المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المائدة قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ - منهج ابن عقيل الحنبلي وأقواله في التفسير جمعا ودراسة

[راشد بن حمود الثنيان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجي وعملي في البحث:

- ‌التمهيد ترجمة موجزة لابن عقيل

- ‌أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

- ‌ثانياً: مولده:

- ‌ثالثاً: أسرته:

- ‌رابعاً: شيوخه:

- ‌خامساً: تلاميذه:

- ‌سادساً: مكانته العلمية:

- ‌سابعاً: مصنفاته:

- ‌ثامناً: ابن عقيل والمعتزلة:

- ‌تاسعاً: وفاته

- ‌القسم الأول مصادر ابن عقيل ومنهجه في التفسير

- ‌الفصل الأول مصادر ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول مصادر القرآن وعلومه:

- ‌المبحث الثاني مصادر الحديث:

- ‌المبحث الثالث مصادر الفقه:

- ‌المبحث الرابع مصادر العقيدة:

- ‌الفصل الثاني منهج ابن عقيل في التفسير

- ‌المبحث الأول تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني تقييد المطلق:

- ‌المطلب الثالث بيان المجمل:

- ‌المطلب الرابع جمع النظائر:

- ‌المبحث الثاني تفسير القرآن بالسنة

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني بيان المجمل:

- ‌المطلب الثالث الترجيح بالسنة:

- ‌المبحث الثالث تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:

- ‌المطلب الأول تخصيص العموم:

- ‌المطلب الثاني دفع موهم التناقض:

- ‌المبحث الرابع تفسير القرآن باللغة:

- ‌المطلب الأول اهتمامه بمعاني المفردات والحروف، ومرجع الضمائر:

- ‌المطلب الثاني عنايته بالشعر وأقوال العرب:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالأوجه البلاغية ولطائف التفسير:

- ‌المبحث الخامس تفسيره لآيات الأحكام

- ‌المطلب الأول مذهبه الفقهي:

- ‌المطلب الثاني نقله للإجماع:

- ‌المطلب الثالث اهتمامه بالقياس:

- ‌المطلب الرابع منهجه في الاستنباط:

- ‌الفصل الثالث علوم القرآن عند ابن عقيل

- ‌المبحث الأول الناسخ والمنسوخ:

- ‌المبحث الثاني أسباب النزول:

- ‌المبحث الثالث المحكم والمتشابه:

- ‌المبحث الرابع العام والخاص:

- ‌القسم الثاني أقوال ابن عقيل في التفسير - من أول القرآن إلى آخره - مع دراستها

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة القدر

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العصر

- ‌الخاتمة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌ ‌سورة المائدة قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ

‌سورة المائدة

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2].

45/ 1 - قال ابن عقيل: ({وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة:10]، وذلك لا يعطي عندي مذهباً في مسألتنا

(1)

؛ لأن المختلفين في هذه المسألة مجمعون على أن هذه الآيات للإباحة والإطلاقِ بحسب دلالة الإجماع اهـ)

(2)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل في كلامه إلى مسألتين مترابطتين:

المسألة الأولى: صيغة الأمر بعد الحظر، هل هي للوجوب أو غيره؟

(3)

.

اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الأمر بعد الحظر للإباحة، وإليه مال الشافعي وبعض أصحابه

(4)

والحنابلة

(5)

.

واستدلوا باستعماله في عرف الناس؛ كمن قال لغلامه: لا تدخل بيت فلان، ثم قال: ادخله. وباستعماله أيضاً في عرف الشارع كما في الآيتين اللتين معنا.

(1)

وهي: هل الأمر بعد الحظر للوجوب أو غيره؟.

(2)

الواضح 2/ 524، الجدل ص 3.

(3)

وهذا عند من قال بأن: الأصل في الأمر الوجوب.

(4)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 304.

(5)

ينظر: العدة 1/ 256.

ص: 214

القول الثاني: أن الأمر بعد الحظر للوجوب، وإليه مال عامة الحنفية

(1)

، واختاره القرطبي

(2)

، ونُسب لبعض الحنابلة

(3)

، استدلالاً بأصله وصيغته، وكذلك قوله تعالى بعد النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، والأمر هنا للوجوب.

القول الثالث: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان واجباً فواجب، وإن كان مستحباً فمستحب، وإن كان مباحاً فمباح، وهو رأي المحققين من العلماء كابن تيمية

(4)

، والزركشي

(5)

، وغيرهم

(6)

.

ودليلهم: أن هذا الحكم مبني على الاستقراء التام.

قال ابن كثير: (وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر

(7)

أنه يَرُد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحا فمباح. ومن قال: إنه على الوجوب. ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة. يرد عليه آيات أخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه)

(8)

.

وقال الشنقيطي: (وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب

) إلى أن قال: (وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية)

(9)

.

(1)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 277، أصول السرخسي 1/ 19، كشف الأسرار 1/ 120.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 6/ 44.

(3)

ينظر: القواعد لابن اللحام ص 222.

(4)

ينظر: المسودة ص 16، القواعد لابن اللحام ص 222.

(5)

ينظر: البحر المحيط 2/ 378.

(6)

ينظر: المسودة ص 16، القواعد لابن اللحام ص 222، تفسير السعدي 2/ 238.

(7)

أي: التتبع والاستقراء.

(8)

تفسير ابن كثير 3/ 1089.

(9)

أضواء البيان 1/ 257.

ص: 215

فمن أمثلة الواجب: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، كان واجباً ثم نهي عنه في الأشهر الحرم ثم أمر به فيرجع للوجوب.

ومن أمثله المستحب: قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "

(1)

، كانت الزيارة مستحبة ثم نهي عنها ثم أمر بها فترجع للاستحباب.

ومن أمثلة المباح وهو كثير: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة:2]، كان الصيد مباحاً ثم نهي عنه حال الإحرام ثم أمر به فيرجع للإباحة.

وهذا هو القول الراجح الذي يجمع بين الأقوال، ويسلم من الاعتراض، ولا حاجة للتوقف في هذه المسألة، بعد هذا الاستقراء.

ويجاب عما استدل به أصحاب القول الأول بما يلي:

أما استدلالهم بالعرف، فنقول: العرف لا يقبل هنا؛ لأن الحكم مبناه على الشرع، وإذا سلمنا بقبول العرف؛ فالعرف موافق لقولنا: بأن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه؛ فمثلاً لو قال الطبيب: لا تشرب الدواء، ثم قال: اشربه، ولو قال لغلامه: لا تنظف البيت - لعارض - ثم قال: نظفها، لرجع إلى الوجوب.

وأما استدلالهم بعرف الشارع، وذكر أمثلة له، فهو استقراء ناقص، ولا شك أن الاستقراء التام مقدم عليه.

وأما استدلال من قال: يرجع لأصله وهو الوجوب، فإنه ينتقض عليه بآيات أخر، منها الآية التي معنا

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (977) من حديث بريدة رضي الله عنه.

(2)

ينظر للاستزادة: نهاية السول 2/ 272، المعتمد 1، 82، المسودة ص 16، العدة 1/ 256، روضة الناظر 2/ 75، شرح الكوكب المنير 3/ 56، البحر المحيط للزركشي 2/ 378، المذكرة في أصول الفقه ص 192.

ص: 216

المسألة الثانية: نبه ابن عقيل إلى أن المختلفين في هذه المسألة مجمعون على أن آية المائدة والجمعة السابقتين للإباحة والإطلاق. وقد حكى الإجماع ثلة من العلماء.

قال الطبري: (القول في تأويل قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا، يعني: بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحلوه وأنتم حرم. يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده، فاصطادوا إن شئتم حينئذ؛ لأن المعنى الذي من أجله كنت حرمته عليكم في حال إحرامكم قد زال. وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل)

(1)

.

وقال ابن العربي: (وهو محمول على الإباحة اتفاقاً)

(2)

.

وقال ابن عطية: (وقوله: {فَانْتَشِرُوا} [الجمعة:10] أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر: الإباحة، وكذلك قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] أنه الإباحة في طلب المعاش، وأن ذلك مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة:2])

(3)

. وقال ابن جزي: (فالأمر هنا إباحة بإجماع)

(4)

.

ولم أجد من خالف في أن الأمر للإباحة في هاتين الآيتين من المفسرين

(5)

.

والسر في مجيء الإباحة بصيغة الأمر تأكيدُها

(6)

كي لا يبقى أدنى شبهة أو حرج في بقاء شيء من النهي الأول. والله أعلم.

(1)

جامع البيان 8/ 42.

(2)

أحكام القرآن 2/ 20.

(3)

المحرر الوجيز 5/ 309.

(4)

التسهيل 1/ 223.

(5)

ينظر: تفسير السمرقندي 1/ 390، تفسير السمعاني 2/ 8، زاد المسير 2/ 274، التفسير الكبير 11/ 103.

(6)

ينظر: التحرير والتنوير 6/ 85.

ص: 217

قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} [المائدة:3].

46/ 2 - قال ابن عقيل: ({حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ، والمراد به: إمساككم إياها، وتناولكم منها أكلاً واستعمالاً

(1)

، فعاد النهي إلى أفعالنا فيها، ومقصودِنا إلى التناول لها والانتفاع بها، الذي يدخل تحت مقدورنا، إذ لم تكن هي بأعيانها داخلة تحت مقدورنا فتحرم ذواتها علينا اهـ)

(2)

.

(1)

مثال الاستعمال: التداوي بالميتة، طلاء السفن والاستصباح بدهنها، بيعها أو بعضها، الانتفاع بها أو ببعض أجزائها، على خلاف في أكثرها، ينظر: الموسوعة الفقهية 39/ 387 وما بعدها.

(2)

الواضح 2/ 443.

ص: 218

الدراسة:

وضح ابن عقيل أن المراد بالآية تحريم أفعالنا في الميتة، وليس تحريم ذواتها، لأن تحريم الذوات لا يدخل تحت مقدورنا، وأول ما يتبادر إلى الذهن ما قاله ابن عقيل، ولم يقل أحد من المفسرين بخلافه

(1)

. وقد سبق الحديث عن مثل هذه المسألة عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية [النساء:23]

(2)

.

قال الآلوسي: ({إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173] أي: أكلها والانتفاع بها، وأضاف الحرمة إلى العين مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق بالأعيان؛ إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده، حيث جعل العين غير قابلة؛ لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل)

(3)

.

وعلى هذا فالأصل في الأكل أو الاستعمال للميتة التحريم إلا ما خصه الدليل. والله أعلم.

قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة:33].

47/ 3 - قال ابن عقيل: (واعلم أن حدودهم على الترتيب دون التخيير فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن لم يوجد منه إلا النهب نُفي عن البلاد اهـ)

(4)

.

(1)

ينظر على سبيل المثال: تفسير السمرقندي 1/ 391، الجلالين ص 26، أضواء البيان 2/ 244.

(2)

ينظر: ص 185.

(3)

روح المعاني 2/ 41.

(4)

التذكرة ص 308.

ص: 219

الدراسة:

أشار ابن عقيل في تفسير هذه الآية إلى أن عقوبة المحاربين مرتبة على حسب جنايتهم.

واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

وقبل الدخول في المسألة فقد أجمع العلماء على أن من قتل من المحاربين فإن الإمام يقتله حداً ولا يجوز العفو عنه بحال

(1)

.

القول الأول: وهو قول ابن عقيل: أنها على الترتيب على قدر جناية المحارب، وهو قول كثير من أهل العلم كالشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

، وهو قريب من قول الحنفية، على اختلاف في كيفية التفصيل

(4)

، وهو قول: ابن عباس، والنخعي، والحسن، وقتادة

(5)

.

قالوا: إن أخذ المحاربون المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخافوا الطريق نفوا من الأرض، وحجتهم: أن العقوبة يجب أن تكون على قدر الاعتداء، وأن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع، ويستدلون بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه بهذه الكيفية

(6)

.

القول الثاني: أن الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء على المحاربين حسب المصلحة، وهو قول مالك.

(1)

ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 100، دقائق التفسير 3/ 35.

(2)

ينظر: الحاوي 13/ 353، المجموع 22/ 227.

(3)

ينظر: المغني 12/ 475، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 76.

(4)

ينظر: بدائع الصنائع 9/ 367، حاشية ابن عابدين 6/ 139.

(5)

ينظر: جامع البيان 8/ 373 وما بعدها.

(6)

أخرجه البيهقي في كتاب السرقة باب قطاع الطريق 8/ 491 (17313)، ينظر: التلخيص 4/ 197، نيل الأوطار 7/ 167، وضعفه الألباني في الإرواء 8/ 92.

ص: 220

قال الشنقيطي: (وكون الإمام مخيراً بينهما مطلقاً من غير تفصيل هو مذهب مالك)

(1)

، وهو قول مجاهد، وعطاء، والضحاك

(2)

، واستحسنه النحاس

(3)

، واستظهره القرطبي

(4)

.

وحجتهم: أن حرف [أو] المذكور في آية المحاربة يفيد التخيير؛ لأن استعماله في القرآن في كل ما أوجب فرضاً بمعنى التخيير، كقوله تعالى في كفارة اليمين:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89].

وسبب الخلاف: هل حرف [أو] للتخيير، أو للتفصيل على حسب جناياتهم؟

(5)

.

والقول الراجح: أن عقوباتهم ترتب وتفصل على قدر جناياتهم؛ وذلك لأمور منها:

1 -

أن اختلاف العقوبات توجب اختلاف أسبابها، ومن قال بالتخيير سوى بينها.

2 -

أن القول بالتخيير يفضي إلى أن يعاقب من قل جرمه بأغلظ العقوبات ومن كثر جرمه بأخف العقوبات، والترتيب يمنع من هذا التناقض.

3 -

أنه بدأ بالأغلظ فالأخف، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف، ككفارة اليمين، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ، ككفارة الظهار والقتل.

4 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك

(1)

ينظر: أضواء البيان 1/ 301 - 302.

(2)

ينظر: جامع البيان 8/ 378 وما بعدها.

(3)

معاني القرآن 2/ 300.

(4)

الجامع لأحكام القرآن 6/ 152.

(5)

بداية المجتهد ص 764.

ص: 221

للجماعة "

(1)

، ومن قال بالتخيير جوز القتل في غيرها.

5 -

قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا "

(2)

، والقول بالتخيير خلاف هذا.

6 -

أما قولهم: إن [أو] في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فقد أجاب عنه الطبري بأنه:(كلام لا معنى له؛ لأن [أو] في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني)

(3)

، ومعناها هنا: التنويع والتفصيل والتقسيم

(4)

.

وهذا القول هو ما رجحه الطبري

(5)

، والشنقيطي

(6)

، وكثير من أهل العلم

(7)

.

والله تعالى أعلم.

قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة:38].

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الديات باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45](6878)، ومسلم في كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم (1676) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] وفي كم يقطع؟ (6789)، ومسلم في كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها (1684) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

جامع البيان 8/ 381، وينظر: مغني اللبيب ص 73.

(4)

ينظر: بصائر ذوي التمييز 2/ 122.

(5)

جامع البيان 8/ 381.

(6)

ينظر: أضواء البيان 1/ 301 - 302.

(7)

ينظر للاستزادة: جامع البيان 8/ 373 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص 2/ 511، الحاوي 13/ 353، أحكام القرآن لابن العربي 2/ 97، بدائع الصنائع 9/ 366، زاد المسير 2/ 204، الجامع لأحكام القرآن 6/ 99، المغني 12/ 475، أضواء البيان 1/ 303.

ص: 222

48/ 4 - قال ابن عقيل: ({وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] خُص بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كثر "

(1)

اهـ)

(2)

.

الدراسة:

بين ابن عقيل أن عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] مخصوص بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، كالحديث السابق، وقوله صلى الله عليه وسلم:" تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً "

(3)

.

وهذا هو ما عليه عامة العلماء.

قال ابن الجوزي: (وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق، وبينت السنة أن المراد به: السارق لنصاب من حرز مثله)

(4)

.

وقال ابن عطية: (فلفظ السارق في الآية عموم معناه الخصوص)

(5)

.

وقال ابن القيم: (تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص)

وذكر آيات ومنها: (عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كثر " ونظائر ذلك كثيرة)

(6)

.

(1)

أخرجه أحمد 3/ 463، وأبو داود في كتاب الحدود باب ما لا قطع فيه (4388)، والترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر (1449)، والنسائي في كتاب قطع السارق باب ما لا قطع فيه (4960)، وابن ماجة في كتاب الحدود باب لا يقطع في ثمر ولا كثر (2593) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وصححه محقق المسند، والألباني في الإرواء 8/ 72. والثمر: الرطب ما دام في رأس النخلة؛ فإذا قطع فهو التمر، والكَثَر: جُمَّار النخل، وهو شحمه الذي وسط النخل، ينظر: النهاية 1/ 221 - 4/ 152.

(2)

الواضح 2/ 96، 3/ 435.

(3)

سبق تخريجه، ينظر: ص 228.

(4)

زاد المسير 2/ 207.

(5)

المحرر الوجيز 2/ 188.

(6)

أعلام الموقعين 2/ 228.

ص: 223

وقيل: إنه يُقطع في القليل والكثير، روي عن الحسن، وهو قول داود، والخوارج

(1)

.

واستدلوا بعموم الآية، ويجاب بأن الإطلاق مقيد بالأحاديث المذكورة.

واستدلوا أيضاً: بقوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده "

(2)

، ويجاب عنه: بأن المراد: التنفير عن السرقة، وجعل ما لا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع، وأن من سرق القليل لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة الكثير فتُقطع فيه اليد

(3)

، على أنه قيل: إن المراد بالبيضة بيضة الحديد ولا شك أن لها قيمة، وكذلك الحبل فإن في الحبال ما تزيد قيمته على ثلاثة دراهم كحبال السفن

(4)

، ولكن مقام المبالغة لا يناسب ذلك

(5)

.

قال الجصاص: (وروي عن الحسن البصري أنه قال: (يقطع في درهم واحد) وهو قول شاذ، قد اتفق الفقهاء على خلافه

) إلى أن قال: (ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]؛ لما بينا أنه مجمل بما اقترن إليه من توقيف الرسول عليه السلام على اعتبار ثمن المجن، ومن اتفاق السلف على ذلك أيضاً؛ فسقط الاحتجاج بعمومه)

(6)

.

(1)

ذكره ابن قدامة في المغني 112/ 418، وابن حجر في فتح الباري 12/ 127 وأشار إلى شذوذه.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب لعن الله السارق إذا لم يسم (6783)، مسلم في كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها (1687) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ينظر: فتح الباري 12/ 97، نيل الأوطار 7/ 140.

(4)

كما فسره بهذا الأعمش وهو أحد رواة الحديث، ينظر: صحيح البخاري ص 1424.

(5)

ينظر: نيل الأوطار 7/ 140.

(6)

أحكام القرآن 2/ 520.

ص: 224

والقول الراجح هو جواز تخصيص القرآن بالسنة، وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة على تخصيص الآية بالسنة

(1)

. وتفاصيل نصاب القطع وشروطه الأخرى وأقوال العلماء قد أطال فيها أئمة الفقه وشراح الحديث مما لا يناسب التطويل به هنا

(2)

. والله تعالى أعلم.

قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة:75].

49/ 5 - قال ابن عقيل: (قال الله سبحانه في عيسى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]، وهذا مدح يقتضي النبوة، ثم قال: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، وهذا نقص في الكمال يقتضي التغذية اهـ)

(3)

.

(1)

المغني 12/ 418.

(2)

ينظر للاستزادة: جامع البيان 8/ 408، أحكام القرآن للجصاص 2/ 520، المحلى 13/ 187، بداية المجتهد ص 757 فقد أجاد في تفصيل المسألة، المغني 12/ 418، الجامع لأحكام القرآن 6/ 160، فتح الباري 12/ 127، فتح القدير 2/ 49، نيل الأوطار 7/ 137.

(3)

الفنون 2/ 480.

ص: 225

الدراسة:

بين ابن عقيل أن الوصف بالرسالة صفة مدح تقتضي النبوة، وقد وصف الله به عيسى عليه السلام، وجاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "

(1)

. وفي هذا الوصف رد على اليهود في تكذيبهم رسالته.

ثم بين أن أكله الطعام نقص في الكمال يقتضي التغذية، وفي هذا الوصف رد على النصارى الذين غلوا فيه فجعلوه إلهاً، ومعناه أن من يأكل الطعام لا يكون إلهاً يعبد.

قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} [المائدة:75] فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته، والمعنى: أنه ليس بإله، وإنما حكمه حكم من سبقه من الرسل)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171](3435)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (28).

(2)

زاد المسير 2/ 241.

ص: 226

وقال ابن تيمية: (وهذا ونحوه يتضمن اعترافه بأنه عبد الله، ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة، ولا يدعي المشاركة في الألوهية كما ادعته النصارى في المسيح، ولهذا قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة وهو كقوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "

(1)

)

(2)

.

وقال أيضاً: (فذكر سبحانه وتعالى: أنهما كانا يأكلان الطعام؛ لأن ذلك من أظهر الأدلة على أنهما مخلوقان مربوبان، إذ الخالق أحد صمد لا يأكل ولا يشرب، وذكر مريم مع المسيح لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر فعبدها كما عبد المسيح)

(3)

.

وقال ابن القيم: (وقد تضمنت هذه الحجة دليلين ببطلان إلهية المسيح وأمه:

أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب، وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يقيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهاً، إذ من لوازم الإله أن يكون غنياً.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16](3445) من حديث عمر رضي الله عنه، وتفرد به البخاري عن مسلم، ينظر: المعجم المفهرس 3/ 543.

(2)

الجواب الصحيح 3/ 158.

(3)

الجواب الصحيح 4/ 255، وينظر: مجموع الفتاوى 3/ 86.

ص: 227

الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه، بل يستحي من التصريح بذكرها، ولهذا والله أعلم كنى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة، فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ صاحبة وولداً من هذا الجنس،

ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون من جنسٍ لا يأكل ولا يشرب، ولا يكون منه الفضلات المستقذرة التي يستحي منها ويرغب عن ذكرها)

(1)

.

وهذا هو ما عليه عامة المفسرين

(2)

. والله تعالى أعلم.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة:90].

50/ 6 - قال ابن عقيل: ({إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة:90]، ثم علل سبحانه التحريم بقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة:91] فكل شراب أسكر، وصد عن ذكر الله، وأوقع العداوة والبغضاء فهو حرام ويجب الحد لشربه، ويسمى خمراً؛ لأن الخمر ما غطى العقل اهـ)

(3)

.

الدراسة:

في كلام ابن عقيل أربع مسائل:

(1)

الصواعق المرسلة 2/ 482، بدائع التفسير 2/ 117.

(2)

ينظر: جامع البيان 8/ 582، تفسير السمرقندي 1/ 432، تفسير السمعاني 2/ 55، معالم التنزيل 2/ 45، تفسير ابن كثير 3/ 1211، تفسير السعدي 2/ 326.

(3)

التذكرة ص 308.

ص: 228

المسألة الأولى:

أن الله ذكر سبب تحريم الخمر والميسر في الآية التالية؛ ليكون أدعى للقبول، ومما ذكر من المفاسد: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا من بيان القرآن بالقرآن

(1)

. أضف إلى ذلك ما أكد الله به تحريمه من الأمر باجتنابه، وترتب الفلاح عليه، وأنه رجس من عمل الشيطان، فهل أنتم منتهون بعد سماع هذه الصوارف، وأمر بالآية التالية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تولوا فما على الرسول إلا البلاغ المبين، وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف هذا التكليف

(2)

.

المسألة الثانية:

أن كل شراب أسكر وصد عن ذكر الله وأوقع العداوة والبغضاء فهو حرام، وهذا بين وواضح؛ لأن الله جل وعلا ذكر العلة في التحريم؛ فإذا وجدت هذه العلة وجد التحريم، وقد بينت السنة ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" كل شراب أسكر فهو حرام "

(3)

.

قال الجصاص: (فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه، أحدها: قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، وذلك لا يصح إطلاقه إلا فيما كان محظوراً محرماً، ثم أكده بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، وذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه، ثم قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:91]، ومعناه: فانتهوا)

(4)

.

(1)

ينظر: أضواء البيان 2/ 166، تفسير السعدي 1/ 243.

(2)

ينظر: التفسير الكبير 12/ 68.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأشربة باب الخمر من العسل وهو البِتع (5585)، ومسلم في كتاب الأشربة باب بيان أن كل ما أسكر خمر وأن كل خمر حرام (2001) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

أحكام القرآن 1/ 391، 2/ 577.

ص: 229

وقد أجمعت الأمة على تحريم الخمر

(1)

.

المسألة الثالثة:

أنه يجب الحد على من شرب الخمر.

أما حد شارب الخمر فقد ثبت في السنة بأحاديث كثيرة، منها ما روي عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر " فجلده بجريدتين نحو أربعين ". قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر

(2)

.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: " كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين "

(3)

.

وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر، ثم اختلفوا في مقداره ما بين أربعين أو ثمانين، والجمهور على القول بالثمانين

(4)

.

المسألة الرابعة:

أن الخمر ما غطى العقل، وهذا هو الأصل في معناها بدليل أن كل الاشتقاقات تعود إلى التغطية.

قال ابن فارس: (الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية، والمخالطة في ستر)

(5)

.

(1)

ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 99، التمهيد 15/ 10، الحاوي 13/ 376، بداية المجتهد ص 755، المغني 12/ 493.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الحدود باب حد الخمر (1706).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب الضرب بالجريد والنعال (6779).

(4)

ينظر: التمهيد 23/ 411، بدائع الصنائع 9/ 213، الحاوي 13/ 412، بداية المجتهد ص 755، المغني 12/ 497.

(5)

معجم مقاييس اللغة 2/ 215.

ص: 230

وقال الرازي: (من الدلائل على أن كل مسكر خمر: التمسك بالاشتقاقات، قال أهل اللغة: أصل هذا الحرف التغطية، سمي الخمار خماراً لأنه يغطي رأس المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره من وهدة

(1)

وأكمة، وخمرت رأس الإناء، أي: غطيته، والخامر: هو الذي يكتم شهادته)

(2)

. والله أعلم.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} [المائدة:95].

51/ 7 - قال ابن عقيل في قوله تعالى: ({وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] كان تقييده بالعمد مقيّداً للحكم بالتقييد، ونافياً له عما عدم فيه التقييد، وهو صفة العمد اهـ)

(3)

.

الدراسة:

أشار ابن عقيل إلى مسألتين:

المسألة الأولى:

ذكر قاعدة في المقيد وهي: وجوب تقييد اللفظ بالوصف المذكور في الآية وهو العمد، وأقول هذه القاعدة تحتاج إلى ضابط وليست على إطلاقها وهو أن يقال: ما لم يدل دليل على عدم اعتبار القيد.

(1)

الوهدة: الهوة تكون في الأرض، ينظر: لسان العرب 3/ 471.

(2)

التفسير الكبير 6/ 37.

(3)

الواضح 3/ 272.

ص: 231

فيكون سبك القاعدة: (وجوب العمل بالقيد إلا أن يدل دليل على عدم اعتباره)

(1)

.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قيد معتبر، مثل قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، فالجزاء المذكور في الآية مقيد فيمن تعمد القتل كما ذكر العلماء، وإنما خلافهم في صفة هذا العمد

(2)

.

2 -

قيد غير معتبر، مثل قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، فالقيد الأول غير معتبر فتحرم الربيبة ولو لم تكن في الحجر

(3)

، والثاني معتبر، فلا تحرم إلا بالدخول بالأم، والذي دل على إلغاء القيد الأول بقية الآية حيث قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فنفى مفهوم القيد الثاني، والأول خرج مخرج الغالب.

3 -

قيد مختلف فيه، وهي:

المسألة الثانية:

هل جزاء الصيد في الإحرام خاص بالمتعمد؟.

اختلف أهل العلم في جزاء الصيد، هل يلزم الناسي؟ أم هو مقيد بالمتعمد فقط؟.

على أقوال منها:

(1)

ينظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن ص 76.

(2)

ينظر: جامع البيان 7/ 336، الجامع لأحكام القرآن 5/ 211.

(3)

قال القرطبي: (وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر؛ فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها) ينظر: الجامع لأحكام القرآن 5/ 74.

ص: 232

القول الأول: أن الجزاء خاص بالمتعمد فقط، وذلك لتقييده بالمتعمد في الآية، مما يدل على أن غيره بخلافه؛ ولأن الأصل براءة الذمة، روي هذا عن طاووس

(1)

، وسعيد بن جبير

(2)

، وبه قال الطبري

(3)

، وأحمد في رواية، وهو قول داود

(4)

، وهو قول ابن عقيل، واستغربه ابن كثير

(5)

.

القول الثاني: أن الجزاء خاص بالناسي لإحرامه فقط، وأما الذاكر للإحرام فأمره إلى الله؛ لأن فعله أعظم من أن يكفر، روي هذا القول عن مجاهد، والحسن

(6)

.

قال ابن قدامة: (ولا نعلم أحداً خالف في الجزاء في قتل الصيد متعمداً، إلا الحسن ومجاهداً)

(7)

.

واستدل مجاهد بقوله: (فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له؛ لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه، كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها. ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه)

(8)

.

(1)

هو طاووس بن كيسان أبو عبدالرحمن اليماني، من كبار التابعين أدرك خمسين صحابياً، مات سنة 106 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 5/ 38، طبقات الأدنه وي ص 12.

(2)

ينظر: جامع البيان 8/ 677، هو سعيد بن جبير هشام أبو عبدالله الأسدي الفقيه المحدث المفسر، جهبذ علماء التابعين، قتله الحجاج سنة 95 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 4/ 321، طبقات الداوودي 1/ 188.

(3)

جامع البيان 8/ 679.

(4)

ينظر: المغني 5/ 397.

(5)

ينظر: تفسير ابن كثير 3/ 1240.

(6)

ينظر: جامع البيان 8/ 674، المحرر الوجيز 2/ 237.

(7)

المغني 5/ 395.

(8)

الجامع لأحكام القرآن 6/ 199.

ص: 233

القول الثالث: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، روي عن ابن عباس رضي الله عنه وعطاء، وهو قول الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، ورواية عن الحنابلة

(4)

.

قال الزهري: (وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة)

(5)

.

وقال ابن كثير: (والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه

) ثم قال: (لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ملوم)

(6)

.

قال ابن بطال

(7)

: (اتفق أئمة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم على أن المحرم إذا قتل الصيد عمداً أو خطأً، فعليه الجزاء)

(8)

.

والراجح قول الجمهور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الجزاء ولم يفرق بين المتعمد والناسي، فعن جابر رضي الله عنه قال:" جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشاً "

(9)

ولم يفرق بين العامد وغيره

(10)

.

(1)

ينظر: شرح فتح القدير 3/ 64.

(2)

ينظر: بداية المجتهد ص 295.

(3)

ينظر: المجموع 7/ 316.

(4)

ينظر: المغني 5/ 396.

(5)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن 6/ 198.

(6)

تفسير ابن كثير 3/ 1240، وينظر: المجموع 7/ 316.

(7)

هو أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي، شارح صحيح البخاري، مات سنة 449 هـ، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 18/ 47، شذرات الذهب 3/ 283.

(8)

ينظر: فتح الباري 4/ 21.

(9)

أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل الضبع (3801)، وابن ماجة في كتاب المناسك باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (3085)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/ 623، وصححه ابن خزيمة 4/ 182، وابن حبان 9/ 277، والألباني في الإرواء 4/ 242.

(10)

ينظر: معاني القرآن للنحاس 2/ 360.

ص: 234

وقوله تعالى: {مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] يحتمل المتعمد الصيد الذاكر للإحرام، ويحتمل أيضاً المتعمد الصيد الناسي للإحرام، والواجب عدم التفريق بينهما، فيحمل على عموم العمد.

ومما يؤيد هذا القول: أن القتل إتلاف، والإتلاف يضمن عمده وخطؤه؛ فيستدل به على أن التعمد ليس بشرط

(1)

.

ومن فوائد التقييد به: أن المتعمد إنما ذكر ليُعَلَّقَ به الوعيد في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95] إذ لا وعيد على الناسي

(2)

.

وقال الزركشي: (فإن قيل: فما فائدة التقييد في هذا القسم إذا كان المسكوت عنه مثله، وهلا حُذفت الصفة واقتصر على قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} [المائدة:95]؟. قلنا: لتخصيص الشيء بالذكر فوائد منها: اختصاصه في جنسه بشيء لا يشركه فيه غيره من جملة الجنس كما في هذه الآية)

(3)

.

ويجاب على دليل مجاهد بما يلي:

1 -

أنه خلاف النص؛ فالذاكر لإحرامه متعمد، وفي سياق الآية:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] والمخطئ والناسي لا إثم عليهما

(4)

.

2 -

قال القرطبي: (ودليلنا على مجاهد: أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكراً للإحرام أو ناسياً له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان)

(5)

.

(1)

ينظر: البرهان 2/ 22، المغني 5/ 397.

(2)

التسهيل 1/ 250.

(3)

البرهان 2/ 22، يوضح هذا مثلاً: أننا لو نظرنا إلى قصة سبب النزول لإحدى الآيات لرأينا أن لها اختصاصاً وأولوية في لفظ الآية ومعناها، مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(4)

ينظر: المغني 5/ 395.

(5)

الجامع لأحكام القرآن 6/ 199.

ص: 235

ويجاب عن القول الأول: بأن السنة لم تفرق بين العمد والخطأ؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه ولهذا قال بعض العلماء: وجب الجزاء في العمد بالقرآن وفي الخطأ والنسيان بالسنة

(1)

. والله أعلم.

قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)} [المائدة:107].

52/ 8 - قال ابن عقيل: ({الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة:107]، أي: استحق منهم اهـ)

(2)

.

الدراسة:

اختلف العلماء في تفسير {عَلَيْهِمُ} [المائدة:107] على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن [على] بمعنى [من]، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)} [المطففين:2]، أي: من الناس، وهذا هو قول ابن قتيبة

(3)

(4)

، والسمرقندي

(5)

، وهو اختيار ابن عقيل، وابن الجوزي

(6)

، والزركشي

(7)

.

(1)

ينظر للاستزادة: المحرر الوجيز 2/ 237، الجامع لأحكام القرآن 6/ 198، زاد المسير 2/ 255، تفسير ابن كثير 3/ 1240، فتح القدير 1/ 97.

(2)

الواضح 1/ 122.

(3)

هو أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، النحوي اللغوي، صنف غريب القرآن، وتأويل مشكل القرآن، مات سنة 276 هـ وقيل غيرها، له ترجمة في: سير أعلام النبلاء 13/ 296، طبقات الداوودي 1/ 251.

(4)

ينظر: زاد المسير 2/ 273.

(5)

تفسير السمرقندي 1/ 448.

(6)

تذكرة الأريب 2/ 278.

(7)

البرهان 4/ 285.

ص: 236

القول الثاني: أن [على] بمعنى [في]، كما في قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102]، أي: في ملك سليمان، وهو قول الفراء

(1)

، والطبري

(2)

، وقال:(فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق فيهم الإثم، ثم حذف الإثم وأقيم مقامه الأوليان؛ لأنهما هما الذان ظلما وأثما فيهما، بما كان من خيانة الذين استحقا الإثم)

(3)

.

القول الثالث: أن [على] على بابها، قالوا: بقاء على الأصل، وهذا هو قول الأخفش

(4)

، والزجاج

(5)

، والنحاس حيث قال:(والمعنى: من الذين اسْتَحَقَّ عليهم الإيصاء)

(6)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة:107]، يحتمل أن يكون مضمناً معنى بغى عليهم، وعدى عليهم، كما يقال في الغصب: غصبت علي مالي، ولهذا قيل: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة:107]، أي: كما اعتدوا)

(7)

.

وقد قال بعض العلماء عن هذه الآية: إنها أعضل ما في هذه السورة من الأحكام

(8)

.

قال الزجاج: (وهذا موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب)

(9)

.

(1)

معاني القرآن 1/ 324.

(2)

جامع البيان 9/ 101.

(3)

جامع البيان 9/ 98.

(4)

معاني القرآن 1/ 266.

(5)

معاني القرآن وإعرابه 2/ 217.

(6)

معاني القرآن 2/ 380.

(7)

مجموع الفتاوى 14/ 485، وهو قول قوي جداً ومع ذلك لم يجزم به!.

(8)

ينظر: كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في إعراب القرآن وعلل القراءات للباقولي 1/ 418، الجامع لأحكام القرآن 6/ 231.

(9)

معاني القرآن وإعرابه 2/ 216.

ص: 237

وقال مكي: (وهذه الآية في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آية في القرآن وأشكلِها، ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر)

(1)

.

والذي ترجح عندي هنا أن [على] على معناها الأصلي، على جميع التقديرات، والمعنى الصحيح لهذه الآية: فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم اليمين، والأوليان: مثنى أَوْلى، وإعرابها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هما الأوليان

(2)

.

وسبب الترجيح:

ما جاء في سبب النزول:

(1)

الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/ 420.

(2)

ينظر في هذه المسألة: الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/ 412، معاني القراءات ص 146، تفسير السمعاني 2/ 76، إملاء ما من به الرحمن 1/ 230، التبيان في إعراب القرآن 1/ 469، كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في إعراب القرآن وعلل القراءات للباقولي 1/ 418، زاد المسير 2/ 272، الجامع لأحكام القرآن 6/ 231.

ص: 238

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بدَّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً

(1)

من فضة مُخَوّصاً

(2)

من ذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وُجد الجام بمكة، فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفا:{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107]، وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106])

(3)

.

قال شيخ الإسلام: (معرفة سبب نزول القرآن، يعين على فهم الآية)

(4)

.

ومن قواعد الترجيح عند المفسرين: قاعدة (إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير)

(5)

. والله أعلم.

(1)

الجام: الإناء من فضة، ينظر: لسان العرب 12/ 112.

(2)

مخَوّصاً: أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل، ينظر: لسان العرب 7/ 33.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الوصايا باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة:106] إلى قوله: {الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة:108](2780)، وينظر: أسباب النزول للواحدي ص 172، لباب النقول ص 125.

(4)

مقدمة التفسير ص 45.

(5)

ينظر: قواعد الترجيح عند المفسرين 1/ 241.

ص: 239