232.
قال السمعاني: ({مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، معناه: ما نفهم)
(1)
.
وقال الرازي: (يفقهون: يفهمون)
(2)
.
وفسره آخرون: بالعلم
(3)
.
قال الطبري: ({مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول)
(4)
.
ولا اختلاف بين هذا ولا هذا، فالفقه عند التأمل في مواضع وروده في كتاب الله؛ نجد أنه يستعمل بمعنى الفهم، ومنه قوله تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] على القول بأن التسبيح: حقيقة وهو الصواب، ويستعمل بمعنى العلم
(5)
، ومنه قوله تعالى:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]، ويستعمل في معنى أخص من العلم والفهم، وهو التوصل إلى علم ما كان غائباً بعلم شاهد
(6)
، ومنه قوله تعالى:{مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، وبهذا تنتظم الأقوال، وعند إطلاق العلماء لواحد منها عند تفسير آية فغالباً ما يقيده بما يدل على ما ذكرت.
ولذا فسر بعضهم الآية التي معنا بقولهم: لا نعقل ما تقول
(7)
.
قال ابن كثير: ({مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، أي: ما نفهم ولا نعقل كثيراً من قولك)
(8)
.
وقال ابن عطية: (ومعنى: ما نفقه ما تقول، أي: ما نفقه صحة قولك، وأما فقههم لفظه ومعناه فمتحصل)
(9)
.
(1)
تفسير السمعاني 2/ 453.
(2)
تفسير غريب القرآن ص 526.
(3)
الواضح 1/ 7.
(4)
ينظر: جامع البيان 12/ 552.
(5)
ينظر: معجم مقاييس اللغة 4/ 442، المفردات ص 430، تفسير غريب القرآن ص 526.
(6)
ينظر: المفردات ص 430، وينظر: بصائر ذوي التمييز 4/ 210.
(7)
ينظر: تفسير السمرقندي 2/ 167.
(8)
تفسير ابن كثير 4/ 1808.
(9)
المحرر الوجيز 3/ 202، وينظر: تفسير أبي السعود 3/ 345.
وقال النسفي: ({قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] أي: لا نفهم صحة ما تقول، وإلا فكيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء)
(1)
.
وقال الشوكاني: (ولا نفقه ذلك، أي: نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة)
(2)
.
ولما لم يُفَصَّل هذا التفصيل ذكر بعض العلماء أجوبة عن عدم فهمهم لكلامه، مع أنه يخاطبهم بلسانهم.
ومنها: قولهم: إن المراد: ما نفهم كثيراً مما تقول؛ لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه.
وقول بعضهم: إنهم فهموه بقلوبهم، ولكنهم ما أقاموا له وزناً فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول.
وقال بعضهم: إن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث، وما يجب من ترك الظلم والسرقة فقولهم ما نفقه أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب
(3)
. والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود:114].
74/ 4 - قال ابن عقيل: (نزلت في الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن استمتاعه من المرأة الأجنبية بكل ما يستمتع به الرجل من زوجته إلا الجماع؛ فأنزل الله هذه الآية اهـ)
(4)
.
(1)
تفسير النسفي 2/ 202.
(2)
فتح القدير 2/ 622.
(3)
ينظر: التفسير الكبير 18/ 40، وينظر: الوجيز 1/ 531، روح المعاني 12/ 123.
(4)
الواضح 5/ 26.
الدراسة:
ذكر ابن عقيل فيمن نزلت هذه الآية، وهو كما قال، فقد روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فأنزل الله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: ألي هذه؟ قال: " لجميع أمتي كلهم "
(1)
.
وكلام ابن عقيل يشير إلى ما رواه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً لقي امرأة وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئاً إلى امرأته إلا قد أتى هو إليها، إلا أنه لم يجامعها، قال فأنزل الله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فأمره أن يتوضأ ويصلي، قال معاذ: فقلت يا رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال:" بل للمؤمنين عامة "
(2)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
75/ 5 - قال ابن عقيل: ({إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] قيل في التفسير: الصلوات الخمس يكفرن ما بينهن، والأحاديث في ذلك كثيرة اهـ)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة كفارة (525)، ومسلم في كتاب التوبة باب قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114](2763)، وينظر: أسباب النزول ص 217، لباب النقول ص 168.
(2)
سبق تخريجه، ينظر:195.
(3)
الواضح 3/ 23.
الدراسة:
اختلف العلماء في المراد بالحسنات في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنها الصلوات الخمس، وهو قول ابن عقيل، وعليه جمهور العلماء
(1)
.
قال ابن عطية: (وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس)
(2)
.
القول الثاني: أن المراد بالحسنات: قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهو مروي عن مجاهد
(3)
.
قال ابن عطية: (وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات)
(4)
.
والقول بالعموم قول قوي جداً إلا أن المرجحات للقول الأول - وهو أن المراد بها الصلوات الخمس - تجعله أقوى وأرجح، ومنها:
1 -
سبب النزول
(5)
، وقد سبق ذكره
(6)
.
قال القرطبي: (سبب النزول يعضد قول الجمهور)
(7)
.
وكما قال شيخ الإسلام: (معرفة سبب نزول القرآن، يعين على فهم الآية)
(8)
.
ومن قواعد الترجيح عند المفسرين: قاعدة (إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير)
(9)
.
2 -
كذلك سياق الآيات في أمر الله بإقامة الصلوات؛ حيث يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
(1)
جامع البيان 12/ 616، زاد المسير 4/ 129، الجامع لأحكام القرآن 9/ 110.
(2)
المحرر الوجيز 3/ 212.
(3)
جامع البيان 12/ 616.
(4)
المحرر الوجيز 3/ 213.
(5)
ينظر: معاني القرآن للنحاس 3/ 386، أسباب النزول ص 217، لباب النقول ص 168.
(6)
ينظر: ص 314.
(7)
الجامع لأحكام القرآن 9/ 110.
(8)
مقدمة التفسير ص 45.
(9)
ينظر: قواعد الترجيح عند المفسرين 1/ 241.
قال الطبري: (فالوعد على إقامتها الجزيلَ من الثواب عقيبها، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من سائر صالحات الأعمال)
(1)
.
3 -
صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترها في أن الصلاة مكفرة كما أشار إلى ذلك ابن عقيل، ومنها: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال: " من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه "
(2)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يُبقِي من دَرَنِه؟ " قالوا: لا يُبْقِي من دَرَنِه شيئاً، قال:" فذلك مَثَل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا "
(3)
.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "
(4)
(5)
.
(1)
جامع البيان 12/ 617.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً (159)، ومسلم في كتاب الطهارة باب صفة الوضوء وكماله (226).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات (667).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (233).
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى 7/ 489، تفسير ابن كثير 4/ 1815.
4 -
أن جمهور العلماء على ترجيحه
(1)
، منهم الطبري حيث قال:(وأولى التأويلين بالصواب في ذلك قول من قال في ذلك: هن الصلوات الخمس)
(2)
.
وقال ابن الجوزي: (والأول أصح لأن الجمهور عليه)
(3)
. والله أعلم.
سورة يوسف
76/ 1 - قال ابن عقيل: ({إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36]، يريد به ما يصير خمراً، وإنما يعصر عصيراً اهـ)
(4)
.
الدراسة:
فسر ابن عقيل العصر بما يُعْصر، وذِكْر الخمر في الآية اعتباراً لما يؤول إليه العصير.
وهذا قول أكثر المفسرين
(5)
، وإنما كان المعنى كذلك لأن العرب تستعمل هذا في كلامها
(6)
، ومن تسمية الشيء بما يؤول إليه قولهم للمولود: يهنيك الفارس، تفاؤلاً بأن يكون فارساً
(7)
.
وأيدوا كلامهم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَباً)
(8)
.
(1)
ينظر: تفسير السمرقندي 2/ 174، تفسير السمعاني 2/ 465، معالم التنزيل 2/ 341.
(2)
جامع البيان 12/ 617.
(3)
زاد المسير 4/ 129.
(4)
الواضح 2/ 385.
(5)
ينظر: زاد المسير 4/ 171، تفسير البيضاوي 3/ 287، التفسير الكبير 5/ 24، البحر المحيط لأبي حيان 5/ 308.
(6)
ينظر: لسان العرب 4/ 255، بصائر ذوي التمييز 4/ 71.
(7)
الواضح 2/ 385.
(8)
أخرجه الطبري 13/ 154، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته المتواتر عنه رضي الله عنه.
وذهب بعضهم إلى أن الخمر في لغة أهل عمان: اسم للعنب؛ فيسمون العنب خمراً، وروي هذا عن الضحاك
(1)
.
وحكى أكثر المفسرين القولين بلا ترجيح، لأنه لا تعارض بينهما، والتفسير يحتملهما
(2)
.
قال البغوي: ({إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36]، أي: عنباً، سمي العنب خمراً باسم ما يؤول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الآجر
(3)
، أي: يطبخ اللَّبِن للآجر، وقيل: الخمر العنب بلغة عمان)
(4)
.
وقال الزمخشري: ({أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36]، يعني: عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه، وقيل: الخمر بلغة عمان: اسم للعنب)
(5)
.
وقال الكلبي: ({أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36]، قيل فيه: سمى العنب خمراً بما يؤول إليه، وقيل: هي لغة)
(6)
.
ومع كون الآية محتملة لما قيل فيها، وصحته فيها
(7)
، إلا أن القول الأول أظهر، وأقرب كما قال النحاس:(والأول أبينها، وأهل التفسير عليه)
(8)
.
وهو أسلوب عربي معروف
(9)
.
قال الرازي: (إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس، يقولون: فلان يطبخ دبساً
(10)
، وهو يطبخ عصيراً)
(11)
. والله أعلم.
(1)
ينظر: جامع البيان 13/ 155.
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 223، تفسير السمرقندي 2/ 192، تفسير السمعاني 3/ 30، المحرر الوجيز 3/ 243، تفسير النسفي 2/ 221، تفسير ابن كثير 4/ 1841.
(3)
الآجُرّ: هو الطوب الذي يبنى به، فارسي معرّب، ينظر: مختار الصحاح ص 16.
(4)
معالم التنزيل 2/ 357.
(5)
الكشاف 2/ 442.
(6)
التسهيل 1/ 415.
(7)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 190، النكت والعيون 3/ 36، البرهان 2/ 279.
(8)
معاني القرآن 3/ 426.
(9)
ينظر: لسان العرب 4/ 255.
(10)
الدبس: هو ما يسيل من الرطب، ينظر: مختار الصحاح ص 187.
(11)
التفسير الكبير 18/ 108.
77/ 2 - قال ابن عقيل: ({كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}، أردنا به وله اهـ)
(1)
.
الدراسة:
أشير في البداية إلى المعنى اللغوي للكيد فأقول:
قال ابن فارس: (الكاف والياء والدال أصل صحيح يدل على معالجةٍ لشيء بشدة، ثم يتسع الباب، وكله راجع إلى هذا الأصل)
(2)
.
وقال ابن منظور: (والكيد: الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيداً)
(3)
.
وقال البغوي: (الكيد: إرادة مضرة الغير الخفية، وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق)
(4)
.
فالكيد يطلق على المكر والحيلة
(5)
، كما قال تعالى:{فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، وقال سبحانه:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} [طه:60].
قال الراغب: (الكيد: ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموماً وممدوحاً، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر، ويكون بعض ذلك محموداً)
(6)
.
وقد فسر السلف الكيد في الآية بالكيد المحمود، وهو ما كان في مقابلة الفاعل بمثل فعله أو أشد، وهنا يكون صفة كمال تليق بالله سبحانه.
(1)
الفنون 2/ 659.
(2)
معجم مقاييس اللغة 5/ 149.
(3)
لسان العرب 3/ 383.
(4)
معالم التنزيل 2/ 370، وينظر: التعريفات ص 241.
(5)
ينظر: بصائر ذوي التمييز 4/ 399.
(6)
المفردات ص 495.
قال ابن كثير: ({كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه؛ لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة)
(1)
.
وقال ابن القيم: (المكر: إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: 1 - قبيح: وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه. 2 - وحسن: وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له، فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلاً منه وحكمة .. )
(2)
.
ولوازم قوله تعالى: {كِدْنَا} في هذه الآية كثيرة، ذكرها العلماء، ومنها:
الأول / أردنا به وله، وهو تفسير ابن عقيل، وأشار إليه الزركشي
(3)
.
الثاني / احتلنا له، والكيد: الحيلة، ذكره الجصاص وغيره
(4)
.
الثالث / صنعنا ليوسف، قاله الطبري، والقرطبي وغيرهما
(5)
.
الرابع / دبرنا له، ذكره الماوردي، وابن الجوزي
(6)
.
الخامس / علمناه، كما ذكر الزمخشري وغيره
(7)
.
(1)
تفسير ابن كثير 4/ 1852، وينظر: تفسير السعدي 4/ 48.
(2)
أعلام الموقعين 3/ 171، بدائع التفسير 2/ 460.
(3)
ينظر: البرهان 4/ 139.
(4)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 228، تفسير السمرقندي 2/ 203، تفسير السمعاني 3/ 52، التفسير الكبير 18/ 145.
(5)
ينظر: جامع البيان 13/ 263، الجامع لأحكام القرآن 9/ 236، التسهيل 1/ 422.
(6)
ينظر: النكت والعيون 3/ 64، زاد المسير 4/ 201.
(7)
ينظر: الكشاف 2/ 463، تفسير البيضاوي 3/ 301، تفسير النسفي 2/ 232.
ونسبة الكيد إلى الله سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء ولم يسم بالمريد والشائي، وكذا مكر ويمكر، وأكيد كيداً، ولا يقال الماكر والكائد؛ لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم
(1)
.
قال ابن تيمية: (وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ: المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك؛ بل مسميات هذه الأسماء إذا فُعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلاً، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، فكاد له كما كادت إخوته لما قال له أبوه: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق:15 - 16]
…
)
(2)
.
وقال أيضاً: (وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق:15 - 16]، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد)
(3)
. والله أعلم.
قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} [يوسف:82].
(1)
ينظر: شرح العقيدة الواسطية للفوزان ص 66، وشرح هراس ص 123.
(2)
مجموع الفتاوى 7/ 111.
(3)
مجموع الفتاوى 3/ 14.
78/ 3 - قال ابن عقيل: ({وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، معناه: سل أهل، فحذف أهلها المراد سؤالهم، وأقام القرية اهـ)
(1)
.
الدراسة:
ما ذكره ابن عقيل من التقدير هو المشهور في كتب التفسير
(2)
، إذ يستحيل عقلاً أن يوجه السؤال إلى القرية التي هي المباني.
قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] المعنى: قولوا لأبيكم: سل أهل القرية)، ولم يذكر فيها خلافاً
(3)
.
وقال الزركشي: (ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل؛ احتيج إلى ذكر دليله، والدليل تارة يدل على محذوف مطلق، وتارة على محذوف معين؛ فمنها: أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلاً إلا بتقدير محذوف، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، فإنه يستحيل عقلاً تكلم الأمكنة إلا معجزة)
(4)
.
وعده بعضهم من المجاز
(5)
، وليس كذلك عند كثير من الأصوليين القائلين بالمجاز في القرآن، وهذا هو المؤكد عند غيرهم؛ لأن حد المجاز لا يشمل مثل هذه الآية لأمرين:
1 -
أن إعراب المضاف إليه إعراب المضاف إذا حذف من أساليب اللغة العربية، ويكون المضاف إليه المذكور بمنزلة المضاف المحذوف
(6)
.
(1)
الواضح 2/ 385.
(2)
ينظر: جامع البيان 13/ 290، تفسير السمرقندي 2/ 206، تفسير السمعاني 3/ 56، الجامع لأحكام القرآن 9/ 246، معالم التنزيل 2/ 372.
(3)
زاد المسير 4/ 207.
(4)
البرهان 3/ 108.
(5)
يراجع الكلام عن المجاز عند تفسير قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93]، ينظر: ص 101 من هذا البحث.
(6)
منع جواز المجاز ص 64.
قال ابن عطية: (إن إسقاط المضاف في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، هو سائغ بسبب ما يُعقل من أن: اسأل القرية. لا تُسأل؛ ففي الظاهر دليل على ما أضمر)
(1)
.
وهذا الحذف كثير في اللغة العربية اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام
(2)
؛ وهو من إيجاز الحذف المحمود في الحديث، إذ لا يفهم منه غير المراد من غير استطراد
(3)
.
ولأجل تحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل حسن الإيجاز بنوعيه
(4)
.
2 -
ولأن القرية في هذا الموضع مستعملة في معناها الحقيقي، وإطلاق القرية وإرادة أهلها من أساليب اللغة العربية كذلك
(5)
، كما قال الطبري:(وقد تقول العرب: إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم؛ فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفاً بشجاعة، أو سخاء، أو ما أشبه ذلك من الصفات)
(6)
.
(1)
المحرر الوجيز 3/ 137.
(2)
ينظر: لسان العرب 15/ 177.
(3)
ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة ص 184.
(4)
أي: إيجاز الحذف، وإيجاز القصر، ينظر: المرجع السابق، التحرير والتنوير 1/ 122.
(5)
ينظر: منع جواز المجاز ص 63.
(6)
جامع البيان 2/ 266.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، قالوا المراد به: أهلها؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فقيل لهم: لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحال كلاهما داخل في الاسم، ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان، وتارة على المحل وهو المكان، وكذلك في النهر يقال: حفرت النهر وهو المحل، وجرى النهر وهو الماء، ووضعت الميزاب وهو المحل، وجرى الميزاب وهو الماء، وكذلك القرية: قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} [الأعراف:4 - 5]، وقال في آية أخرى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)} [الأعراف:97] فجعل القرى هم السكان، وقال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] وهم السكان، وكذلك قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف:59]، وقال تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] فهذا المكان لا السكان)
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى 7/ 112، 113.
بل كثير من المفسرين لم يذكروا هذا التفسير عند الآية في موضعها
(1)
؛ لوضوحه، وبعض المفسرين فُهم تفسيرهم من كثرة ضرب المثل بها عند آيات أخرى
(2)
. والله أعلم.
قال تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)} [يوسف:83].
79/ 4 - قال ابن عقيل: (والمراد بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]، يوسف وبنيامين وشمعون
(3)
الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] اهـ)
(4)
.
الدراسة:
أبان ابن عقيل أن المراد بالجمع في الآية الثلاثة، أي: يوسف وبنيامين والذي أقام في مصر.
(1)
من أولئك مثلاً: الزمخشري، وابن كثير، وأبو السعود.
(2)
فمثلاً: الطبري أشار إليها عند كلامه على قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] 2/ 266، والنحاس في مواضع كثيرة من معانيه فينظر مثلاً: 3/ 192، 4/ 245، 5/ 51، 6/ 191.
(3)
اختلفوا في اسم الأخ الأكبر، فابن عقيل: على أنه شمعون كما نص عليه، وأكثر المفسرين على أنه: روبيل، ينظر: جامع البيان 13/ 292، تفسير ابن كثير 4/ 1854، وبعضهم على أنه: يهوذا، ينظر: تفسير السمرقندي 2/ 206، تفسير السمعاني 3/ 57، وبعضهم على أن شمعون أخ آخر تخلف مع الأخ الأكبر، ينظر: زاد المسير 4/ 207، وذكروا أسماء أخر، وليس هذا محل البحث، وتحديد الاسم لا فائدة فيه؛ بل هو من الإسرائيليات التي لا نعلم في شرعنا تصديقه ولا تكذيبه، والتي قال عنها شيخ الإسلام:(وغالبه لا فائدة فيه) المقدمة ص 139، بل المهم في بحثنا: أن المراد في الآية أكثر من اثنين.
(4)
الواضح 3/ 430.
وهذا هو ما عليه عامة أهل التفسير
(1)
.
قال الطبري: (القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)} [يوسف:83].
قال أبو جعفر: في الكلام متروك، وهو: فرجع إخوة بنيامين إلى أبيهم، وتخلف روبيل فأخبروه خبره
…
) إلى أن قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)
(2)
.
قال القرطبي: (وقال: بهم؛ لأنهم ثلاثة: يوسف، وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل: فلن أبرح الأرض)
(3)
.
وقال ابن كثير: (ثم ترَجَّى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف، وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه؛ إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، ولهذا قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83])
(4)
. والله أعلم.
(1)
ينظر: تفسير البيضاوي 3/ 304، معالم التنزيل 2/ 372، زاد المسير 4/ 207، تفسير النسفي 2/ 234، فتح القدير 3/ 58، تفسير السعدي 4/ 51.
(2)
جامع البيان 13/ 292، وأخرج بسنده عن قتادة: أنه أراد الثلاثة.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 9/ 247.
(4)
تفسير ابن كثير 4/ 1854.
80/ 5 - قال ابن الجوزي: (كان ابن عقيل يقول: لم يتمن يوسف الموت، وإنما سأل أن يموت على صفة، والمعنى: توفني إذا توفيتني مسلماً اهـ)
(1)
.
الدراسة:
تبين من كلام ابن عقيل أنه يرجح عدم جواز تمني الموت، ولذلك وجه الآية التي قد يتبادر منها أن يوسف تمنى الموت.
وقد جاء النهي الصريح في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت حيث قال صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت في ضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي "
(2)
.
ولأجل هذا فقد ذكر العلماء في توجيه كلام يوسف أقوالاً كثيرة منها:
1 -
أن المراد: توفني إذا توفيتني مسلماً كما قال ابن عقيل وهو قول جمهور العلماء
(3)
.
قال القرطبي: (وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي: إذا جاء أجلي توفني مسلماً، وهذا قول الجمهور)
(4)
.
فليس في الآية تمني الموت وهذا هو المراد من التوجيه.
(1)
زاد المسير 4/ 225.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب الدعاء بالموت والحياة (6350)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (2680) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
ينظر: تفسير السمرقندي 2/ 212، تفسير الواحدي 1/ 561، الكشاف 2/ 478، المحرر الوجيز 3/ 283، تفسير ابن كثير 4/ 1862.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 9/ 269.
وعبر عنه بعضهم بقولهم: إن المراد من قول يوسف: الثبات على الإسلام والوفاة عليه
(1)
. كما قال تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران:102]، أي: اثبتوا على هذا الدين حتى الممات
(2)
.
وهذا هو الأرجح كما قال ابن عطية عنه: (وهو الأقوى عندي)
(3)
.
وقال القرطبي: (وهذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل)
(4)
.
2 -
أن هذا التمني من يوسف يجوز أن يكون عند الاحتضار، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عندما نزل به الموت:" اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً "
(5)
.
3 -
وقيل إن المراد: وفاة الرفعة لا توفي الموت.
قال الراغب: (وقد قيل: توفي رفعة واختصاص لا توفي موت، كما قال الله تعالى: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55])
(6)
.
وقال في موضع آخر: (وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي: اجعلني ممن استسلم لرضاك، ويجوز أن يكون معناه اجعلني سالماً عن أسر الشيطان)
(7)
.
(1)
ينظر: تفسير السمعاني 3/ 68، تفسير السعدي 4/ 60.
(2)
ينظر: تفسير السمرقندي 1/ 259، تفسير الواحدي 1/ 225.
(3)
المحرر الوجيز 2/ 283.
(4)
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 6.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم الرفيق الأعلى "(6348)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة (2444).
(6)
المفردات ص 602.
(7)
المفردات ص 270، وينظر: البرهان للزركشي 2/ 424.
4 -
أن تمني الموت جائز في شريعة يوسف عليه السلام، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء
(1)
، قال ابن عباس رضي الله عنه:(أول نبي سأل الله الموت يوسف)
(2)
.
قال ابن عطية: (وذكر كثير من المفسرين أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا})
(3)
.
ومن أضعف الأجوبة التي ذكرها العلماء في توجيه تمني يوسف للموت:
5 -
أن هذه الآية منسوخة، أشار إليه النحاس ورد هذا القول، حيث قال:(رأيت بعض المتأخرين ذكر في قوله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف:101] قال: نسخه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به .. " وهذا قول لا معنى له، ولولا أنا أردنا أن يكون كتابنا متقصياً لما ذكرناه؛ لأنه ليس معنى توفني مسلما توفني الساعة، وهذا بين جداً لا إشكال فيه، ولو صح أن قول يوسف صلى الله عليه وسلم:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أنه يريد في ذلك الوقت لما كان منسوخاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به " فإذا تمناه إنسان لغير ضر فليس بمخالف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجوز أن يتمنى الموت من له عمل صالح متخلصاً به من الكبائر)
(4)
.
وبعد التأمل في هذه الإجابات يتضح لي أن حكم تمني الموت يختلف باختلاف الأحوال، فيقال:
(1)
ينظر: جامع البيان 13/ 365، الجامع لأحكام القرآن 9/ 269، التسهيل 1/ 427.
(2)
ينظر: جامع البيان 13/ 365.
(3)
المحرر الوجيز 2/ 283.
(4)
الناسخ والمنسوخ ص 533.
أ/ تمني الموت على الإطلاق لا يجوز؛ لما فيه من الإعتراض على قضاء الله وقدره، وعليه يحمل النص الصريح في النهي.
ب/ تمني الموت لضر نزل به في الدنيا لا يجوز، لنص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن هذه الصفة.
قال ابن حجر في شرح حديث النهي عن تمني الموت: (حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان:" لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا "
(1)
على أن [في] في هذا الحديث سببية، أي: بسبب أمر من الدنيا)
(2)
.
ج/ تمني الموت لمن خاف ضياع دينه جائز، ويدخل في ذلك وقت ظهور الفتن وغلبتها
(3)
، وكذلك لمن قيده بما إذا كان الموت خيراً له، فإن هذا فيه تسليم لقضاء الله وقدره.
قال ابن عطية: (فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لضر نزل به، إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك، ويبقي تمني الموت مخافة فساد الدين مباحاً، ويدلك على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:" يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، ليس به الدين، لكن ما يرى من البلاء والفتن "
(4)
)
(5)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في باب الأدعية ذكر ما يدعو به المرء عند الشدائد والضر إذا نزل به (968) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأصله في الصحيحين.
(2)
فتح الباري 10/ 157.
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 269.
(4)
أخرجه البخاري في كاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور (7115)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
المحرر الوجيز 2/ 283.
ويدل على هذا قوله تعالى عن مريم: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم:23]، حينما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيفتنها ذلك
(1)
.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إن ربي أتاني فقال: قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون "
(2)
.
وهذا التفصيل لا بد منه في هذه المسألة؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة، وهذا أمر مطلوب، فيحمل التمني على ما جاز، وهو فيما إذا كان الموت خيراً له، ويتأكد ذلك عندما يخاف المرء على دينه، وهذا مستفاد من نص الحديث.
ومن الأمثلة التي يمكن حملها على هذا التفصيل:
- تمني يوسف للوفاة على قول من قال: إنه يريد الوقت الحاضر، فهو خير له من البقاء في الدنيا
(3)
.
- فعل جماعة من الصحابة، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:(اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط)
(4)
.
والله أعلم.
(1)
ينظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 6.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة ص (3235) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
ينظر: جامع البيان 13/ 364، المحرر الوجيز 3/ 283.
(4)
ينظر: موطأ مالك في كتاب الحدود باب ما جاء في الرجم (1506)، ومصنف عبدالرزاق في الكتاب الجامع لمعمر بن راشد باب تمني الموت (30638)، وروي مثله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 18/ 245 (616)، وينظر: مجمع الزوائد 10/ 148.